في ذات ليلة باردة قبل انثي عشر عاماً، كنت أنظر بعين الذعر لمشاهد مجزرة غريبة من نوعها بُثّت مباشراً على شاشة التلفاز، وأنا حينها في الخالدية أحد الأحياء الثائرة بمدينة حمص، أترقب هل سيكرّر المشهد في حارتي وأكون الضحية التالية، وأتساءل ماذا قالت كلّ ضحية؟ وكيف لفظت أنفاسها الأخيرة؟ هل نُسيت تلك المشاهد أم أنَّ ذاكرة الموت ستطوى ونصافح القاتل؟
في مثل هذا اليوم من السادس والعشرين من العام ألفين واثني عشر هاجم قطعان الشبيحة مصحوبين بعناصر الأمن العسكري حي كرم الزيتون، حينها تفاجأ أبناء الحي بقدوم من يفترض جارهم الذي شاطرهم الخبز والملح ها هو يحملُ سكينه بيد وبندقيته في اليد الأخرى، ها هو يُعمل حقده في أجسادهم الغضة دون شفقة أو رحمة!، لتكون هذه المجزرة فاتحة لسلسلة مجازر طائفية من أجل إسكات صوت الناس وإعادتهم إلى حظيرة الطاعة بعد إرهابهم بالموت طعناً وكأنّنا في العصور الوسطى!
بالاستناد إلى ناجين من تلك المجزرة ومراجعة التسجيلات المصورة، عملتُ على إعادة التوثيق، فكانت الحصيلة الموثقة بالاسم 22 ضحية بينهم خمسة رجال وسبع سيّدات إحداهن حامل وعشرة أطفال (5 إناث و4 ذكور إضافة إلى جنين)، في حين نجت طفلة رضيعة وشقيقها من القتل بعد إنقاذهما عبر إخراج الرصاصات من جسميهما ومازالت ندوب الجراح حتى اليوم شاهدة على المذبحة. وجاءت المجزرة بعد أن حاصر النظام الحي لثلاثة أيام استهدفه بالقناصات وقذائف الهاون ما أوقع ما لا يقل عن ثلاثين قتيلاً وعشرات الجرحى.
لعلّ من ازدواجية المعايير اليوم، أن تجد من يدعوك لمصالحة المجرم الذي لا يشبع من دمك، بينما يؤكد القانون أنَّ الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، أيّ مهما مرّت السنون على الجريمة فلا بدَّ من محاسبة المجرم، وأيّ مجرم هذا! عندما نتحدث عن جرائمه لا تسعفنا الكلمات ولا تتسع صحف العالم بأسرها لهول ما فعل ويفعل بشعب قُتّل وذُبّح وهُجّر أمام شاشات التلفزة.
وهو حتى اليوم محروم من أبسط مقومات الحياة بعدما هُدم منزله وسُرقت أرضه وانتهك عرضه، وما يزال الجاني يتلذذ بتعذيبه، ولا يعلن مصير من اعتقلوا في أقبية سوداء لا ترى النور باردة كدم الجلاد، ليعيش ذووهم غصة يومية، فلا هم يطمئنوا بالترحم على أبنائهم كشهداء، ولا يتوقفون عن الدعاء لعودتهم ويخنقهم الألم المشفوع بألف أمل ووهم.
من نتائج المجازر الطائفية سواء في حمص وريفها أو باقي المناطق السورية الثائرة، التهجير القسري الذي كان قبل العام 2014 بشكل عشوائي حيث تخرج العائلة بثيابها دون حقائب وحتى دون أوراق ثبوتية، يواجهون رصاص القناصات ويُستهدفون بقذائف الهاون في أثناء فرارهم نحو المجهول، ليغدو تهجيراً منظماً بالحافلات الخضراء بدأ من مدينة حمص لترعاه روسيا لاحقاً عبر مسار أستانا، ويضجّ شمال البلاد بالمخيمات.
النظام “الطائفي” في بداية الثورة لعب على وتر الطائفية وجنّد أبناء الطوائف الأخرى لقمع المتظاهرين، ويهدف من المجازر الطائفية وما سبقها من محاصرة للأحياء وقصفها بالهاون، إلى دفع المتظاهرين للتسلّح، لذلك تُعدّ هذه المجزرة بداية الحراك المسلّح ضد النظام في حمص، بعد أن كان موجهاً فقط لحماية المتظاهرين.
ربّما هنا لا يسعني الحديث عن جرائم النظام اللامتناهية، لكن أود تذكير من نسي أو يجهل بأبرز المجازر الميدانية الطائفية في محافظة حمص والتي تتشابه بالطريقة والقرب الجغرافي لمناطق موالية للنظام، حيث كانت الأولى التي ذكرناها في بداية المقال، وتلتها في حي السبيل في السادس من شباط عام ألفين واثني عشر، راح ضحيتها 16 شخصاً ونجا منها طفل اختبأ في سقيفة منزله لخمسة أيام. فيما سبقتها بثلاثة أيام مجزرة حي الخالدية لكنّها عبر قصف الهاون الأول من نوعه على مظاهرة وما حولها راح ضحيتها 52 قتيلاً موثقين بالاسم.
لحقتها المجزرة الأكثر دموية من الثاني إلى الثامن من آذار/مارس بعد سيطرة النظام على أحياء بابا عمرو وجوبر والسلطانية راح ضحيتها العشرات، من ثم لم يشبع الجزار ليرتكب مجزرة في الثاني عشر من آذار/مارس في حي العدوية وحي الرفاعي في كرم الزيتون، التي وثقت “الشبكة السورية” 224 قتيلاً بينهم 44 طفلاً و48 امرأة، إضافة إلى مجزرة ثالثة في حي عشيرة المجاور، والتي وقع فيها أبناء حي الرفاعي بكمين بعد انسحابهم منه ليقتل منهم نحو سبعين شخصاً.
بينما شهد حي دير بعلبة مجزرتين ميدانيتين الأولى بنحو 200 ضحية في التاسع من نيسان/أبريل، والثانية بقرابة 100 قتيل وعشرات المفقودين في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر من العام 2012، في حين كان لمجزرة الحولة الوقع الأقوى بذبح 97 مدنياً بينهم 49 طفلاً و32 سيدة في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2012، تلتها مجزرتان بريف حمص الشمالي في السادس ومنتصف الشهر الأول من العام 2013، وضحيتها 105 قتلى في قرية تسنين و108 قتلى في قرية الحصوية نصفهم من الأطفال والنساء.
واليوم بعد كلّ هذه المجازر، نرى تهافت الزعماء العرب والمنطقة لمصالحة المجرم بشار الأسد، بالتأكيد فإنَّ الدول لها مصالحها السياسية، لكن هل يمكنهم أن يضغطوا على شعب يناضل بإجباره على مد يده لمصافحة قاتله، ولسان حالهم يقول في ساحات التظاهر: “لا تصالح على الدم.. حتى بدم!، لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ!
أقلب الغريب كقلب أخيك!، أعيناه عينا أخيك!، وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟” كما يقول الشاعر أمل دنقل. أيضاً يرددون ما قاله الزير سالم في قتلة أخيه وأبى الصلح معهم “لا أصلح الله منا مَنْ يصالحهم.. حتى يصالح ذئب المعز راعيها”، ونحن نأبى الصلح مع مجرم العصر، فذاكرتنا ما تزال حُبلى بصور من رحلوا، ودماؤهم ستبقى لعنة على الجناة وعلى من يمدّ يده إليهم.