عكس مسار الهزيمة اليوم وقبل نهاية حزيران

[بقلم الدكتور جمال الشوفي]

تأخر العقل العربي في تقديم رؤية واضحة لمجريات الهزيمة المدوية في عام 1967، وعندما نقول  “العقل”  نقصد كليته الجامعة في  إنتاج  منظومة ثقافية قابلة للعيش  والتداول والانبساط في مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث سميت حينها نكسة نظراً  للاعتقاد السائد بأنها مخالفة لسير الحدث العسكري وقوة الأمة وعواطفها الجياشة في تحرير فلسطين. 

وحيث أن النكسة هي مفعول نفسي مفاده جني نتائج خلاف الأحلام والأماني العاطفية التي كانت متعلقة على وعود العسكر  وأنظمتهم المؤججة لمشاعر العنف والعسكرة وطبول الحرب على أنها قادرة على رمي اليهود في البحر وتحرير تراب فلسطين من رجسهم، لتنبري بعدها  “مؤسسات ”  تلك السلطات لوضع جمل لانهائية من مبررات الهزيمة تلك، من مؤامرة وغيرها مما يرضي طفح الشعور القومي آنذاك ويسكن أوجاعه الخائبة. 

حركات التحرر الوطني بفاعليتها،  تلك،  لم تكن بعيدة المنهل بعد عن جماع الأمة وتصوراتها! فالشعور العربي  العام وخياله الجمع ي  والذي شكل  محتوى الحاضنة العامة للفكر المجتمعي وثقافته، قبل حزيران  1967، والمستمر لليوم، لم يرى من تاريخ حركات التحرر الوطني  من دول الاستعمار الغربي، أو ما سمته اصطلاحاً غرضياً ا لأمم المتحدة  “الانتداب”، بدايات القرن العشرين  سوى  القدرة على الفعل العسكري دون السياسي  و المدني والحقوقي.  فالفعل السياسي، وحسب ثقافة الانفعال وموروث التضحية والشهادة، فعل ترفي في موروث هذه الأمة  التي رهنت مصيرها للتعلق بالقادة وكارزميتهم  الشخصية  متأثرة بمفاعيل العمل الوطني التحرري من الاستعمار، فمن فوهة البندقية تولد السلطة، تبعاً لماو تسي تونغ. 

حقيقة الأمر، أنه من فوهة البندقية يمكن فقط انتاج أفضل القيادات وأكثرها اكتمالاً، لكن الشيء الوحيد الذي لا تنتجه البندقية هو السلطة السياسية، حسب حنة ارندت! ما جعل المنظور العاطفي لدول المنطقة وشعوبها  يخلط بين  حكام دولهم  السياسيين وبين  قادة التحرير الوطني آنذاك كعبد القادر الجزائري وعمر المختار وسلطان الأطرش و  غيرهم الكثير من رموز التحرر الوطني. 

حكم الطغمة  العسكرية بنى أدلوجته  القومية  على فرادته وتعاليه، هو المثل والأفضل والملهم والقائد وصاحب النظرية، لايساويه ند ولا يأتيه الخطأ لامن تحت ولا من فوق، أختار لنفسه من أسماء “الله الحسنى ” الكثير ولربما أضاف عليها مالا تسمع به أذن ولم تره عين ولم يخطر على قلب بشر,  وتبعه سيل المصفقين من بسطاء القوم وعامة الشع ب،  وليس فقط بل انبرت الكثير من منابر الفكر في التنظير له مرة وخوفاً أخرى وتزلفاً وارتزاقاً مرات عدة، لا تنم  إ لا  عن خصا ء  معرفي ولربما  إنسان ي. ليطُرح على  الإنسا ن  العادي جملة من المفاهيم والمحاضرات والندوات من قبيل: فكوا الأسر عن الرئيس، الديكتاتورية الوطنية، والديكتاتور العادل وغيره  من الإرشاد  والاستلهام والاسترشاد فيما يطلق عليهم منظري السلطات ومثقفيهم بين مزدوجين ولربما أكثر. 

نموذج القيادة السياسية العسكرية المحلية: المطلق لا يشبهه نموذج آخر، لا يقر مطلقاً بالمشابه أو بامكانية بلوغ صباه، والأهم من هذا كله يمتلك بكل لحظة القدرة الإلهية في كسر وتحطيم كل من يجرؤ على النيل من جلال هيبته بكل أشكال الفرض والقسر التي وصلت لتحطيم المجتمع بأكمله، وهي ذات الحكومات التي لا زالت تردد شعارات الوحدة والحرية والموت لاسرائيل وهي تعمل على تحطيم المجتمع والدول ة  ذاتها التي يحكمها،  والتي تعتبر المعادل الموضوعي لوجود اسرائيل كدولة! 

قلة ممن أدركوا بالعمق أنها هزيمة مجتمع لم يبنى مؤسساته الحديثة بعد في ضوء ثقافة التنوير والحداثة، ثقافة حقوق الانسان ودولة المؤسسات لا سلطة الأفراد، ولم يختر بعد مقومات وجوده الحضارية، وان الحرب ليست امتداد للسياسة بأدوات أخرى، كما كان يردد كلازوفيتش، بل هي خلاصة تجربة مجتمعية في الإنتاج على كل المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والصناعية، وعند ذلك يمكن للمقومات الذاتية للدولة أن تشكل مقومات ردع بديلة عن فعل الحرب العنيف والمدمر.  وقلة من مفكرينا كأمثال ياسين الحافظ والياس مرقص وعبدالله العروي وغيرهم من تداركوا حجم الكارثة، وتوجهوا لدراسة بنى المجتمع و نقده، فحوصر فكرهم من صانعي الهزيمة وحيّدوا عن ساحة الفكر الجمعي وذهبت مؤلفاتهم في أدراج ومكاتب القلة القليلة من أبناء المجتمع مُتهمين بالخيانة العظمى ووهن الشعور القومي وإضعافه! ولم يدر ك العقل العربي لليوم أنه قد علق مشنقته وأسس لمحرقة المجتمع.

الفكر العربي اليوم وأمام متغيرات العصر الحالي، وأمام حركات الشعوب بالتحرر وما آلت إليه من انكسارات طالت المنطقة برمتها أمام ذات الحكومات التي كان يعول عليها بتحرير الأرض من اسرائيل، هذا الفكر عليه اليوم استعادة زمام المبادرة في حركة التنوير المجتمع ي الثقافي  العام،  والعمل على تغيير دفته من الدفاع عن سلطة قائمة أو سلطة بديلة، إلى مساحة العمل السياسية والمدنية واثبات أهلية شبابه وقدرتهم على الحضور السياسي والفكري والمدني وعبر مراحل زمنية. فق د  بات من الصعب اليوم الاكتفاء بمقولات المعارضة التي لم تستطع اثبات حضورها أمام حكم العسكر السياسي، بل شابهته في الكثير من الأفعال والأفكار، بل في ذات منظومات العمل السياسية، ما يشي بأنهما من ذات المنظومة الفكرية الأيديولوجية ولكن انقسمتا لسلطة ومعارضة… 

من هذه النقطة بالذات يمكن البدء بعكس مسار الهزيمة التاريخية المتكررة لليوم بأكثر من طريقة. ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.