قد كان عزاءً ومأتماً سورياً عاماً. عزاء يعيد للمسألة السورية حكايتها منذ البداية. حكاية الوطن الواحد، التاريخ والمصير والمصلحة الواحدة، حكاية وثورة الشعب الواحد، وأيضاً الكارثة الوطنية التي طالت جميع أبنائه بعد طول استنزاف سياسي.
هكذا كان يوم رحيل منتهى سلطان الأطرش، يوماً وطنياً يجدد في محتواه ومعناه وسياقه الروح الوطنية السورية، ويعيد التذكير بأولئك الذين لم تكن لهم غاية سواء البناء الوطني، الوحدة والهوية الوطنية، وبناء الدولة قبل أي مأثرة سياسية أو بحث عن موقع سياسي أو منصب ما أو شرعية ثورية طافحة. ومنتهى جمعت التاريخ والحاضر والقيمة الوطنية في شخصها، مثلت نقطة علام في تاريخ سوريا الحديث كما كان والدها في بواكير تأسيس نواة الدولة. هي التي رافقها الكثيرون ممن حاولوا بذات الخط والمسار الشاق، ولكنهم لم يجدوا سوى التهميش السياسي والإقصاء القسري عن ساحات المشهد السوري حتى يأتي يوم رحيلهم، وكأن قضاء الله وقدره أن ننسى وألا نتذكر إلا لحظة فراقهم وموتهم، يا ألم اللحظة بوجهيها: الموت وعدم استدعاء الذاكرة إلا لحظته.
سوريا وخلال أحد عشر عاماً مضت، تحولت لجملة من الجزر متباينة التموضع والأجندات، تكاد تضمحل فيها المعايير الوطنية وتنمو فيها شبهة المشاريع الانفصالية دونها، وتستحيل يوماً بعد يوم لجمل سياسية متشتتة لا تشبه ما بدأته الثورة إلا في رحيل وطنييها واحداً تلو الآخر، ومنتهى الأطرش اليوم تذكرنا بها وتجلدنا في موقع ما أضعناه وتناسيناه.
بالأمس، نعى السوريون بكافة أطيافهم وبيئاتهم السياسية والأهلية والمجتمعية منتهى سلطان الأطرش، ابنة قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش. منتهى ابنة 84 عاماً نعتها حارات دمشق وسكانها من القابون والكسوة ومساكن برزة، إلى حرستا ودوما في ريفها الشرقي، وصولاً لمنطقة الزبداني في غوطتها الغربية. تلك الحارات التي عرفت منتهى وهي تجوب فيها، تزور سكانها ومجالس عزائها منذ بواكير الثورة السلمية السورية 2011. تناصر شبابها التواقين للحرية والكرامة، وتقف في وجه الظلم والاستبداد، تقيم جسور التواصل المجتمعي بين أطياف الشعب السوري كافة، تحيي أبناءها وسكانها وتشد على التماسك المجتمعي، ترفض الاستبداد وتصر ببأس وجرأة على الوقوف في وجه الطغيان. تقدم مراسم العزاء وتأخذ بالخاطر، بالشباب السوري الذين تغتالهم رصاصات الأجهزة الأمنية وهم يجوبون ساحات دمشق في بواكير مظاهرات سوريا السلمية والمدنية. تلك المظاهرات والتواريخ التي ما زالت موطن ذاكرة حميمية نشتهي إعادة إحيائها مرة أخرى، نتوق لوجدانها وبراءتها من براثن السياسة ومكر التاريخ وعهر السياسات الإقليمية والدولية، تلك التي استهدفت تمزيق هذه الديار وتحويلها لساحة معركة وتصفية حسابات مصالحها على حساب الشباب السوري ووطنييه، على حساب التوق الجوال في الأفكار والنفوس في إقامة دولة الحق والقانون والعدالة لكل السوريين.
