من المسؤول عن خراب الدولة في سورية والمشرق العربي (2)

[بقلم د. برهان غليون]

الدولة في بيئة إقليمية بركانية

لا تطرح مشكلة السيادة هذه على الأقطار العربية، أو المشرقية، ولكنها تشكل مشكلة عالمية تتعلق بنظام العلاقات الدولية وموقع البلدان المستعمرة سابقا في نظام الهيمنة الدولية. لكنها سوف تتخذ شكلا دراماتيكيا في المشرق العربي بشكل خاص، بعد إعلان إسرائيل عام 1948 دولة يهودية، وتبنّيها سياساتٍ عنصرية تقضي بتهجير السكان الأصليين، وإحلال مهاجرين يهود مكانهم، وبسبب تبنّي الدول المركزية خيار الدعم غير المشروط للطعم الاستيطاني، ومدّه بوسائل التقدم العسكري والتقني وضمان تفوق إسرائيل الاستراتيجي الدائم على جميع الدول العربية، مجتمعةً ومنفردة.

لقد شكل عمل توطين إسرائيل في الشروط التي فرضتها القوى الغربية بمثابة معول جيوسياسي، لتقويض البناء القائم للعلاقات الدولية في المنطقة، وفتحها على الفوضى والخراب، وذلك بزجّ المنطقة بأكملها في قلب الصراعات الجيوستراتيجية الدولية، والقضاء على أي أمل باستعادة السيادة، أو ترميمها في مجموعة الدول المشرقية. ونجم عن ذلك توطين الحرب في المشرق، بطريقةٍ لا أمل في الخروج منها، وتلغيم العلاقات العربية الغربية التي ليست الإسلاموفوبيا المتنامية في الغرب اليوم إلا أثرا حديثا من آثارها. وهي لا حافز لها سوى تكريس التمييز ضد العرب، وتبرير نظم التبعية والديكتاتورية في أقطارهم، وحرمان قضاياهم من تعاطف المجتمع الغربي والدولي أيضا.

وبالمثل، أجهز إصرار إسرائيل على رفض أي نوعٍ من التسوية للقضية الفلسطينية على أي أمل في حفظ ماء وجه الحكومات العربية، وقضى على آخر ما تبقّى من رصيد سياسي ومعنوي وأخلاقي لمشروع التحرّر العربي، وأعاد عقارب الساعة إلى الوراء، حتى بدا وكأن التوسع الاستيطاني ليس سوى عودة مظفرة، في شكل أكثر عنفا وإذلالا، للاستعمار الغليظ، وانتقاما من حلم النهضة العربية. ولكن سياسة الحرب الدائمة التي زجت مشروع الدولة اليهودية المرتبطة عضويا بالغرب، والممدّدة للحقبة الاستعمارية الفظة، لم تعطّل مسيرة التطور السياسي للدولة فقط، ولكنها قوّضت أيضا منظومة العلاقات الإقليمية.

هكذا بعكس ما كان متوقعا، بدل أن تتجه المنطقة المشرقية نحو الاستقرار وتطوير علاقات التعاون فيما بينها، والانكباب على مشكلات التنمية الحضارية، دخلت في مواجهاتٍ وجوديةٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة. وتقهقرت نوعية العلاقات بين دول الإقليم باضطراد، بدل أن تتحسّن، مع تزايد التحدّيات والاختلال في موازين القوى، والفشل في حسم الحروب المتكرّرة. وانقلبت مسيرة الوحدة العربية الموعودة لإرساء قاعدة التنمية والاستقلال السياسي والحدّ من النفوذ والتدخلات الأجنبية إلى حروبٍ وعداواتٍ متبادلة، شقّت النخب والجماهير بين قوميين وقُطريين ومعادين للغرب ومتحالفين معه وأعداء لإسرائيل ومتواطئين معها. ولأول مرّة، تتحوّل وحدة الثقافة والانتماء القومي إلى مصدر فرقة وعداء. وبدل أن تكون عامل تحفيز للتفاهم والتعاون بين الشعوب، أصبحت مع الصراع على الزعامة العربية بين القادة والرؤساء المفتقرين للشرعية سببا في تعميق الانقسام والشقاق. حتى صار شعار العروبة موضع سخريةٍ واستهزاء من النخب الاجتماعية ذاتها التي استخدمت شعارها للاستيلاء على السلطة، وتبرير القمع والنظم الفاشية. بينما أظهرت الدولة في الأقطار التي كانت أكثر بعدا عن بؤرة المواجهات المتعلقة بالمسألة الإسرائيلية، وانعكاساتها على علاقاتها مع الدول الغربية، قدرة أكبر على السيطرة على مصيرها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وتطوّر ممارستها السياسية ومؤسساتها.

