[بقلم د. سماح هدايا]
ماذا لو توقّفَ المناضلون عن خوضِ معركتِهم للدّفاعِ عن الحرية؟
حتماً ستكونُ الخسارةُ فادحةً، سيخسرون الحريةَ وسيدفعون ثمنَ الهزيمةِ.
بناءُ الغدِ هو الذي يجب أن يشغلَ عقلَ الذين يناضلون للحريةِ أينما وأنّى كانوا، لا رعبُ الحربِ واليأسُ من النّصرِ. فمنذ اللحظةِ الأولى لمسيرِ الحريّةِ، يتطلبُ الخيارُ الصّعبُ تصوّراً بعيدَ المدى لقسوةِ الصّراعِ، وإيماناً عميقاً بالمبدأ، وقراراً ثابتاً لا رجوعَ فيه، وإلا فالخسارةُ ستكونُ هائلةً؛ حاضراً ومستقبلاً.
الحريةُ بكلّ ما يندرجُ تحتَها من الحريّاتِ الفرديّةِ والمجتمعيّةِ والوطنيّةِ تستأهلُ النّضالَ والتّضحيات، وتستوجبُ النضجَ الفكريَّ؛ فمصيرُ الإنسانِ الكريمِ منوطٌ بها، وهي أساسُ بناءُ المجتمعاتِ والدولِ الناجحةِ. ويشهدُ التاريخُ أنّ للحربِ محلٌّ واسعٌ في ساحةِ أحداثِه، لكنّ مآسيها لم تمنعْ الناسَ من استمرارِ الصّراعِ والاقتتال مقاومةً أو اعتداءً. وأيّ نضالٍ تحرّريّ يقابله تعسّفٌ وإراقةُ دمٍ وتضحيات، وربما حربٌ طاحنةٌ لا مفرّ من خوضِها، سواء مع سلطانٍ ظالمٍ أو غازٍ معتد. الخروجُ من الحربِ من دونِ استكمالِ المعركةِ وتحصيلِ الحقوقِ ونيلِ الحرياتِ فشلٌ ذريعٌ يقود إلى الهوانِ وربّما إلى الهلاكِ واندثارِ الذاتِ وضياعِ الهدف؛ فالعدوُّ لا يعرفُ لغةَ الرحمة. وما حصلَ في الحربِ على الشّعب السّوريّ الثائرِ لحريتِه وخداعِه باتفاقاتِ التّسويةِ والمصالحاتِ وحافلات التهجيرِ والتّشتيتِ، ثمّ الغدرِ بالقتلِ والاعتقالِ والخطفِ شاهدٌ على هذه النتائجِ الكارثيّةِ للانسحاب من المعركةِ بعد التورّطِ فيها وتوريطِ الآخرين.
حرب ضدّ الإنسانِ
لكنْ، يجب ألا تصيبنَا الحروبُ وخسائرُها بانتكاسةٍ نفسيّةٍ ويلتهمنا الخرابُ واليأسُ؛ فالأكيدُ أنّ لدى ضميرنا الشعبيّ وأرضنِا قوّةً جبّارة، جعلتْ الجيوشَ والمليشيات وحكوماتِ دولٍ كبرى ومجاورةٍ تشنّ الحروبَ لكي تسيطرَ عليها أو تحتّلَّها. والأكيدُ أنّ الحربَ الاستعماريّةَ لا تقتصرُ على منطقتِنا وشعوبِنا، فهي تتحرّك بقوّة لتداهمَ شعوبَ العالمِ كلِّه لاحتكار الثرواتِ والنفوذِ، ولن تترك أحداً بمنأى عن مآسيها، وأصبحتْ تتّخذُ أشكالاً مختلفةً لكي تتحكمَ بتفاصيل الجغرافيا المكانية والإنسانية للبلاد والعباد..
