تليسكوبنا جيمس “ستوب” فكراً ووجداناً وعملاً


أجل، هو تليسكوب جميس “ستوب”، جميس توقف خاصتنا، وشدة الغرق في مرايا ذواتنا الواهمة وتوقف الزمن لدينا: “نحن خير أمة أخرجت للناس”، “نحن من صنع الثورة”، “نحن أصل الحضارات” 
والأدهى مقولة “نحن أم الصبي”، ويا ويح تخثرنا المميت! نغرق في مستنقع وهمنا، في امتلاكنا وهم الشعور بالتفوق ونحن في أدني سلم الحضارات. والأدهى لا نعمل، لا نريد أن نعمل، وكل من يحاول منا أن يعمل نغتاله بألف طريقة وطريقة. فكانت وما زالت مرآتنا، مرآة وهم ذاتي وتوقف للزمن وموت بطيء بإرادتنا الجمعية وسقوط في ثقبنا الأسود طوعاً
أما، ولمقارنة لا تكتمل أركانها، لكن قد تنفع الذكرى، تليسكوب جيمس ويب يبحث في تاريخ الزمن، في الأكوان الأخرى، في إثبات أو نفي فرضية الحياة الأولى. ودلالة عمله هي قدرة العلم على إقناع السياسة في جدارة البحث العلمي؛ ودلالة على استقرار دول، نسميها “الإمبريالية”، واستقراراها الاقتصادي والمادي والعلمي والسياسي، وقدرتها على تفريغ علمائها للبحث العلمي في شتى شؤون الحياة، حتى وإن كانت في علوم الفضاء البعيد، وهذا موضوع آخر ومقال مختلف
أستاذنا المرحوم أحمد زويل، ولحظ رائع أن التقيته مرة في مؤتمر، قال وكرر: الغرب ليسوا أفضل منا، فقط هم يدعمون الفاشل لينجح، فيما نحن نصر على تهديم وتحطيم كل ناجح، نصر عمداً على إفشاله. وأضيف: نصرّ على قتله ووأده، حتى نُبقي على نرجسية قصورنا وتفوقنا الواهي، متكئين على أرائكنا نستسهل التنظير الأجوف والأحكام المسبقة والتبرير، تملؤنا قناعة لا أحد أفضل مني. يا له من زمن رديء
في تجربة أجريت على القرود، وضعت مجموعة من القرود في قفص، ووضع على عصاة مرتفعة موزة، كان كل قرد يحاول الوصول للموزة يضربه صاحب التجربة وينزله قبل الوصول للموزة. وكلما حاول قرد الوصول للموزة يكرر صاحب التجربة ضربه أمام البقية وينزله، حتى ضرب جميع القرود. عندها أدخل المجرب قرداً جديداً لحقل التجربة، وعندما حاول الوصول للموزة، قامت القرود بضربه وإنزاله هذه المرة. وتبدو هذه هي مرآة تليسكوبنا لليوم، مرآة ثقافية لا تعكس إلا تجارب العسف النفسي والهوان والانجرار لهزيمة بعضنا بعض نفسياً ووجدانياً، فكرياً وعلمياً، فلا عجب أن هذا هو حالنا لليوم
لست بوارد التحليل النفسي في اختصاص واسع لا علم لي به، ولست بوارد بث الإحباط والخذلان، بل على العكس من هذا، نحاول جاهدين معاينة واقعنا الفكري والثقافي في محاولة لتشخيص أمراضنا وأوجاعنا، علنا ندرك علاجاً، أو خطة علاج لأحوالنا المتردية. فإن كان تردي أحوالنا السياسية والاقتصادية نحيله لسلطات العسكر، فنحن من أوصل العسكر للحكم ووضعناهم كصاحب تجربة القرود علينا، وإن كان لا حل لنا إلا بتغير دفة الحياة والانتقال لضفة مختلفة منها حيث الحرية والأمان تستلزم تغير حكومات العسكر المتسلطة علينا، فربما علينا أن نرقب ثقافتنا وفكرنا وطرق تعاملنا مع بعض، نحن من ندعي أو نحاول او اجتهدنا في معادلة التغير، ماذا نفعل؟ وماذا نقيم؟ وأين نقف من المختلف منا وطرق علاجنا لمعيقات التغير المنشود؟
أثبتت سنوات ربيعنا أنه رغم محاولة التجدد والانبعاث، رغم محاولة جيل عريض منا بالتغلب على كل معيقات الواقع الراهن السياسي والأمني والعسكري، رغم مغالبة الموت والقهر، ورغم نجاحاتنا الكبرى بداية، لكن فشلنا. بل هزمنا، ولم تهزمنا سلطات العسكر وحسب، فتلك موازين قوى تحتاج لدراسات أخرى، بل هزمنا بعض ومارسنا كل صنوف إفشال الناجحين وتحطيم قدراتهم وإمكانياتهم، تلك التي ربما كانت ستصنع الفارق بين توازن القوة بين سلطات العسكر وأطراف المعارضة بكل صنوفها وترجح كفة التغير لجهة الإنصاف والعدالة، لكن… لقد اجتاحتنا، بل تنامت وتضخمت بين أوساط هذه الفرق نزعة التفوق الأيديولوجي الواهمة، نمو “الأنا” مفرطة التمدد بلا حدود، استخدام اللغة العنفية الرافضة قطعياً للآخر، تنامي البحث، بل تصيد مغرض لمعنى مختلف، ورده لمركزية فكرة تحملها ذاتٌ آيديولوجية أو نفسية نرجسية لا ترى سوى ذاتها المضخمة. ضخمنا نقاط الخلاف، وتعامينا قصداً عن المشترك ونقاط التفاهم، بيننا حواجز الظلم النفسي ولغات التخوين والتقريع لكل من حاول واجتهد وغرد خارج أسراب الهزيمة المعلنة والأيديولوجيات الفاقعة. وربما لو أجري أي بحث كمي لمتابعة صفحات التواصل الافتراضية أو متابعة اللقاءات الفيزيائية لتبدت هذه الظواهر وهي تجتاح ساحات الحوار المفتوحة بين السوريين، كدلالات على محتوى نزاع فج يسمى بخطاب الكراهية تصنيفاً حديثاً، فيما هي بالجذر دلالات على تليسكوب فكرنا المتوقف عند ذواتنا وحسب التي تجتاحها كل نزعات الهدر الوطني العام في القيم المدنية والتحررية والعصرية، تلك التي باتت معالمها ومحدداتها شديدة الوضوح، والتي أعيد جزء منها للحوار اليوم
لليوم، ورغم تردينا السياسي، ورغم سياسات العبث في مصيرنا، ما زال الكثير منا، خاصة سياسيو المرحلة يحملون تلك الأنا النرجسية ونزعة التفوق الواهية المرافقة لها. تلك النزعة ذات الدلالات التي باتت لا تخطؤها عين

