في سؤال التربية والأخلاق


جمال الشوفي

التربية والأخلاق وما يجول بينهما من قيم ومثل وطرائق، نماذج ومفاهيم وأسس عامة لصواب الحياة واستقامتها، هي قضايا محورية في نشوء الأمم، في تطور عمرانها الإنساني والقيمي والاجتماعي، وأحد أعمدتها الأساسية الحضارية والمدنية. لكن، هل تكفي وحدها لاكتمال عمارتها وبنيانها؟ سؤال لا حيرة فيه، بل رؤى تختلف من زواياها المتعددة، والبحث في اكتمالها فرض “عين”، أي موضوعي، لا فرض “واجب”، أي أخلاقي وكفاية النفس الآثام دون الفعل

تكاثرت في زمن الانحدار الذي تعيشه ديارنا، ديار السحق والظلم والتهجير، الاعتقال والتكفير السياسي والديني، ديار تكسرت فيها قيم الحياة الأخلاقية وتهدمت وصاياها العليا الدينية التاريخية، والعصرية الحقوقية الحديثة أمام آلة الحرب والدمار؛ في زمن الانحدار هذا تكاثرت الدعوات للتمسك بالأخلاق ورد غالبية مشاكل الجيل الحالي من عبث ولا مسؤولية وتعاطي المخدرات، إلى التربية. ويبدو أنه قول في ظاهره حق، لكنه هل يبطن ما لا يظهر، بل ثمة ما يجب المكاشفة والمصارحة به وحواره جديّاً، هذا إن أردنا الوقوف على ناصية المشهد والفعل الممكن

لشعر أمير الشعراء أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” قول يستعير حضوره في كل زمن، فالأخلاق، ومنها التربية، التي ترعى حضورها وقيمها، هي المنتوج الحضاري الذي يتوجها. لكن كيف يمكن أن نعالج هبوط وسقوط الأمم ما لم نعالج ما أدى لسبب هذا السقوط؟

في سوريا، ولليوم، تقوم على التربية والأخلاق مؤسسات السلطة الحاكمة، من حزب البعث، للجمعيات والنقابات، لاتحاد الطلبة والكتاب والعمال والفلاحين، للشبيبة والطلائع، ويشتركون في إدارتها مع أحزاب الجبهة الذين فاقوا العشرين في الأعوام الأخيرة. فإن كان ثمة خراب في الأخلاق وجب علاجه بالتربية، فالأصلح القول إن القائمين على هذه التربية هم سبب هذا الخراب، وأي محاولة لرد القضية للتربية والأخلاق هو محاولة فاشلة لتكرار ذات الخطأ التاريخي الذي ارتكبناه بتولية حكم العسكر العقائدي أيديولوجياً، والتسلطي الاستحواذي سياسياً، والقمعي وحيد الجهة والاتجاه أمنياً. سلطة لم تعترف بالمختلف، ولم تحاول الإصلاح أبداً، بل عملت على إفساد مؤسسات الدولة جميعاً بتولية أعوانها على إدارتها، وجني الأرباح المالية والاقتصادية لصالحها، والاستحواذ المطلق على قرارات التعيين والمناصب لمن يواليها والأكثر طواعية ومفسدة، وحديثاً في العقد الأخير لمن يدير لعبة الموت بأية طريقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً بكفاءة تعتمدها معايير السلطة الحاكمة وبقائها على رأس الهرم فيها. هذا مع ترك مساحة فضفاضة للقول الوطني والثقافي والتربوي يغطي على لعبة الموت والدمار والوحشية، ويتعامل معها

عندما يحتاج “المربون” إلى تربية ليست مقولة تهكمية على جيل المربين والمعلمين في قطاعات التربية، ولا التقليل من أخلاقيتهم ودور التربية والأخلاق، بل هي مقولة في نقد الفكر المادي الذي يحيل الإنسان إلى مجرد آلة تتحرك بمقتضى محرك، وأنه وليد ظروف نشأته المادية والتربية وفقط! فيما كان للأطروحة الثالثة لماركس، في نقضه لمادية فيورباخ من كتابه “أطروحات حول فيورباخ-1888″، قول ذو حكمة: “إن النزعة المادية التي ترى أن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي أنه يتغير بتغيير الأوضاع وتجديد التربية، تنسى أن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع وأن المربي نفسه يحتاج لتربية”، في إحالة أولى لمفهوم الإنسان ككلية ومعنى عام، ومن ثم للقدرة الذاتية للفرد واشتراطها للبيئة الحرة التي يمكن أن ينمو بها من جانب آخر، فكل من التربية والحرية والاستقرار السياسي والاقتصادي وتحقيق الأمن والأمان أعمال متكاملة لا تنمو إلا بالتجاور، بالتنامي مع بعض، والفاعل المحرك بها في الأساس هي مقولة التغيير المرتبطة جذرياً بالإنسان