لا يمكنُ النّظرُ لأيّ حربٍ خارجَ طغيانِ الحربِ الاستعباديّةِ وطغيانِ الحكمِ الاستبداديّ واضطهادِ الحريّات والحقوق. ويبدو أنّ حرباً تتشّكل في العمق الاستعماريّ لتتسعَ ضدّ الإنسانِ العاديّ في كلِّ مكان في العالمِ، بغضّ النّظر عن عرقِه أو معتقدِه، مُسوَّغةً بقرارات المؤسسات الدّوليّة وشرعيتها التي اتّضح أنّها شرعيّةُ القوّةِ والنّهبِ التي توجّهها، تحكمُ بالقوةِ والنفاقِ والفسادِ والإفسادِ لصالحِ فئةٍ من الأنظمةِ والجماعاتِ العابرةٍ للشعوب والمسيطرةِ على اقتصادِ العالم تشعلُ حروبَه وتدمّرُ مناخَه وبيئتَه.. أما مقولاتُ الغربِ في العدالةِ الدّوليةِ والدّفاع ِعن حقوقِ الإنسانِ وحريّاتِه، فهي ادّعاءات لأنّ السّياسةَ والاقتصادَ في تجاربِهم معادلاتٌ لا علاقة لها بالأخلاق وبالخير، مصالحٌ فئويّةٌ وانتفاعٌ، ولا مشكلةَ في دعمِ أنظمةِ الاستبدادِ والطغيانِ وشنِّ الحروبِ ضدّ الأممِ والشعوبِ الأخرى مادام في ذلك تحقيقُ مكاسبِها ومصالحِها، ولا مشكلةَ في النّفاقِ؛ بادّعاءِ الديمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسان، ودعمِ المِشاريعِ التّدميريّة تحتَ مظلةِ التّنويرِ وقيمِ المساواةِ والإخاء؛ والقيامِ بالاحتلالِ والعدوانِ واستعبادِ الشّعوب، أو إبادتِهم إنْ لزمَ الأمرُ للاستيلاءِ على أرضهِم واحتكارِ ثرواتِهم وبسطِ النفوذِ والهيمنة.
النّفعيةُ المتوحشةُ التي تحرّكُ الحروبَ لا تكتفي بالعسكريّةِ؛ فتستخدمُ أشكالَ الحربِ المختلفةِ النفسيّةِ والصّحيّةِ والثّقافيّةِ والإعلاميّةِ. فحربُ الكورنا، مثلاً، جاءتْ فتاكةً بالبشرِ من دونِ أسلحةٍ عسكريّةٍ، وخسرتْ الملايين من الناس وظائفَها وصحتَها وأمنَها الاجتماعيّ، كما خسرتْ مجتمعاتُ الديمقراطيّة كثيراً من مناخاتِ الديمقراطيّة وحريّةِ التّعبيرِ والحركةِ والتنقّلِ… فمع انتشارِ الكورونا لجأتْ الحكوماتُ إلى فرضِ القيودِ القاسيةِ على حريّات التّجمّعِ والتّنقل والحركةِ، وإلى التّطبيقِ التّعسفيّ للطوارىء وصولاً لمحاصرةِ البشرِ ومحاربتِهم في لقمةِ العيشِ والأمنِ والصّحةِ وإغلاقِ معظمِ المجالاتِ الحيويّةِ وضغطِ الناس عقليّاً وذهنيّاً وصحيّاً ثم فرضِ التّطيعمِ الإجباريّ وتقييد الرافضين بقوانين ملزمةٍ طارئةٍ، بما يزكمُ الأنفَ بروائح الحكمِ الاستبداديّ. الحربُ الإعلاميّةُ والمبالغةُ في التّخويفِ والتّرعيبِ سلاحٌ شديدُ الخطرِ والفتكِ تنفقُ عليه الدّولُ الكبرى المليارات للتّحكّم بعقولِ الشّبابِ وأفكارِهم والتّحكمِ بمشاعرهِم وطرقِ تفكيرهِم وإغراقهِم بصورٍ وأنماطٍ من الوهمِ والعبثيّةِ، حتى تتشقلبَ الأمورُ وتنقلبَ فتصيرَ الأوهامُ حقيقةً والمبدأُ مصلحةً ويتعمّقُ الاحتلالُ.
الوجه الآخر
شعبنُا مثلُ شعوبٍ كثيرةٍ تواجهُ الطغيانَ والعدوانَ لا خيارَ أمامها سوى أنْ تهبَّ لنجدةِ نفسِها فرديّاً وجماعيّاً وجمعيّاً بالمقاومةِ حتى نيلِ حقوقِها وحرياتِها وصونِ هوياتِها. فعند فقدانِ العدالةِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والإنسانيةِّ، يصير واجباً علىى الجميع، مهما تفرّقوا وانقسموا في عقائدِهم وتنوّعوا في أصولِهم وأينما انتشروا وتفرّقوا أن يرفضوا قيودَ العبوديّة وأن يجتمعوا على مصير الحريّةِ ويتعاونوا ويتصدّوا للاستبدادِ والجورِ والاضطهادِ بأي لبوسٍ جاء، بالاستبدادِ السّياسيّ أو الأمنيّ أو الدّينيّ أو الفكريّ أو العسكريّ أو حتى الاستبداد الصحّي. الحريةُ تتطلبُ قدرةً على النّضالِ والفعلِ بقصدٍ واختيار. وصرخةُ الأحرارِ واحدةٌ ضدّ التّسلّطِ والاستغلالِ وتغوّلِ الجشعِ وجور المنظومات الحاكمة على شعوبِها وشعوبِ الدولِ الأخرى.