لقد دلت التجربة على أن النخب السياسية التي تستمدّ قوتها من دعم الدول الأجنبية وحمايتها لا تملك أي مصلحةٍ في إقامة سلطةٍ شرعيةٍ مستمدةٍ من تأييد مواطنيها، واحترام حقوقهم وحرياتهم ومصالحهم الأساسية. كما أن النخب التي لا يهمها مستقبل مجتمعاتها ومصيرها لا تملك أي حافزٍ يحثها على التضحية ببعض صلاحياتها لبناء إطار للتعاون مع أقرانها. إنها تنزع بالعكس إلى الاستثمار في النزاعات الإقليمية والمشاحنات البينية للتغطية على افتقار نظمها للشرعية وتبرير السلطة الأمنية/ القمعية وإلغاء الحياة السياسية. وهذا ما يفسّر سيطرة منطق التناحر وسياسة المحاور والمزايدات والمؤامرات الذي حكم منذ عقود طويلة العلاقات بين الأقطار المشرقية، ومنعها من أي تعاون مثمر بوحدة سياسية أو من دونها. فإلى هذه البيئة الجيوسياسية المليئة بالتحديات والتهديدات، والمحكومة بالنزاعات والتدخلات المتقاطعة الإقليمية والدولية، أي المقوضة لأي أمل في السيادة، يرجع السبب الأول في عقم الدولة المشرقية، وتدهور شروط إنتاجها، سواء في بنيتها المؤسسية أو في نوعية علاقاتها وتفاعلها مع شعوبها. وبالتالي، في إمكانية الارتقاء بشروط حياتهم المادية والقانونية والسياسية والثقافية، فلا وجود لشعبٍ حرٍّ من دون دولة سيدة . ولا أمل لدولةٍ في انتزاع حدّ أدنى من هامش السيادة، ما دامت خاضعةً لإرادة أخرى غير إرادة شعبها أو ما دام قرارها مقيدا بشروطٍ خارجية. واستمرار هذه البيئة وتفاقم حالة النزاع والحرب المتعدّدة الاقطاب والمجالات، وما تجره من قطيعة بين الشعوب وحاكميها، ربما تفسر أكثر بكثير من تقاليد الشعوب وتاريخها الازدهار الكبير لنظم الحكم الاستثنائية في هذه المنطقة المشتعلة منذ أكثر من قرن. وفيما وراء ذلك إخفاق دولها في التوصل إلى آي آليةٍ لتشكيل جماعةٍ مشرقيةٍ متعاونة ومتضامنة، كما حصل في أوروبا وغيرها، سواء أكان ذلك في إطار الفكرة العربية أو الفكرة الإقليمية المتجاوزة لها، من جهة أخرى.

وهذا ما يبرزه غياب أي اتفاقاتٍ أو معاهداتٍ جماعية إقليمية تضمن لدولها الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، وتزيل، ولو جزئيا، الآثار السلبية للاتفاقات الاستعمارية القديمة، والفراغ القانوني الكبير السائد فيها. وكذلك الافتقار إلى اليوم لأي إطار للتشاور والحوار بين دول الإقليم، على الرغم من الإرث الحضاري المشترك، ومواجهتها جميعا تحدّي الضغوط الاستعمارية والهيمنة الأجنبية. وهذا ينطبق على جامعة الدول العربية التي تكاد تفقد سبب وجودها، لافتقارها لأي “أجندة” للعمل بعد أكثر من سبعين عاما على نشوئها، وشللها الدائم نتيجة تحييد الأعضاء بعضهم بعضا فيها.

كما تبرزه حدّة الخلافات والنزاعات التي تعصف بأمن المنطقة واستقرارها، وميل الدول القوية إلى التوسّع على حساب جيرانها، والسعي إلى ضمها أو السيطرة على قرارها. ومن هنا التنافس المحموم على التسلح والتركيز الهوسي على المسائل الأمنية بكل فروعها، حتى صار الشرق الأوسط من أكبر أسواق استيراد السلاح واستثمارا في الجيوش والمليشيات وقوى الأمن وأجهزة المخابرات، وكل ما يمتّ بصلة للمواجهات العسكرية والأمنية على حد سواء. ومع ذلك، وهنا المفارقة، بدل أن تضمن هذه السياسات الأمن والاستقرار المنشودين، تدفع بالعكس إلى تزايد التهديدات والمخاطر، سواء ما تعلق منها بحركات التمرّد والاحتجاج والتطرّف الداخلية أو الحروب الإقليمية. وهي اليوم نزاعاتٌ متداخلة، لا ينفصل فيها النزاع الأهلي عن النزاع الإقليمي أو الدولي الخارجي.