نزعة الوهم والتفوق الآيديولوجي المتمثلة بالرفض السياسي النخبوي للاختلاف، وتقديم الانكماش والتمترس على الانفتاح والحوار. إقامة الحواجز المعرفية بين مشاريع “ماركسوية” أو “قوموية” أو “إسلاموية” أو ما دون هذا وذاك في المشاريع ما دون الهوية الوطنية انفصالياً، وكل أدلوجة تدعي تفوقها على الأخرى، وتحمّل الطرف الآخر المسؤولية الوحيدة عن حجم الكارثة السورية في نموذج يشبه ثقافة الشماعة وتعليق أخطائنا عليها تبرئة للنفس وإرضاء لوهم التعالي المفرط هذا. نمو “الأنات” المتعالي دون البحث عن المشترك الوطني العام، مختلفة كلية عن المسؤولية التاريخية التي نبحث عنها، لترتقي لحجم التضحيات الجسام لأجيال من الشباب المتعاقبة
نزعة التفوق الآيديولوجية هذه تجلت بعدم أو ندرة وجود مراجعات نقدية خاصة وعامة بقدر التشدد بالتمسك بالأخطاء المعرفية وتبريرها منفعياً، مع وحدانية في فرض اللون السياسي لهذه الأدلوجة خلاف غيرها، وهذه التي كانت قد أقامت سلطة البعث الوحيدة والمهيمنة والتسلطية والتي كانت أصل الحدث والثورة ضدها، لتمارسها ذات الأداليج لليوم وعنوانها الأبرز التبرير ثم التبرير، وهذا مختلف عن البحث في الأسباب والعلاج

الدلالات القهرية لتنامي ثقافة الكراهية ونشرها عبر الإعلام الموجه والتفريق بين الأقليات والأكثرية على أساس مذهبي يلغي شرط التعاقد الوطني على مفهوم المواطنة أولاً، ويلغي التنوع المجتمعي كحق وجودي ثانياً، ويحيل الجميع لنزعة هيمنة مركزية ذات سطوة تفترض البرهان عليها جزافياً

التداخل غير المشروع بين الهوية الذاتية السورية والمشاريع الدولية، والتي تشير إلى “تداخل الذات الداخلية مع العالم الخارجي أو مع ذوات أخرى”. والمتمثلة بارتهان الحل السياسي للتدويل بطرق متباينة، الروسية “السوتشية”، و”الأستانية”، أو الأممية “الجنيفية” والمنقوصة للقرار 2254/2015 لحكومة انتقالية غير قابلة للتنفيذ لليوم، وكل فريق داعم لإحدى هذه الحلول يجد مصلحته فيها دون الأخذ بمصالح وحق السوريين العام، في بوتقة وهم عام، سواء للحل بهذه الأداة أو تلك، تغذّيها ذات النزعات التفوقية آيديولوجياً على باقي الأطراف
ربما، اختصرت وكثفت، ربما لا يتيح المقال أكثر من هذا، وربما أنا نفسي متوقف عند زمن معين وهنا حق النقد، لكن… لكن ما لم نحدث مرايانا ورؤانا ونعيد تقيم تجاربنا، ونصغي جيدًا للرؤى المختلفة ونفتح الطريق أمام الإبداع والاختلاف، فسنبقى رهن أوهامنا، ذواتنا المتماوتة، وسنبقى عرضة لمشاريع الدول تقتات من تاريخنا وحياتنا ومقدراتنا وتسعى لتقسيمنا وتفتينا حسب مصالحها. فيما نحن “ننكر” و”نستنكر” و”نشجب” ونمارس هوايتنا المفضلة والمريحة والمفرطة بالوهم ونغتال الاختلاف والوجدان والفكر والعمل المختلف، إلى أن يشاء الله فينا، ولنا فعل مختلف وقول آخر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.