الخداعُ باسمِ الديمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسانِ والأمنِ والسّلمِ الأهليّ والصحّةِ والفضيلةِ ومحاربةِ الكراهيّةِ والإرهابِ والتطرّفِ يمارسُ في مختلفِ النّظمِ السّياسيّةِ الاستبداديّةِ بهدفِ السّيطرةِ والتحكّمِ، ومُورسُ على السّوريين عسكريّاً وسياسيّاً بالاحتلالِ والتّدخلِ العسكريّ ودعمِ نظام الاستبدادِ ومنظوماتِه، وثقافيّاّ ومدنيّاً وبالمنظّماتِ التي انتشرتْ في سوريا؛ في داخلِها والمحرّر والمستقلِّ ذاتيا تدّعي الديمقراطيّة وتنادي بحقوق الإنسان من امرأة وشاب وطفل وأقليّات، لكنّها تعملُ وفقَ المنظومةِ الأمنيّةِ والاستغلاليّةِ للقوى السّياسيّةِ المتحكمّةِ تحرّكها وفقَ ما يحقّقُ الهيمنةَ والسّيطرةَ والتفكيك الثقافي والمجتمعي؛ لإلغائِنا ومحونا؛ نحن كذواتٍ، لا وفقَ ما تدّعيه من فضائلَ تقدميّةٍ وإنسانيّة.
التناقضُ بين المُفترضِ والواقعِ، بين الحقيقةِ والوهمِ يخلق فراغاً لا مفرَّ من ملئِه. وقد يُملأ بالحروبِ الطاحنةِ بين طرفيّ النّزاع: الحرية والاستعباد؛ فلا يعقلُ أنْ يستمرَ الطغاةُ وتبقى غائبةً عن الفعلِ الشعوبُ الثائرةُ؛ كذلك لا يمكن انْ تنتهيَ القصّةُ السّوريّةُ بأن يبقى النّظامُ متحكمّاً ومنتصراً بظلمِه ووحشيتِه، والشُّعبُ الذي قاومَ وثارَ لحريتِه مذبوحٌ ومهمّش ومشتّتٌ…هذه الفجوةُ الواسعةُ التي يتشقلب فيها الباطلُ حقاًّ والوهمُ حقيقةً لن تنتهي إلا بتكسيرِ الأمرِ الواقعِ بحراكٍ جديدٍ ومجهودٍ إنسانيٍّ واسعٍ تدفعهُ طاقةُ هائلةٌ من وحي القيمِ التّحرّريّة. وهذا يستدعي ارتفاعَ صوتِ القوى المناهضةِ في كلِّ مكانٍ وتوحّدِ نداءاتهِا على مطالبِ الحريةِ والحقوقِ الوطنيّةِ والعدالةِ الاجتماعيّة.
الواقعُ يتطلّبُ إعادةَ تشخيصٍ للذاتِ الإنسانيّةِ والذاتِ الوطنيّةِ وفهمِ أمراضِها لإعلان لحظةٍ ثوريّةٍ جديدةٍ، تكونُ الأخلاقُ فيها قيمةً مركزيّةً وبنيةً أساسيّةً لمسعى الحريّةِ والعدالة. وأنْ يستيجبَ الإنسانُ لواقعِه الحقيقيّ ويعملَ على تغييرِه وفقَ مايناسبُ قيمَه الثقافيّةَ ومايطوّرُ حالَه ويقوّي كيانَه الإنسانيَّ والحضاريَّ لا بتحطيمِ قيمِه وانهيارِه، ورضوخِه لواقع الأقوى والمهيمنِ، يتبعُه وينقادُ لإرادتِه الاستعماريّةِ. وكما قال د.عبد الوهاب المسيري(الهوية والحركية الإسلاميّة.): “فالإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، فالإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو وليس بمنظار الآخرين, لو نظر بمنظار الآخرين, أي لو فقد هويته، فإنه سيكرر ما يقولونه ويصبح تابعاً لهم، كل همه أن يقلدهم أو أن يلحق بهم ويبدع داخل إطارهم، بحيث يصير إبداعه في تشكيلهم الحضاري”.