وهي ذات المقولة التي ناقشها يوماً إيرك فروم في كتابه “الخوف من الحرية” عندما جادل في وهم الفكرة القائلة بأن كل من الشعب الألماني والإيطالي يحتاج لزمن للتدريب على الديمقراطية ليلحقوا بركب الديمقراطية الفرنسية، بينما أصل الفكرة في استبداد نظامهما السياسي غير المتقبل إلا لديكتاتوريته ونموذجه العنصري في الهيمنة على الحياة السياسية وأجهزة الدولة جميعاً. وهذه المقاربة تصلح لمقاربة حالنا السوري، فأي طرح تربوي أو تأهيلي أخلاقي في ظل منظومة الاستبداد وعدمية التغير في قوامها السياسي والأيديولوجي ما هو سوى محاولة تجميلية هامشية لا يمكنها أن تصبح ثقافة عامة، أو عملية تربوية ناجحة في ظل مركزية النظام المغلق بنيوياً وسياسياً وثقافياً بشكل مستبد وديكتاتوري

إن أصل المسألة التربوية هو إطلاق الإمكانيات الذاتية للأفراد في المجتمع، وهذا يستلزم فضاء من الحرية وذهنية التنوع والاختلاف وقبول الآخر بشكل علمي ومنهجي سواء وافق نهج السلطة الحاكمة سياسياً أو لا. وحيث لا يمكن تفعيل موضوعة التربية إلا عندما يتمتع المربون بقدر كاف من الحرية والديمقراطية، يستطيعون من خلالها تقديم أفكارهم ونظرياتهم التربوية دو تخوين أو تجريم أو فصل من وظائفهم وممارسة الاعتقالات التعسفية بحق غير المواليين للسلطة. هي عملية متكاملة تأتي في حلقات متتابعة مركزها ونقطة انطلاقها الحرية مع مقولتي الإنسان والتغيير

الأخلاق والتربية شرط لازم وكفايته تأتي بتغيير البنية الفكرية والسياسية السائدة، وهذا ما يمكن أن يشارك به الجميع، للإدراك العام لأهمية الأخلاق والتربية في بناء الأمم، لا في بيئة الفساد والمحسوبيات والتسلط الهدّامة

فما دام القائمون على مؤسسات الدولة والنقابات والاتحادات العامة يعينون بتقارير أمنية، وما دام كتبة التقارير الأمنية يعتاشون في مجتمعاتنا ناتج تلك التربية الأيديولوجية والأخلاق المصنفة للبشر موالون مطواعون أو أعداء وجب إبعادهم عن مراكز الفاعلية والقرار؛ لا بل بنفيهم وسحلهم واعتقالهم واتهامهم بالعمالة للخارج ووهن نفسية الأمة؛ فأي حوار عن الأخلاق والتربية في هذا المجتمع ما لم يجاهر بضرورة التغيير في هذه التركيبة المستبدة سياسياً وأمنياً هو ذر للرماد في العيون. وقد يكون كفاية النفس لآثام العمل والمواجهة الخاسرة

فيما تتطلب المرحلة الحالية من هذا التردي العام، الوقوف بجدية وحزم على أسباب ما وصلنا له إنها البنى المغلقة سياسياً وأيديولوجياً ودينياً والمتناغمة فيما بينها ببقائها كل في موقع سلطتها الأوحد، وهذا حديث يطول. ولكن لليوم لا أعلم كيف يمكن لمناهج التربية أن تعلم جيلاً على الأخلاق الفاضلة، وذات الجيل يرى الفساد في العلم والقضاء والتربية يستشري فيه كالنار في الهشيم، فكيف له أن يقتنع بتلك الجمل الوصفية للأخلاق وهذه الوجبات المغلفة بالزيف وهو يدرك حقيقة ما يجري، ويرى أن الفعل الممارس عكسها تماماً؟ سؤال إجابته فجة وصادمة لكن يبدو أن الواقع غالب على أمره.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.