هل تستطيع السويداء، بساكنيها الأغلبية من الأقلية الدينية المسماة بالموحدين الدروز، إيجاد حل منفرد لمعادلة واقعها الاجتماعي والسياسي اليوم، خاصة وأن سوريا تقع تحت وطأة ظل تباين المشاريع السياسية متعددة الأطراف والجهات، والتشظي العام السوري واستعصاء حله؟ وهل يمكن تحميل أبناء هذه الأقلية حلولاً سياسية لا تمتلك مقوماتها؟ وهل تكتفي بحلول مؤقتة تدفعها إليها المرحلة الحالية؟
أسئلة تبدو إجاباتها سياسية بالبداية، لكن إجابتها الأكثر عمقاً هي البعد المجتمعي القادر على توجيه دفة السياسي بحكمة وفطنة
في سياق الأوضاع المستجدة في السويداء، وبمتابعة أحداثها العامة التي جرت الفترة الماضية، فقد وضعت السويداء قبل أعوام بين معادلتين أحلاهما مر: بين تطرّف الإرهاب الداعشي الخارجي والإخضاع بالسطوة العسكرية للسلطة محلياً، ولكنها اختارت فطرياً الالتحام الأهلي لمواجهة ما يهدد وجودها كأقلية تخشى بمورثها التاريخ تهمتي التكفير الديني وإرهاب السلطات. ومع هذا، ورغم هزيمة داعش، حافظت على علاقة مضطربة مع السلطة القائمة. فيما هي اليوم فقد وضعت بين فكي الاحتراب الداخلي المحلي أو الرضوخ لحكم الميليشيات والعصابات الذي يأنفه أبناؤها، على أن رفض كليهما يعني أن تطلب تدخل السلطة مباشرة وفرض هيمنتها المباشرة كسابق عهدها، ما يعني إرضاخ السويداء وتفكيك قواها المحلية الرافضة للانجرار معه في معادلته العامة في كل سوريا: النظام أو الإرهاب، ويضع السويداء اليوم أمام معادلة: النظام أو حكم الميليشيات. وفي المقابل أي طرح أهلي لرفض هذه أو تلك سيقود السويداء جدياً للبحث في معادلة الإدارة الذاتية الدرزية التي لا تمتلك مقومات الحياة السياسية ولا الاقتصادية، والمرفوضة أصلاً من حيث العمق الوطني الذي يتمسك فيه أبناء هذه الأقلية وعدم الانجرار للمشاركة في المقتلة السورية
الأجوبة السياسية تبدو الأسهل للقول، وكثر من يستسهلون طرحها، سواء بالانضواء تحت جناح السلطة السياسية القائمة، أو التفكير بدولة درزية ذاتية الحكم، أو إمكانية تحميل السويداء مشروع حل سوري عام لا تستطيع تحمله بمفردها. أجوبة نظرية تستهل القول السياسي، لكن الأصعب والأكثر تحدياً هي الأجوبة المجتمعية التي قد تؤسس لفعل سياسي وطني نتساءل جميعاً حول كيفية إنتاجه
خيارات السويداء اليوم باتت واضحة ومحددة أكثر من وقت آخر مضى، فهي بالعمق خيارات قيمية مجتمعية عامة مفادها
تحكيم العقل، والعقل حد إيماني/ معرفي لأبناء هذه الأقلية تستقى منه، حسب المعتقد الديني، نور المعرفة الكلية باتجاه “الخير المطلق”، وهو سمة التعامل الزمني مع متغيرات الأحداث بذات الوقت. تحكيم العقل تعبير عن الجدارة والاستحقاق في إدارة القيم الأخلاقية والتمسك بها وكيفية جعله حجة معرفية عامة واستحقاق زمني حسب متغيرات الواقع. ومؤشرات هذه كانت في تأخير أي مواجهة عسكرية تأتي بالقتل لأي طرف، ففضلت الحلول الأهلية والمجتمعية، وقدمت خطاب تفعيل مؤسسات الدولة بضبط العصابات والفلتان الأمني، وتظاهر أبنائها سلمياً مرات ولسنوات، قبل أن تلجأ لحل اجتثاث العصابات بالقوة
رفض القتل، والقتل إحدى كبائر هذه الأقلية التي لا تبرر، ولا يجوز تحليله إلا إذا أقرّته مرجعيتها الروحية حين تستعصي حلول العقل، وهنا تبرز المسؤولية، كفهم عصري وقانوني ومدني لا يجوز تشريعه أو استسهاله. ورفض القتل هو الموقف العام لهذه الأقلية طوال السنوات الماضية بحرمة الدم السوري من كل الأطراف، ورفض الانجرار للمقتلة السورية، وهو ما تم استثماره بتمدد العصابات فيها، لكن “طفح الكيل” أخيراً، فكان الاجتثاث عنوان مرحلي ليس إلا، يجمع حدي التعقل وعقاب العصابات بأكثر من طريقة وكشف مشاريعها
