[بقلم أ. حسن النيفي]
ينعي الكثير من جمهور الأدب على الشعر قصوره عن مواكبة ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، إذ يرى كثيرون من محبي الشعر وجمهوره، أن الذي كان يُدعى ( ديوان العرب)، لم يعد يجسّد الوجدان الشعبي العام، ولم يعد قادراً على امتلاك المقوّمات التي تجعله الصدى الموازي لما يطال الشعب من أحداث جسام،بل ومآسٍ مؤلمة متوالية على مدى سنوات خلت.
لعل الشكوى من ندرة الشعر تحمل في طيّها تفسيرين متباينين، يرى التفسير الأول أن مسألة ( الندرة الشعرية) إنما تكمن في ( النوع ) وليس بالكم الشعري، إذ يرى أصحاب هذا الرأي، أن ما قيل على المنابر الأدبية، وما فاضت به الصحف والمواقع، وما نُشر من دواوين، وما تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي، بات كثيراً إلى درجة التخمة، ولكن هذا الكمّ الهائل ممّا يُسمّى ( شعراً )، يفتقر معظمه إلى خاصيته النوعية التي تنأى به من حيّز الإنشاء والنظم والصراخ، إلى حيّز الإبداع والفن والجمال، الأمر الذي يجعل هذا الضرب من ( الشعر) ليس خاوياً من جوهره الإبداعي فحسب، بل عبئاً على الثورة، لأنه أخفق في تجسيدها جمالياً، فاكتفى بارتداء ثوبها، وابتذل كثيراً في اجترار شعاراتها، ووقف عاجزاً عن تحويل مشاهدها المحسوسة، إلى قيمٍ فنية راقية، توازي – في رقيّها وروعتها – المضامين الجميلة والسامية للثورة.
في حين لا يرى أصحاب التفسير الثاني أي غضاضة في ان يكون الشعر ملازماً دائماً لوقائع الثورة اليومية، بتفاصيلها المتنوعة، باعتباره الصدى الحقيقي لما يعتمل في نفوس الناس وخواطرهم وانفعالاتهم، كما على الشعر- وفقاً لأصحاب هذا المنحى – ألّا يكون مفارقاً لوعي الجمهور، وبعيدا عن ثقافته، بل الشعر الأكثر حرارة هو ما لامس العواطف، واستثار المشاعر، واقترب من أفهام سواد الجمهور، وكما هي الثورة ساطعة بأهدافها ونصاعة حضورها، كذلك على الشعر أن يكون صارخ المعاني، بعيداً كل البعد عما يحول دون وصوله إلى السامع، وبلوغه مبلغ التأثير فيه.
واضحٌ إذاً، أننا أمام فهمين مختلفين، ليس حول طبيعة الشعر فحسب، بل حول وظيفته أيضاً، طرفٌ لا يرى في الشعر أكثر من انفعال يعبر عنه المرء من خلال اللغة والموسيقى والصورة إلخ، وغاية ذلك التأثير في السامع واستثارة كوامن نفسه، ووفقاً لهذا الفهم، فإن الجانب ( التعبيري) هو العملية الجوهرية في الشعر. أما الطرف الآخر فلا يرى في مقدرة المرء على التعبير عما في نفسه أيّة مزيّة إستثنائية، ذلك أن جميع الناس يعبرون عما في أنفسهم، وليس الشعراء وحدهم، وما يميّز تعبير الشاعر عمّا سواه، هو أن الشاعر يعبر عما في نفسه تعبيراً جمالياً أو فنياً، وليس تعبيراً عاطفياً فحسب، و(التعبير الجمالي) وفقاً لأصحاب هذا المنحى، ليس تكراراً لمشاهد الواقع المعاش، وليس كذلك، ترسيخاً للمعطيات المعجمية للغة، وليست زركشة بلاغية توهم بتزيين المعنى فحسب، بل هي عملية خلق جديد للوقائع والأفكار، وذلك وفقاً لرؤية الشاعر وفهمه وثقافته وإحساسه، ذلك أن علاقة الفن بالواقع هي علاقة جمالية، يصوغها الفنان ( أكان شاعراً أم غير ذلك )، لا كما هي عليه، ولكن كما يراها هو، ولعلّ هذا ما دفع بعض المفكرين إلى نعت الشاعر بالفيلسوف، إلّا أنه لا يفكر منطقياً، بل فنياً.