توفيت أم الشبان الثائرين، ولحقت بركب عريض من الوجدان السوري الذي قضى بألف طريقة، منهم من مات اغتيالاً، كالفنان السوري خالد تاجا، الذي لا يعلم أحد بدقة كيف؟ ومنهم من غيب في المعتقلات لا يُعرف مصيره لليوم كعبد العزيز الخير وخليل معتوق وناصر بندق، ومنهم من قضى في ساحات المعارك كالساروت الذي بدأها من حارات حمص متظاهراً سلمياً ومغنياً في ساحاتها، لتسوقه مسارات التحول في سياقاتها، لقائد فصيل عسكري، لمحارب بلا خبرة عسكرية تتقاذفه الأجندات المتأسلمة المشبوهة، وتطاله تهم التطرف والإرهاب، كحال آلاف الشباب السوريين. ومنهم من قضى قهراً كالفنانة مي سكاف، ومنهم من قضى نبيلاً متفهماً لمجريات الحدث السوري مذكراً بأنها ثورة، وأن إلباسها صفات سياسية وظيفية ما لن يخرجها عن معناها الوطني، سواء تأسلمت أو تعلمنت، فهي ثورة ضد الاستبداد، كصادق جلال العظم. وصادق العظم كان الكاتب والمفكر وزميل منتهى في المنظمة السورية لحقوق الانسان (سواسية)، وها هي تقضي بصمت مرير. والقافلة تطول ويزداد حلها وترحالها، فكل يوم ثمة مأثرة تحييها ذكرى موت، أو موت مكرر، تذكر بأن الوطنية السورية هي التي كانت مستهدفة منذ البدء: قتلاً واعتقالاً أو تهميشاً وإقصاءً، فيما كل شبهات المشاريع دون الوطنية كانت وما زالت محط تغذية وإذكاء.
ما يؤلم البقية منا أنهم يرون مستقبلهم قبل أن يأتي إذا ما بقي الحال على ما هو عليه، يرون ويعايشون التهميش والإقصاء، سيل التهم الجزافية، ونكران الخلان والمحيط، كما عاشت في سنواتها الأخيرة منتهى الأطرش. والأشد ألماً أنهم لا يلقون التكريم إلا لحظة موته. يا لغرابة حال هذا الوطن ووطنييه الذي لا يقام له تكريم إلا لحظة موت! فهل باتت تعويذة ترتديها سوريا منذ فتكت بها كل نعرات التفرقة والتشتت السياسي والغلو الطائفي، التي طالما حذرت منها منتهى وأقرانها، وكأنها كانت تقرأ الحاضر قبل حدوثه، وتسعى لتلافيه بكل ما حملت من ميراث وطني بني على التسامح والوفاء والإخلاص والبناء الوطني. فالدين لله وحده وليس لمخلوق على وجه الأرض، والوطن لجميع أبنائه، أياً كان دينهم أو انتمائهم السياسي والفكري أو الأهلي.. فإن كانت حياة منتهى حافلة بتاريخ وطني جسدته قولاً وفعلاً ولم تتراجع عنه، وإن كان لصمتها الأخير قبل وفاتها من معنى فهو ذاته ما يجب إعادة إحيائه مرة أخرى في مسألتنا السورية: لا نزاع مع الدين والإيمان، بل ذهاب عن عمد وقصد ونية في اتجاه بناء الدولة والمجتمع. لقد فتكت بسوريا والسوريين شتى صنوف النزاع المسلح والأيديولوجي وحرفت مساراتهم عن البناء الوطني، ما جعل الصمت مراراً موقفاً مراً. وما إعادة إحياء الوطنية السورية بذكرى وفاة وطنييه، وإحداهم منتهى الأطرش اليوم، سوى لنتذكر أن علينا أن ندرك قبل فوات الأوان أن البناء في الدولة والوطن يقوم به الوطنيون المتجردون من شبهات المناصب ومكاسب السياسة الآنية. وأن من أجج كوارث المسألة السورية هي تلك الأنفس التي لم ترَ في ثورتها سوى طريقاً للوصول لغاياتها الضيقة، منفعياً وسياسياً، فأقاموا مجزرة للقيم قبل أن يصبح الوطن بأكمله مجزرة كبرى.
خالص العزاء يا وطن.. فعزاء السوريين واحد، من القريا جنوباً لعين العرب شمالاً، ومن كفر تخاريم ورأس البسيط غرباً للبوكمال شرقاً، مأتمهم واحد ودربهم ومصيرهم واحد، وإن اختلفت طرقه. ليبقى هذا التاريخ مثار استذكار وحفيف بالذاكرة عنوانه: لا وطن بلا وطنيين، ولا دولة بلا من هم قادرين على حمل مشقّاتها الجسام، من قضى منهم ومن بقي لليوم ولجيل قادم يستذكر ويعمل ويبث روح الوطنية وإنارة دروب العتمة التي نعيش حتى وإن طال المسير.