لماذا نجح العدالة والتنمية في تركيا وفشلت النهضة في تونس؟

[بقلم الدكتور باسل معراوي]

نظرا لتقارب ظروف التجربتين الديمقراطيتين في تركيا وتونس ونجاح الاولى وتعثر الثانية ..لابد من دراسة بعض الاسباب التي ادت الى تلك النتائج.
امتاز البلدان الاسلاميان تركيا وتونس بخضوعهما لتجربة مشابهة في القرن الماضي ادت الى نتائج مختلفة الان..
طبقت في تركيا في اعقاب خسارتها الحرب العالمية الاولى وتفكك امبراطوربتها وخوض كمال اتاتورك لحرب الاستقلال..وبالتالي تحول الامبراطورية العثمانية الى الجمهورية التركية.
اعتمدت الجمهورية التركية الوليدة وهي تلملم جراحات الحرب علمانية صلبة بل ومتطرفة تقع على يمين العلمانية الفرنسية ..بحيث لم تفصل الدين عن السياسة بل عملت على اقتلاع المظاهر الدينية من المجتمع الذي يشكل المسلمون فيه نسبة 99% وهو سليل امبراطورية (او خلافة كما يسميها البعض)اسلامية حكمت امما وشعوبا واقوام كثيرة من وسط اوربة لاواسط اسيا اضافة الى الشرق الاوسط وشمال افريقية…الغيت كل المظاهر الدينية من المجتمع بل وتجربم من يمارسها او عزله من الحياة العامة والوظائف الرسمية كارتداء الحجاب للمراة او حتى فصل ضابط من الجيش التركي لكون زوجته محجبة…وكان التركيز على القومية التركية كاساس لبناء الدولة دون اعطاء اية حقوق للمكونات الدينية او العرقية ومحاولة دمجها قسرا (كالاسلوب الفرنسي) ضمن دولة امة..تتكلم لغة واحدة ولها تاريخ مشترك واحد ومنع اي مظهر من مظاهر تعبير المكونات الاخرى عن نفسه كالاكراد مثلا
اما في تونس والتي تشكل نموذجا فريدا من العالم العربي من حيث انسجام تكوينها الاجتماعي حيث الجميع عرب ومسلمون ولاخلاف على ذلك وادى هذا الانسجام الى تكوين مايشبه الامة التونسية التي انفصلت عن الدولة العثمانية قبل انهيارها قطعة تونسية واحدة ومتماسكة…..ساهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بتحديد شكل وطبيعة الدولة التونسية وفرض علمانية اقل صلابة وتطرفا من العلمانية التركية الاتاتوركية ..فلم تذهب بعيدا في استئصال المظاهر الدينية من المجتمع واعتمد الحزب الدستوري كحزب عقائدي حاكم ظل في السلطة لحين انهياره ببدايات العام 2011 بفاتحة الثورات العربية الشبابية
دخلت تركيا بالحكم العسكري منذ تشكيل الجمهورية التركية ..وكان كل مرة يقرر العسكر ترك الحكم للمدنيين يعودون وينقلبون عليه حيث جرت اربعة انقلابات عسكرية قبل انقلاب عام 2016..نجحت جميعا باستثناء الاخير.. لانها كانت انقلاب قيادة الجيش كله واعتراضه على عملية سياسية تجري…وكان بعضها دمويا اسفر عن اعدام رئيس وزراء منتخب (مندريس) وعدد من معاونيه بتهمة معاداة العلمانية التركية التي كان يرى الجيش انه الحامي لها..والسبب الحقيقي ان كل انتخابات مدنية حرة تفرز قيادات مسلمة متدينة .كما هي طبيعة الشعب التركي بالاساس حيث انه حتما سينتخب من يمثله ..لاتروق تلك النتائج للجيش الذي لايتأخر بالانقلاب عليها ..ثم اعادة الكرة من جديد..
في تونس حكم الرئيس بورقيبة عبر حزبه الدستوري الوحيد وابعد تماما الجيش عن التدخل بابشؤون السياسية والعامة للبلاد..ولم تجر سوى محاولات انقلابية على الرئيس بورقيبة من الجيش لزهده بالسياسة..المحاولة الانقلابية الناجحة جاءت من قيادة الجهاز الامني الموالي للرئيس وتمكن بها الرئيس السابق الراحل زين العابدين بن علي من الوصول للسلطة وحكم منفردا حتى فراره عام 2011..وكان طول فترتي بورقيبة وبن علي يشكل حزب النهضة (صاحب المرجعية الاسلامية والتي يعتبرها الكثيرون اخوانية).من اهم احزاب المعارضة غير المرخصة والتي تعرضت للاضهاد والاعتقالات لكثير من كوادرها يشاركها بذلك عدد من الاحزاب اليسارية والاتحادات العمالية
تمثل الانجاز الاهم لحزب العدالة والتنمية التركي والذي ولد قيصريا من انشاء وحل عدة احزاب تم اعتبارها من البعض دينية وارتبط ذلك باسماء قادة تاريخيبن كبار كنجم الدين اربكان وصولا للرئيس التركي الحالي رجب اردوغان والذي كان له ولاحزب اكبر الاثر بامرين مهمين في تاريخ الدولة والمجتمع التركي:
1—تمكن الحزب بعد صراع مرير مع الجيش ومنذ نهايات القرن الماضي الى ابعاد الجيش عن التدخل بالسياسة وترك الحكم للاحزاب المدنية والالتفات لدوره الرئيسي في حماية الحدود الخارجية والدستور .الى حين حدوث المحاولة الاخيرة 2016 والتي سابين بعد قليل سبب فشلها.
