ماذا بعد؟ جردة حساب البيدر …

[بقلم د. جمال الشوفي]

في نهاية المواسم يجرد الفلاح بيدره، يحسب حصاده، وما قدمه من تعب حولٍ كامل. وأيا كانت النتيجة خيراً أم محلاً كما سنتنا السياسية هذه، يملأ كف يده قمحاً وينثرها في السماء وهو يقول: هذه للسماء أملاً، وللطير العابر كرماً، وللريح تحمله لأرض أخرى بشرى خير وعوض عن تعب السنين….

فماذا بعد؟ وماذا عن استمرار المحل السياسي؟

ربما لم يكن بذهن الكثيرون من شخوص المعارضة السياسية وهيئاتها أن المسألة السورية ستطول لهذه الدرجة، وربما حاولت تلك المؤسسات جهدها للبقاء على ألفة السوريين وإجماعهم بداية، وربما كانت الأهداف المعلنة في الديموقراطية ودولة القانون لم تكن راسخة بعد في التصور الشعبي، لكن ماذا بعد؟ وهي العاجزة اليوم عن استصدار بيان يوقع عليه ربع فرقاء المعارضة! ماذا بعد أن تراجع الاجماع شبه العام الدولي والعربي حول شرعيتها، وأن تتراجع إلى أدنى مستويات حضورها السياسي؟؟ أليس من الجدير بنا طرح الأسئلة في جوهرها؟

تتبع مشهد المعارضة في الجذر ودون الخوض في التفاصيل، يطرح محددات عدة:

1- تجلت أمراض المعارضات السياسة بالفردانية والوحدانية المشبعة بنموذج فردي للحكم عاشته المنطقة تاريخياً بمنطق الأمير والحاشية، وحديثاً بمنطق سلطات العسكر القومومية أو سلطات السوفيت الشيوعية ذات النزعة الشمولية المركزية التي لا تقبل شريك سياسي أو حتى الخلاف بالرأي. ولطالما تجد شبهة التأويل النصي لأي بيان لتيار آخر، والتركيز على نقاطه الخلافية دون البحث عن مشترك عام.

2- تعدد وتباين الرؤى السياسية للمعارضات وتنافسها الأيديولوجي الهدام، فلم تستطع التمفصل على رؤية موحدة للحدث السوري ولا على شكل حلوله السياسية أو تطوراته وعطالته اليوم، خاصة بعد التدخل الروسي المباشر.

3- افتقار خطابها للكلية الجامعة للشعب السوري مكتفية بخطاب تحريضي يؤمن قوت اشتعال في المناطق الثائرة في نموذج تأجيجي للمشاعر دون خطة استراتيجية أو رؤية متمرحلة مع تطورات الحدث السوري، بينما انشغلت باقي فئات المعارضة في خطاب أيديولوجي غايته الحفاظ على صفاتها السياسية والحزبية والضيقة والغارقة في تصوراتها الذاتية وأهدافها الحزبية وفق نموذج وسطي يغلب عليه التلون حسب الحالة، ما شكل حجة دولية وعربية دائمة في توحيد المعارضة.

4- انساقت الكثير من فرق المعارضة في طريقة إدارة النظام لسياق الحدث الثوري ذاتها، منطقة القوة والعنف المفرطة وعدم أيجاد آليات ضامنة لحماية المدنيين وكسبهم.

5- أوهام التدخل العسكري الخارجي المباشر دون الأخذ بعين الاعتبار القراءة الدقيقة للتوازنات الدولية والإقليمية، فظهر خطابها مستجدياً مرة أو ساخطاً أخرى دون أن تستطيع الحصول سوى على المزيد والمزيد من الخذلان.

قبل خمسة أعوام كتبت ما يشبه موضوع هذا المقالة، واليوم أجد كل مبررات الفشل العام ماثلة أمامنا في قراءة المشهد السوري. فالشعب الذي حاول تحصين ثورته من منزلقات الاستعصاء والحلول الإجبارية وتحويلها إلى مخاضات عسيرة، سواء كانت بإشعال حروب طائفية محضة، أو بالانحياز الكلي للحلول العسكرية واقتلاع الصوت المدني والسياسي منها، لم يعد قادراً اليوم على تحصين ذاته بين تجاذب السياسات الدولية وقدراتها على تقاسم النفوذ متعدد الأطراف في المسألة السورية. والأكثر ألما أنه لم تعد تقنعه أية معارضة سورية، وباتت حلوله الفردية أقواماً وجماعات هي الطاغية. وليس فقط بل المجتمع الدولي لا يوجد أي مؤشر على حسم موقفه من المسألة السورية. إضافة للطامة الكبرى في وجود روسيا كقوة عالمية على الأرض السورية تمنع أية محاولة لتغيير التوازنات الإقليمية والدولية، مع استمراء للأجندات الغربية ومن خلفها الاسرائيلية المتلظية بالغطرسة العسكرية الروسية، على استمراء هذا الاستعصاء والاكتفاء بسياسة الأمر الواقع وتهميش أية فاعلية سورية اقتصاديا وبنيوياً، وإعادة توزيعها ديموغرافيا وجغرافيا، وعلى أقل تقدير إعادة إنتاجها دويلة فاشلة متعددة الإدارات العسكرية وتتبع لسلة مصالح دولية اتفقت على فض نزاعاتها على حساب دمنا وأهدافنا ومصيرنا وحريتنا.

ألم يحن الوقت بعد لرؤية المشهد السوري بمفصله الروسي والدولي؟ ألم يحن الوقت بعد لرؤية الساحة السورية بعين السياسة لا بعيون الأيديولوجية؟ ألم يحن الوقت للبحث عن فاعلية سياسية بمستوى الفاعل والمسؤول والحريص والجريء؟ ماذا ننتظر؟ ألم نمل من وعود خلبية هنا وآمال فضفاضة هناك؟ ماذا عن كسب المحيط العربي والإقليمي وفق معادلات المصالح السياسية واضعة نصب أعينها مصلحة سوريا فوق أي اعتبار شخصي أو حزبي أو كتلي؟ ماذا عن تشكيل قدرة تفاوضية مع روسيا على أن تتكئ على التباينات الدولية في سياق المسألة السورية وأهمها وأوضحها لليوم: لن يسمح لروسيا الاستفراد الكلي بالحل السياسي السوري؟ هذه ليست جملة شعرية هذه تفاصيل وخطط عمل تجرد حساب البيدر وحصاده.

لا اعتقد أن أمة تسعى مشارق الأرض ومغاربها لاستنزافها لهذه الدرجة، وتسعى دول العالم المتقدم لاستقطاب كل إمكانياتها الشابة أمة عصية عن الفناء، فهل نركن لهذا الحلم الجميل؟ أم نسابق الزمن ونغالب ضيق أفقنا مرة أخرى لزج إمكانيات سورية جديدة في أكثر مواقع العصر الحديث ومتطلباته إعلامياً واستراتيجياً وسياسياً بشكل علمي يضمن مفهومي المصلحة العليا والهوية الأمة، ماذا لو نثرنا قليلا من قمح احترام الاختلاف تحت عنوان هوية وطنية دون مغالبة ايديولوجية او كلامية املا بمسنقبل قريب؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.