تتضارب آراء اقتصاديين حول ما إذا كان ممكناً لتهاوي سعر الليرة السورية وبدء انفجارات الشارع أخيراً في طرطوس والسويداء وجرمانا جرّاء الجوع والتفقير أن تسقط نظام بشار الأسد في دمشق، لكنهم يتفقون على أن وصول سعر صرف الدولار إلى نحو 13 ألف ليرة لا شك في أنه يهز عرش الأسد، بعد ما وصفوه بالانهيار السريع للنظام والمنظومة الأمنية، مع تدحرج ضربات مطرقة الاقتصاد التي أعجزت الحكومة عن رفع الأجور رغم الوعود المتكررة وتراجع موارد النظام الدولارية، خاصة بعد حصار تصدير المخدرات وتراجع التحويلات الخارجية.
ووضعت هذه الأسباب مجتمعة حكومة الأسد في موقع المتردد بين تعويم الليرة أو استرضاء المقرضين، قبل أن تأتي الخيبة من التمويل العربي، بعد حضور الأسد قمة الرياض، كمثل القشة التي أثقلت الحمل ووضعت الأسد في وضعية السقوط.
خطر طارد
ليست المشكلة فقط في تهاوي سعر صرف الليرة، برأي المستشار الاقتصادي أسامة قاضي، بل في استمرار التراجع وعدم الثبات، ولو على سعر متدن، لأن تتالي الانهيار يخيف أي مستثمر ورجل أعمال من الاقتراب من المناخ السوري، بل ويعطي مؤشراً إلى إفلاس النظام من الموارد والقدرة على تثبيت سعر الصرف، وفي كل ذلك دلائل على تلاشي ملامح الدولة، التي باتت فاشلة بكل المقاييس، حتى وإن لم يسقط نظام الأسد.
الاقتصادي عبد الناصر الجاسم رأى أن تذبذب وتهاوي سعر صرف الليرة هو المؤشر الأكثر صدقية بشأن حال نظام الأسد وليس التصريحات أو محاولات التعويم، فمن خلال السوق، برأيه، يمكن قياس نجاعة الخطط، ومن بطون الجوعى يستدل على سياسة الحكومات، مشيراً إلى أن نظام الأسد في الواقع ساقط وغير قادر حتى على كفاية الشعب خبزاً.
معاون وزير سابق طلب عدم ذكر اسمه، يقول إن سوريي الداخل لا يمكن أن يثوروا لجوعهم، بعد تأديبهم بالثوار والقتلى، لكنه يلفت إلى أن إفلاس نظام الأسد للحد الذي وصله سيلزمه بأن يتنازل ويقبل الشروط العربية.
فحرب روسيا، وفق المتحدث، أنهكت نظام الأسد، ليأتي حصار تجارة المخدرات كضربة موجعة، مقدراً عائدات تصدير الكبتاغون والحشيش بأكثر من 3 مليارات دولار سنوياً، وهذه العائدات أكثر من ضعف جميع الصادرات السورية.
ويؤكد المسؤول السابق أن الدول العربية لم تدعم الأسد كما تم الترويج قبل القمة “لأن شروط مبادرة عمان لم تنفذها سورية”، الأمر الذي خيّب آمال النظام، خاصة من الإمارات، التي حاولت تسويقه، ما دفعه أخيراً للحجز على شركة إعمار بدمشق والتوجه أخيراً إلى إيران.
ويضيف المسؤول السابق أن الفرصة الآن سانحة لإيران لتعاود التملك والتمدد، لذا رأينا وفدا زار طهران وألغى الرسوم الجمركية، متوقعاً أن تكون إيران وراء التحسن الطفيف بسعر الليرة يوم الأربعاء (من 13 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد إلى 12 ألفاً)، “لكن التحسن مؤقت بواقع عطش السوق وحاجة تمويل التجار”.
مشوار التهاوي
يتوقع محلل مالي من دمشق أن تستمر الليرة بالتهاوي، رغم التحسن أخيراً، ليصل سعر صرف الدولار إلى 20 ألف ليرة خلال الشهرين المقبلين، لأن عوامل ثبات واستقرار سعر الصرف جميعها مفقودة بسورية.
ويضيف المحلل الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه مقيم في العاصمة السوريةأن الميزان التجاري خاسر ويستنزف استيراد القمح والنفط، جميع الموارد الدولارية، بما فيها الإتاوات التي زادت وتيرتها، بعد نشاط مكتب أسماء الأسد الاقتصادي بالقصر الرئاسي أخيراً، وتضييقها على الصناعيين والتجار. وليس ما دخل لسورية إلا من التحويلات الخارجية أو تجارة المخدرات.