قد يذهب البعض إلى أن هذا الاختلاف بين الفهمين السابقين، إنما هو امتداد لما اختلف عليه النقد التراثي بين ( الشعر المطبوع) الذي تُوضِّح ملامحَه نظريةُ عمود الشعر، كما أوردها ( المرزوقي ت 421 هـ) في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام، وبين ( الشعر المصنوع)، أو مذهب الصنعة، الذي رأى النقاد أن أبا تمام هو رائده بلا منازع، وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي، إلّا أن استعادة الموقف النقدي القديم بمجمله لن يفيدنا في معالجة بعض القضايا الأدبية المعاصرة، سوى بالمواقف المتقدمة منه، أي تلك المواقف التي جسّدت – ضمن سياقها التاريخي والمعرفي – فهماً متقدماً لعملية الإبداع الشعري، وأذكر من تلك المواقف المتقدمة مساهمتين، الأولى (للجاحظ ت 868 م )، والثانية ل (عبد القاهر الجرجاني ت 1078 م )، إذ يتفق الناقدان على أن ما يهب الشعر جوهره الحقيقي هو ليس المعنى الخام، أو المعطى الأولي للمعنى، بل عملية الصياغة، ولكن المؤسف أن معظم الدراسات النقدية المعاصرة التي تعاطت مع هذا الطرح النقدي القديم، ذهبت إلى أنه انتصار للشكل على المضمون، كما حاول بعضها ربط الموقف النقدي لكل من الجاحظ والجرجاني بتأثرهما بالنزعة المنطقية الأرسطية، بمقابل أنصار (عمود الشعر) من النقاد، ممن وقعوا تحت تأثير نظرية ( المحاكاة) لأفلاطون، وعلى الرغم مما تنطوي عليه تلك الدراسات من تقصٍّ فكري عميق، إلّا أنها أخطأت من خلال تكريسها لفهم عملية الإبداع الشعري، على أنها شكل ومضمون.
ثمة ناقد معاصر، هو المرحوم ( يوسف سامي اليوسف ت 2013 م)، الذي قدّم مساهمات نقدية في غاية الأهمية، في ثمانية كتب منشورة، إذ ترقى هذه المساهمات – كما أعتقد – إلى أن تشكّل نظرية متكاملة في الشعر، وبما أن المجال لا يتيح لنا الحديث بإفاضة عمّا أضافه اليوسف إلى النقد العربي المعاصر، فإنني أكتفي بالإشارة إلى رأي المرحوم يوسف سامي اليوسف، فيما يتصل بموضوع هذه المقالة الوجيزة، إذ يرى أن الشعر إنما ينهض على حاملين أساسيين، هما ( الوجدان والخيال)، إذ لا يمكن للشاعر أن يتفاعل – جمالياً – مع الواقع دون أن يكون مزوّداً بحساسية عالية، وهذه الحساسية لا تقف عند تخوم الإنفعال والتأثر العاطفي فحسب، بل هي قدرة الشاعر على إستقراء المشاعر والعواطف لتتحوّل إلى أفكار، أمّا الخيال فهو الذي يمكّن الشاعر من تجاوز أفقه المألوف والمحدود، ويجعله يلج عوالم أخرى أكثر حرّيةً ورحابةً، كما يتيح له خلْقَ رؤىً وتصوّرات أخرى ، يعيد من خلالها إنتاج الواقعة المعاشة أو الفكرة الخام، فعملية الإبداع الشعري – وفقاً لليوسف – ليست تعبيراً مباشراً يجسّد الإحساس الفطري بالأشياء، وليست كذلك تصويراً مجرّداً قائماً على شطحات الخيال، بل هي عملية مركبة تشهد تواشجاً كاملاً بين الإحساس والمعرفة والطاقة التصويرية أو الخيالية.
ما أعتقده صواباً، أن المعنى الجمالي لأي نص شعري، لا يكمن في طاقته التعبيرية فحسب، وليس كذلك في نزعته التصويرية القائمة على غزارة أو اكتظاظ التشكيلات البلاغية التي تصبح عبئاً على النص في غالب الأحيان، وليس أيضاً في وضوحه أو غموضه، بل بقدرة الشاعر على تحويل أحاسيسه وأخيلته إلى معرفة جمالية بالواقع، فلو تأملنا قول طرفة بن العبد، قبل قرون عديدة من الزمن، ومازال يحظى بإعجاب الناس واستحسانهم حتى الآن:
لَعَمْرُكَ إن الموتَ – ما أخطأ الفتى لكالطِوَلِ المُرخى وثِنياه باليدِ
لا أظن أن سرّ الاستحسان في قول طرفة، أو ملمح شاعريته، يعود إلى مجرّد إحساسه بحتمية الموت فحسب، وليس – كذلك – إلى تشبيه الموت بالحبل الذي تتحكّم به كف القدر، بل بتواشج الجانبين، التعبيري والتصويري معاً، على إنتاج قيمة معرفية فلسفية في حينها، تتمثّل بنزوع المرء نحو التصالح مع مصيره المحتوم، نتيجة شعوره بالعجز و عدم قدرته على مقاومة الفناء، ذلك أن الفن العظيم كما يقال:( هو الذي يستخلص العام من الخاص، والكلي من الجزئي، والنموذجي من العارض).
نعود ونتساءل، على ضوء التفسيرين المتباينين كما جاءا في البداية: هل ثمة شعرٌ جميل يوازي المعاني والتطلعات الجميلة للثورة؟ أعتقد أنه موجود، ولكن ليس في الكم الهائل من الصراخ والشعارات التي لا تتجاوز حنق أصحابها ونزقهم، وليس في التهويمات الغرائبية والرطانة اللغوية التي يتوهّم أصحابها أنهم أحدثوا ثورة إبداعية في الأدب توازي ثورة الشعب السوري، ولكنه موجود في الحيّز النادر بين الطرفين المذكورين، ولا غرابة في الأمر، ذلك أن مفهوم ( الندرة) ملازم لمفهوم الفن العظيم، ليس في عصرنا فحسب، بل في جميع العصور.