في هذه البيئة، نمت وترعرعت الدولة المجهضة والنخب السياسية المستهترة بمصالح شعوبها. وإليها ترجع أيضا كثير من الخيارات الاستراتيجية السيئة والإخفاقات والمشكلات المعلقة التي لا تملك النظم الراهنة أي إجابات عنها، وفي مقدمها عواقب فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتأخر الكبير في استيعاب التجديدات التقنية والعلمية، والارتفاع الخطير في معدّلات الفقر والبطالة، والنزوح والهجرة، والتدهور الخطير في المناخ الاجتماعي، وفي ثقة الأجيال الشابة بالمستقبل. فكما انه لا حرية لشعب من دون دولة سيدة تضمن شروط ممارسته حققه وحرية قراره كذلك لا شرعية لسلطة لا تحترم حرية شعبها وإرادته.

وإليها يرجع أيضا الانفجار الكبير الذي شهدته المنطقة في العقد الثاني من هذا القرن، والذي لم تخمد نيران بركانه، ولن تخمد إلى زمن طويل، فلم تكن ثورات الربيع العربي الرد الشعبي على تفاقم الضغوط الداخلية والخارجية وتقاطع نتائجها ومفاعيلها بشكل غير مسبوق فحسب، وإنما كانت أكبر هجوم قامت به هذه الشعوب منذ زمن طويل لإسقاط جدار الفصل العنصري الخفي الذي أقامته النخب والأوليغارشيات الحاكمة، لعزل الجمهور وحماية نفسها من ثوراته وانتقامه المنتظر.

لا يعني ذلك أن البيئة الجيوسياسية هي التي تتحكم في تحديد مصير الدولة والسياسة عامة، ففي حالاتٍ كثيرة، قد يكون العامل الحاسم دعوة دينية أو سياسية قوية، تنجح في بناء قوى استراتيجية، تقوم هي نفسها بتغيير الخريطة الجيوسياسية الإقليمية. وأبرز مثال على ذلك الفتوحات الإسلامية التي لا تختلف كثيرا عن الفتوحات الإمبراطورية عموما، ومنها الإمبراطورية السوفييتية البائدة. كما لا يعني أن الدولة ليست مشاركةً في تشكيل هذه البيئة، وليست مسؤولة عنها أو عن جزء كبير من خرابها. ينبغي النظر إلى العلاقة بين الدولة العقيم والبيئة الإقليمية النزاعية وغير المستقرّة، بصرف النظر عن الأسباب، بوصفها علاقةً جدليةً ومتبادلة، ففشل الدولة، في تفاعلها مع شعبها وفي تحمل مسؤولياتها، في رعاية مصالحه وحقوقه، والارتقاء بشروط حياته، يعزّز فرص تدهور البيئة الإقليمية والعلاقات الدولية، بمثل ما يدفع هذا التدهور النخب الحاكمة إلى مصادرة الدولة لحسابها الخاص، واجتياح المجال السياسي والقطيعة مع شعبها. لكن هذا لا يمنع أنه فيما يتعلق بحالة المشرق، خصوصا، تلعب الجغرافيا السياسية التي احتفظت، إلى حد كبير، ببنية العلاقات الاستعمارية، والتي لا يزال إنجاح مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين يمثل محور السياسة الغربية فيها، من دون أي أفق لتسوية ممكنة، دورا حاسما في تقويض سيادة دول المنطقة وإفراغها من مضمونها، أي من قدرتها على بناء جماعةٍ وطنيةٍ مستقرةٍ ومتضامنة، وعلاقات سلام إيجابية فيما بينها.

لذلك، ما لم تُبذل جهود دولية جدية لتغيير البيئة الإقليمية، ووضع حد للحروب الداخلية والإقليمية المتفجرة التي تدفع، بشكل متزايد، إلى انهيار الدول وتفكيكها إلى إمارات حربٍ تتحكّم بها مليشيات أهلية، وأحيانا تتحوّل فيها السلطة المركزية ذاتها إلى ما يشبه الإمارة الحربية، سيكون من الصعب استعادة الدولة، بما تعنيه من سلطةٍ سيدةٍ ومرجعيةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ وإحياء السياسة كمشاركة في الحياة العمومية، كما هي مطروحة في معايير العصر وقيمه المدنية والأخلاقية. لكن لن يكون لهذه الجهود نتيجة واضحة، ما لم تدرك النخب الاجتماعية المحلية دورها في وضع هذا المشروع الضخم على مساره الصحيح، ومسؤولياتها في الأخذ بيد الشعوب، والاهتمام بمصيرها ومساعدتها في تنظيم قواها والارتقاء بوعيها، لتتمكّن هي نفسها من استعادة ملكيتها الدولة، وبناء سلطةٍ تستجيب لمطالبها وتطلعاتها. من دون ذلك، ستبقى الدولة غنيمةً تنتظر الأعنف والأشرس والأخبث من بين القوى المتصارعة والمتنافسة في الداخل والخارج على انتزاعها وجعلها ملكيته الخاصة ومزرعته، كما هو الحال اليوم في معظم إمارات المشرق الجديدة والقديمة. عندئذ، لا يبقى للإنسان إلا الخيار بين الموت في العبودية أو الشهادة في ثورات الحرية التي لا تكاد تنتهي، حتى تبدأ من جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.