ولا يغفل الشامي دور التمويل بالعجز واستمرار نظام الأسد بطباعة أوراق نقدية كبيرة، من دون معادل إنتاجي أو خدمي أو نقدي أجنبي، فالقصة برأيه، عرض وطلب أولاً وأخيراً، فالسوق السورية متعطشة للقطع الأجنبي، وتعاني من طرح مستمر للعملة السورية.
ويشير المحلل السوري إلى دور تخبط المصرف المركزي وقراراته المعيقة بزيادة وسرعة تهاوي الليرة، سواء رفع التسعير المستمر لدولار الحوالات، أو قرارات تمويل التجارة الخارجية، بعد خلوه من الاحتياطي البالغ 18 مليار دولار عام 2011.
وكان المصرف المركزي بدمشق، بعد تراجع التحويل اليومي إلى ما دون 4 ملايين دولار، وبهدف استقطاب التحويلات الدولارية التي تذهب للأسواق المجاورة وتعود بالليرة لداخل سورية، قد رفع سعر صرف الليرة السورية إلى 9900 ليرة مقابل كل دولار، و10905.84 مقابل كل يورو، أما بالنسبة لنشرة السوق الرسمية، فقد حدد المصرف سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار بـ8500 للشراء، و8585 للمبيع، والوسطي بـ8542، في حين حدد سعر صرف الليرة السورية مقابل اليورو في النشرة ذاتها بـ9363.05 للمبيع، و946.68 للشراء، والوسطي 9409.87.
وتهاوى سعر العملة السورية من 50 ليرة مقابل الدولار حينما انتفض السوريون عام 2011 إلى نحو 13 ألف ليرة اليوم، لتزداد خسائر الليرة عام 2023 أكثر من 40% مقارنة بنهاية سعر عام 2022 البالغ 7200 ليرة للدولار الواحد، بعد خسائر بنحو 50% عن عام 2021.
خطأ تاريخي
يصف الاقتصادي عبد الناصر الجاسم مرسوم بشار الأسد رقم 3 لعام 2020 الذي جرّم التعامل بغير الليرة بالحبس لسبع سنوات وغرامة ضعف قيمة الدفوعات، بالخطأ التاريخي، لأن المرسوم لم يوقف الدولرة بل زاد التهرّب والفساد وحرم سورية من معظم الحوالات الخارجية.
ويضيف الجاسم، الذي لم يستبعد أثر الجوار على الليرة والاقتصاد، خاصة لبنان وضياع إيداعات السوريين، مشيرا إلى أن القرار التاريخي الخاطئ الآخر هو تشكيل “منصة” للتجار وفق قرار 970، ما ساهم بزيادة الاحتكار والفساد لثلة من التجار يدورون بفلك نظام الأسد.
ويشير الاقتصادي السوري أيضا إلى أن نظام الأسد، وبواقع الضائقة التي اعترته أخيراً، يحاول تصويب تلك الأخطاء التاريخية عبر السماح بتمويل مستوردات القطاعين الخاص والمشترك من خارج منصة التمويل، سواء من حساب المستورد في الخارج، أو الداخل، أو شراء القطع من أحد مصارف الداخل، أو شركة صرافة.
وكشف عن تعليق العمل بإلزامية التمويل من المنصة، شريطة تقديم التاجر خلال تخليص البضائع المستوردة المدرجة ضمن القوائم المرفقة كتابا إلى أمانة التخليص الجمركية صادرا عن المركزي يتضمن الموافقة على تخليص البضاعة استناداً لقيام المستورد ببيان مصدر تمويل مستورداته، وتلتزم الأمانات الجمركية بعدم إتمام عملية التخليص دون تقديم هذا الكتاب. ولكن هذا الشرط “فخ” لكشف حسابات التجار، فضلاً عن أن إلغاء “المنصة” فات أوانه، على حد تعبير الجاسم.
وحول مرسوم تجريم التعامل التجاري بغير الليرة، يفيد الجاسم بأن المصرف المركزي سمح أيضاً لشركات الصرافة بتسليم حوالات التجار والصناعيين بالدولار الأميركي. ولكن يوجد فخ آخر هنا، إذ يمكن، وفق المرسوم، سجن وتغريم كل من يتسلم أو يتعامل بالدولار، لأن المرسوم لا يلغى إلا بمرسوم، وليس بقرار صادر عن المصرف المركزي.