كما قاد الحزب عملية مصالحة ضرورية بين المواطن التركي وهويته الاسلامية ..حيث تم عودة الكثير من المظاهر الدينية الى المجتمع التركي والفضاء العام وسقطت معظم القوانين المتعسفة بحق الشعارات والرموز الدينية تجسدت اخيرا بالافتتاح الكبير لمسجد ايا صوفيا باستامبول وتحويله من متحف الى جامع .ليست اهميته ببعده الديني لان المساجد كثيرة بجواره بل بتصالح الدولة والشعب التركي مع تاريخه
2–قاد حزب العدالة والتنمية عملية تهوض اقتصادي ظن البعض انها طفرة اقتصادية ولكنهااثبتت انها عملية مدروسة وسليمة ادت بتركيا الى دخولها نادي الدول العشرين صاحبة الاقتصادات القوية بالعالم..ولمس المواطن التركي تحسن ملموس بل كبير في مستوى معيشته والخدمات الاجتماعية التي تقدم له ..ويتوقع بعض الخبراء الاقتصاديين الى تخطي تركيا حاجز الدول العشرة الاولى بالعالم من حيث حجم اقتصادها
اخطأ حزب النهضة في تونس كثيرا حيث كان المشارك الاول بالسلطة بعد سقوط بن علي وعلى مدار السنوات العشرة المنصرمة بتونس ..حيث تم التوافق على تأسيس نظام حكم مختلط رئاسي برلماني وتكون الصلاحيات التنفيذية اكبر بيد رئيس الحكومة..وكان الغنوشي متواجدا في الحقب الثلاثة الماضية كقاسم مشترم مع الرؤساء الثلاثة(غنوشي المرزوقي…غنوشي السبسي….غنوشي قيس سعيد)
وبالتالي لايمكن للحزب التنصل من اية مسؤولية عن الفشل الذريع الذي مني به الاقتصاد التونسي والذي نزل حجمه الى ثلث الاقتصاد الموجود في عام 2010..وساءت كثيرا حالة المواطن التونسي المعيشية وانتشر الفساد والمحسوبية المحمية من قبل تكتلات النواب واحزابهم ..وكان الانهيار الاخير في النظام الصحي وتسجيل نسب الوفيات الكبيرة بوباء كورونا مؤشر على سوء الادارة الحكومية بشكل عام هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالعملية التي قادها الرئيس التونسي والتي لن ادخل بمتاهة تسميتها هل هي انقلاب دستوري ام عسكري ام حركة اصلاحية الخ.
المهم في الموضوع ملاحظتان هامتان..ان الجمهور التونسي ليس معاديا للايدلوجيا الاسلامية التي ينبناها النهضة بدليل حصوله في كل الانتخابات التي جرت على مركز الصدارة…والتأييد الشعبي الكبير 87% للرئيس التونسي بحركته الاخيرة وقرف الجمهور من الاداء السياسي والاقتصادي للنهضة وحلفاؤها بالحكم
لماذانجح الانقلاب في تونس ومصر وفشل في تركيا
عندنا حدث الانقلاب التركي في عام 2016 شارك به جزء من الجيش وليس كله .عندما نزل الشعب التركي الى الشوارع في كل المدن التركية معترضا على الانقلاب لم يكن هو جمهور حزب العدالة والتنمية او مؤيدي الرئيس اردوغان فقط بل كان كل الشعب التركي ضد الانقلابيبن ..ولو كان الجمهور الذي في الشارع يمثل فقط لون واحد لنجح الانقلاب…كانت احزاب المعارضة وجمهورها من اول المعترضين على الانقلاب ولا يرغبون بالعودة لتدخل الجيش في الحياة السياسية او نصرة فريق على اخر ..بل انهم اتفقوا على طريقة لادارة تنافسهم على السلطة عبر صناديق الاقتراع وامنوا بالتجربة الديمقراطية ولعبتها ومن يكون اليوم في الحكم قد يصبح غدا في المعارضة…وتم الاتفاق على كيفية وطبيعة وشكل الحكم وليس على من يحكم …هذا الامر لم بحصل في تونس مؤخرا ولا في مصر بال2013 .
لايسعني في الختام الا ان أشير الى ناحية اراها مهمة جدا…وهي غياب الدعم الدولي والاقليمي للنهج الذي يمثله النهضة في العالم العربي…اذ عملت السياسة التركية استدارة هامة بتخليها عن تبني او ايواء الاخوان المصربون بتحسين علاقتها مع مصر والخليج عموما..وايضا حذت قطر نفس المنحى بعد قمة العلا وتجسبد مصالحة سعودية قطرية مهمة والانفتاح القطري على مصر والتحسن السريع الذي طرأ على العلاقات بينهما..
فيما كانت المواقف الدولية والصادرة من الولايات المتحدة وفرنسا تكتف بالتعبير عن القلق لما حصل والرغبة بعودة سريعة للبرلمان والحكومة الى ممارسة اعمالهم مما يشي بتأييد ضمني لحركة الرئيس التونسي ايذانا بانتهاء حقبة هامة من وصول الحركات التي لها خلفية دينية الى الحكم والتي كانت النهضة التونسية آخرها.
د باسل معراوي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.