[بقلم الدكتور برهان غليون]
بصرف النظر عن تعريف ما حصل في تونس في 25 يوليو/ تموز الماضي، تشكّل العودة إلى الحال الاستثنائية، سواء أطلقنا عليها اسم انقلاب أو حركة تصحيحية أو مواجهة للفساد، نكسة حقيقية للمسار الديمقراطي الذي أطلقته الثورة الشعبية التونسية (17 ديسمبر/ كانون الأول 2010). ولا تعني النكسة أن قضية الديمقراطية فقدت وهجها وراهنيتها لدى الرأي العام الذي تفاعل قسم منه إيجابياً مع تعطيل المؤسسات الدستورية واستلام رئيس الجمهورية السلطة الكاملة في البلاد. لكنها تشير بالتأكيد إلى فشل الأحزاب والقوى السياسية التي أنتجت النظام الديمقراطي الجديد، وفي مقدمها حركة النهضة، في توطيد أركان هذا النظام وتعزيز شرعيته وضمان تماسكه أمام المشاريع الانقلابية التي تواجه أي ديمقراطية فتية، أجاءت بفذلكة دستورية أم من دونها لا فرق، فجميع هذه الأحزاب السياسية التي شاركت في بناء نظام ما بعد الثورة، وتجسيداً لقيمها وتطلعات جمهورها، تتحمّل المسؤولية في وصول التجربة الديمقراطية التونسية إلى ما وصلت إليه، حتى لو كان لحركة النهضة النصيب الأكبر منها، لأنها كانت الحزب الأكثر نفوذاً وفاعلية في تسيير هذا النظام الجديد، أو بالأحرى في الفشل في تشغيله بما يحقق التطلعات التي كان الجمهور ينتظره منه.
وليس لهذا الفشل علاقة ضرورية بالأيديولوجية الإسلامية التي ترفع لواءها “النهضة”. كما لن يعمل تهميش الحركة أو إخراجها من المنافسة السياسية على تحسين الإدارة أو الارتقاء بأداء الأحزاب الأخرى المنافسة. بل، على الأغلب، إنه سيفاقم من عجز النخبة السياسية التونسية بأكملها عن بناء نظام سياسي أكثر استقراراً، وأقلّ من ذلك قدرة على الاستجابة الفعالة لتطلعات الجمهور الغاضب. ومن الصعب لهذه الأحزاب أن تضمن وحدها العودة إلى أي نظام ديمقراطي، والحيلولة دون المغامرات الشعبوية التي تشجّع عليها اليوم ظروف تونس ومحيطها، مهما كان سببها ومبرّراتها، سواء أجاءت من داخل النظام أو من خارجه.
عجزت جميع الأطراف، إسلاميين وعلمانيين، أي الطبقة السياسية جملة، عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدّي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية
وبالمثل، لا أعتقد أن سبب النكوص الشعبوي هو النظام البرلماني لما أتاحه من فرص زادت من تفتّت القوى المكلفة باتخاذ القرار، ومن إشعال روح التناحر والمناكفة لدى نخبةٍ سياسية منقسمة وضعيفة الثقة ببعضها بعضاً، وخاضعة لضغوط البيئة الإقليمية الشديدة التوتر والانقسام. ربما كان من شأن نظام رئاسي أن يتغلب بشكل أفضل على تشتت الأصوات واستسهال المماحكات والنزاعات داخل المجلس النيابي، وأن يسهّل توحيد الكلمة وتنفيذ القرار، وأن يكون بالتالي أكثر فاعلية في مرحلة انتقالية صعبة، وظروف اقتصادية سيئة فاقمت من آثارها الأزمة الصحية العالمية، وضعف الخيارات الداخلية والخارجية. لكن خيار النظام البرلماني لم يكن، في اعتقادي، إلا تعبيراً عن ضعف الثقة بين الأطراف، وتطميناً للقوى والأحزاب الضعيفة على دورها ومشاركتها. على جميع الأحوال، ليس هذا هو السبب في وصول النظام الديمقراطي إلى المأزق الذي “برّر” الانقلاب الذي لا نعرف بعد أيضاً أبعاده ولا مآله، ولا أعتقد أنه يمكن أن يشكّل نهاية المسار الديمقراطي.
للأسف، لا يرى الكثيرون من هذا الحدث الخطير سوى الصراع المديد والعقيم معاً بين إسلاميين وعلمانيين، أي صراعاً على تقاسم النفوذ والسلطة، ومن ورائها الثروة التي تتناقص باستمرار، بمقدار ما تتراجع قدرة النخب الاجتماعية على التفاهم حول برنامج عمل وطني واحد لتعبئة الرأي العام والموارد المتاحة المادية والمعنوية لإنقاذ البلاد وتجنيب الشعب مصير بعض البلدان العربية التي تغرق اليوم في البؤس والفقر والحروب الأهلية.
يمكن للمعادين أو الخائفين من الإسلامويين أن يبتهجوا لرؤية منافسيهم السياسيين يخسرون رهانهم، وربما يخرجون من السباق. ويمكن لأنصار الإسلاموية في تونس والعالم العربي أن يعترضوا على لا شرعية الانقلاب. لكن المسألة ليست هنا، فلا أحد من جمهور الشعب الذي شارك في الثورة أو خرج تأييداً للانقلاب يهمّه من هو الرابح والخاسر من هذا الصراع، فهذه الرهانات السياسوية الضيقة الأفق لا تكاد تعني شيئاً اليوم عند الرأي العام، ولن يكون لها قيمة ولا أثر، أي لن يقدّم ولن يؤخر شيئاً، أمام عجز جميع الأطراف، إسلاميين وعلمانيين، أي الطبقة السياسية جملة، عن تحقيق أي برنامج إصلاح جدّي ينقذ البلاد من تدهور الأوضاع المعيشية، ومعه تفاقم التناقضات والتوترات والإحباطات والمشاحنات. وهنا يتكرّر الشعار ذاته الذي نسمعه في كل مكان “كلن يعني كلن”. المهم بالنسبة للجمهور الملوّع والمهدّد في أمنه الغذائي وصحته وتربية أبنائه هو مشروع هذا الإصلاح الذي يتوقف عليه مصيره وشروط حياته ومستقبله، وليس أي شيء آخر. نحن هنا أمام الدرجة صفر من السياسة وعلى حدود التمرّد والانتفاض.