من جهته، يقول معاون الوزير السابق إن أمام وزارة الاقتصاد الآن مشروع تعديل للمرسوم 3 الذي يجرّم التعامل بغير الليرة، وذلك بناء على طلب قطاع الأعمال وتوصية اللجنة الاقتصادية برئاسة الوزراء، كاشفاً أن الصيغة الجديدة ستفرض التعامل بالليرة السورية، باعتبارها تحمل قوة إبراء للذمة المالية، مع فرض عقوبات مشددة فقط على المضاربين وأعمال الصرافة غير المرخصة.
ويضيف المتحدث أن العمليات التجارية الكبيرة (سيارات وعقارات) تتم في دمشق بالدولار، ليس بسبب حاجة المشتري لسيارة تحمل أمواله بالليرة، بل لتبدل الأسعار جراء الانهيارات المستمرة للعملة السورية.
محاولات يائسة
يقول المستشار أسامة قاضي إن محاولات نظام الأسد “الشكلية” لتحسين سعر صرف الليرة جميعها باءت بالفشل، مبيناً أنه المستفيد من تهاوي العملة، فهو يضارب عبر المصرف المركزي ويدفع الأجور بالليرة.
وحول ما وصفها محاولات شكلية، يضيف قاضي، أنها تجلت عبر لحاق المصرف المركزي سعر السوق والتسعير بزعم كسب الحوالات الخارجية، كما حاولت وزارة المال سحب جزء من الكتلة النقدية عبر رفع سعر الفائدة من نحو 9% إلى 27% وأيضاً من خلال بيع سنوي لسندات الخزينة بسعر فائدة مرتفع، ولكن كل تلك المحاولات تبدو عبثية بمواجهة طبع العملة المستمر الذي ينهجه نظام الأسد لتمويل عجز الموازنة والاستمرار بدفع الأجور مهما تدنت القيمة الشرائية لها.
وعما يُقال بشأن تعويم سعر الصرف، يرى قاضي أنه لا يمكن أن ينجح في سورية، لأن التعويم يحتاج إلى اقتصادات قوية أو مستقرة على الأقل و”اقتصادات قادرة على تعزيز الاحتياطي الدولي ولديها قطاعات منتجة وصادرات”، وتلك المتطلبات غير متوافرة لدى الاقتصاد السوري المتهالك، بل برأي قاضي، فإن أي تعويم الآن سيزيد سرعة الانهيار الكلي للاقتصاد.
المواطن ضحية دائمة
يرى الاقتصادي عماد الدين المصبّح أن المستهلك السوري هو الذي يدفع ثمن تهاوي سعر الصرف كما يدفع تبعات الفساد والتآمر وبيع مقدرات سورية، بعدما بات الأفقر على مستوى العالم بمتوسط دخل لا يصل إلى 10 دولارات شهرياً.
ويشير المصبح إلى لجوء نظام الأسد إلى جيوب السوريين بموارده، بعد شلل السياحة وخسارة التجارة عبر رفع أسعار حوامل الطاقة باستمرار وسحب الدعم عن المواد الغذائية، ما دفع أكثر من 90% من السوريين إلى ما دون خطر الفقر.
وحول استمرار ارتفاع الأسعار رغم التحسن الطفيف بسعر الليرة السورية، التي سجلت الأربعاء نحو 12 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، يضيف المصبح أن هذا التحسن مؤقت ونتج عن الإفراج الجزئي عن التمويل للمستوردات وعما قيل عن تطوير العلاقات مع إيران، متوقعاً عودة تراجع سعر العملة السورية واستمرار أسعار السلع والمنتجات بالارتفاع، في ظل واقع فوضى الأسواق والاحتكار.
تنصّل من زيادة الرواتب
في حين تتنصّل حكومة رئيس النظام السوري بشار الأسد من زيادة الأجور إلى مستوى معقول يمكن أن يعين المواطنين على الاستمرار بالحد الأدنى من العيش، رغم الوعود المتكررة، يبقى متوسّط الدخل الشهري دون عتبة 100 ألف ليرة، في حين يتجاوز متوسّط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من 5 أفراد 6.5 ملايين ليرة سورية، وفقاً لـ”مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، علماً أن الحد الأدنى محدد الآن عند 4 ملايين و100 ألف و111 ليرة.