الاعتداد بالكرامة الذاتية وبالموروث القيمي وأنفة النفس وحسن العلاقات البينية ومع الجوار، وأخذ الدور المنوط بها في توطيد هذه العلاقات بالأمر بالمعروف وإغاثة الملهوف ومنع التعدي منها وعليها. لتغدو الفاعلية عنواناً واضحاً في المعادلة الاجتماعية، والفاعلية هنا مقياس القدرة على الالتفاف المجتمعي حول معادلة القيم العامة بالمبدأ
الجدارة، المسؤولية، والفاعلية، هي مقولات عصرية في بناء المجتمعات والدفع بها نحو الازدهار والانفتاح. هي ليست أطراً مثالية وأخلاقية أو تعاليم دينية وحسب، وإن كان جذرها القيم الموروثة إنسانياً عبر التاريخ البشري، بل هي أيضاً صيانة للحقوق المجتمعية العصرية وفقاً للقوانين المدنية التي تقوم على تنفيذها سلطة القضاء المستقل والنزيه كسلطة ثالثة تحتكم للقانون الوضعي والتعاقد المجتمعي دستوراً. وإعطاء أصحاب الكفاءة مواقعها المجتمعية وعنوانها العريض التنافس العام وحرية الممارسة التي تفرز الأصلح والأجدر لوظيفة أو منصب أو موقع مجتمعي أو سياسي، فيما تكون المسؤولية هي الجواب الأكثر إلحاحاً في إدارة شؤون الدولة والمجتمع
السويداء اليوم تحمل هذه المقولات قيمياً، وهذا ليس إطاراً مثالياً مكتملاً، بل كفة قيمية راجحة مجتمعياً. ومع أنها يمكن أن تؤسس لعمل مجتمعي عام يفضي لمحددات سياسية واضحة، لكن أجوبة السويداء السياسية لليوم لم تتجاوز حدود القدرة والممكن. هذه الأجوبة تمثلت برفض حكم العصابات والمشروع الإيراني في المنطقة، ورفض تغول الأجهزة الأمنية وكشف تعاملها معها. تفعيل دور السلطات القضائية وضمان استقلالها بكف يد الأجهزة الأمنية عنها ورفض الاعتقال والتعدي على كرامة وحرية المواطنين ورفض سوق أبنائها للمقتلة السورية من خلال الالتحاق بالجيش عنوة
هذه المعطيات السياسية لم تحمل لليوم على أي معطى انفصالي، بل التأكيد على الدور الوطني لهذه الأقلية في المعادلة السورية منذ الثورة السورية الكبرى 1925، والتأكيد اليوم على ذات الدور وأنها جزء من الوطن السوري، رغم وجود كثير من الأصوات السياسية التي ترفع صوتها مرة بالانفصال عنه، أو الرضوخ لسلطته المركزية، أو شن حرب مفتوحة على السلطة. ومع هذا تبقى أصوات محدودة لا ترتقي لمستوى المسؤولية والعمق المجتمعي القيمي المتمسك به غالبية أبنائها
لا أرغب بتزيين الطريق أو تجميله بأحلام وأوهام ومثلٌ، في المقابل، لا يمكنني بثّ التشاؤم والإحباط، وبين هذه تلك يمكن للبعد المجتمعي أن يحيّد كلاهما، وذلك إذا ما ترسخت المعادلة المجتمعية كمحدد لأي ممكن أو خيار سياسي، إذ إن معادلة السويداء السياسية الممكنة، هو المعادلة السورية العامة وحلها بالتغيير العام الذي يضمن الوصول لدولة القانون والمؤسسات. وهذه يمكن تحريك معطياتها المستعصية إذا ما وجد أبناء السويداء الأيدي السورية الوطنية تمتد إليها كما كانت أيادي البرجوازية السورية الوطنية في 1925. فإن كانت تلك المرحلة مرحلة حرب تحمّلت السويداء كلفتها البشرية بغالبيتها، فيمكن اليوم لذات الأيدي الوطنية السورية أن تمتد لأبناء السويداء لكن من بوابة السلم والاستقرار والأمان، وإعادة إحياء معادلة السوريين جميعاً في الحرية والتغيير
هي محددات عمل وطني قيمي اجتماعي يمكن أن يبدأ اليوم قبل الغد، ويمكن أن ينتج في القريب العاجل، وأيضاً يمكن أن يجعل المعادلة السورية معادلة هوية وطنية يشارك في صناعتها السوريون جميعاً، كل حسب قدرته وكفاءته ومسؤوليته وجدارته. والله من وراء القصد والنية والرؤية
دكتوراه في الفيزياء النووية
المقال السابق
المقال التالي