المحتوى البعثي لنظام الأسد

[بقلم أ. حسن النيفي]

فيما يستمر نظام الأسد في التدمير الممنهج للدولة السورية وحياة السوريين معاً، نجد من جانب آخر ثمة أصواتاً ما تزال تحرص على وجود نخب داخل حزب البعث ( حزب السلطة في سورية) لها توجّه ربما بدا مغايراً لما تذهب إليه السلطة، ويضيف أصحاب هذه الأصوات بأن هذه ( النخب البعثية) حاولت في بداية انطلاقة الثورة واشتعال المدن والبلدات السورية بالاحتجاجات الشعبية، أن تقدّم وجهة نظر تتضمن حلولاً إصلاحية لتفادي الانفجار الشعبي في سورية، إلّا أن رأس النظام آثر الانصياع لمنظومة العسكر والمخابرات وأدار ظهره لأصوات رفاقه الحزبيين، مؤثراً الحلّ الأمني على أية حلول مقترحة أخرى.

وقبل التحقق من صحّة ما تشيعه الأصوات الحزبية، ينبغي التأكيد على أن مؤسس الدولة الأسدية ( حافظ الأسد) لم يختلف أو يتوافق، أو يعادي أو يتحالف، مع أي طرف أو جهة، أكانت دولة أو جماعة أو أشخاص، لأسباب حزبية، أي ذات صلة بجانب فكري أو تنظيمي لحزب البعث، وإنما كانت خلافاته وتحالفاته وعداواته وصداقاته كلها، إنما تعود لأسباب سلطوية، أي ذات صلة مباشرة بالسيطرة على الحكم والاستئثار بالسلطة. فضلاً عن ذلك، فإن حافظ الأسد استمدّ سطوته داخل حزب البعث من خلال نفوذه العسكري المنبثق من تحالفاته السرّية ضمن مجموعة ضباط ( اللجنة العسكرية ) التي تشكلت عام 1958 ، وضمت كلاً من ( حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران وأحمد المير وعبد الكريم الجندي)، وإذ لا يتسع السياق للحديث عن تلك اللجنة ودورها في التأسيس لحكم طائفي في سورية، فمن الأجدى التركيز على التاريخ القريب للدولة الأسدية.

يحكم آل الأسد الدولة السورية منذ نصف قرن، بدأها حافظ الأسد بثلاثين سنة، ومن ثم استمر الوريث بشار حتى الوقت الراهن، ولعل المتتبع للشطر الأول من عمر الدولة الأسدية 1970 – 2000 ، يجد أن المسار العام لنهج حافظ الأسد يدحض أيّ حضور حزبي فعّال في رسم سياسة الدولة، ولئن كان من الصحيح أن الدستور في سورية قد حفظ في مادته الثامنة قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، إلّا أن هذا الامتياز قد سلبه حافظ الأسد كلّياً واستثمره لصالحه الشخصي حين اختزل الحزب والدولة بالسلطة التي قد أحكم قبضته عليها بكل قوّة وإحكام، بل وجعل من حزب البعث كياناً شكلياً يخضع خضوعاً مباشراً للسطوة الأمنية، فضلاً عن أن تراتبية المناصب داخل الحزب ذاته وكذلك الترفيعات إنما تخضع جميعها للتزكيات الأمنية، وليس وفقاً لأي معايير أخرى، فالإخلاص للحزب إنما يتجسّد بمقدار الولاء للسلطة والامتثال المطلق لما تراه القيادة، سواء أكان ذلك منسجماً أم مخالفاً لأفكار الحزب وتوجهاته، الأمر الذي يعكس من جهة أخرى، نزوعاً عاماً في صفوف حزب البعث في سوريا نحو الامتثال المطلق والانقياد القطيعي للسلطة السياسية وأداتها التنفيذية الضاربة والمتمثلة بالأذرع الأمنية، ولم يشهد حزب البعث طيلة الحكم الأسدي أي ظاهرة احتجاج أو إبداء رأي مخالف للسلطة، بل كانت بيانات الحزب تأتي لاحقة وداعمة للفعل السلطوي، وذلك على الرغم من إقدام نظام الأسد، ومنذ وقت مبكر، على العديد من المواقف التي كان من المفترض أن تثيراعتراضاً ما ، نظراً لحساسيتها وصلتها الوثيقة بالبرامج الحزبية المعلن عنها، فمن ذلك على سبيل المثال: العدوان الذي شنّه حافظ الأسد على المخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1976 ( مخيم تل الزعتر)، حيث أودى ذلك العدوان بحياة ( 3000 ) فلسطيني من المدنيين داخل المخيم، ولم يلحظ أحدٌ آنذاك أي احتجاج أو اعتراض من حزب البعث الحاكم في سورية أو أحد امتداداته في الخارج. وكذلك لم يلحظ أحدٌ أي اعتراض على انسلال حافظ الأسد من المظلة العربية ودخوله في محور إيران حين وصول الخميني إلى السلطة عام 1979 ، والجدير بالذكر أن الأسد آنذاك كان ينضوي تحت مظلة تتألف من عدد من الأقطار العربية تُدعى ( جبهة الصمود والتصدي) التي تشكلت ردّاً على زيارة السادات للقدس عام 1977 ، وقد كشف تحالف الأسد مع إيران طيلة قيام الحرب العراقية الإيرانية ( 1980 – 1988 ) عن فحوى التوجّه الأسدي المتمثل بالنزوع الطائفي الذي طغى على أي نزوع بعثي أو عروبي آخر، ولعل المفارقة تكمن في أن الخميني لم يكن يخفي كرهه الشديد لحزب البعث، بل يصرّح جهاراً بأن شرطه الوحيد للقبول بإيقاف الحرب مع العراق هو سقوط حزب البعث العراقي من السلطة في بغداد، ولكن على الرغم من موقف الخميني المعادي ليس للبعث فحسب، بل لكل ما هو قومي أو عروبي، فإن علاقة الأسد مع طهران كانت تزداد وثوقاً وتماسكاً، ولعل الأهم من ذلك آنذاك، أن الخطاب البعثي في سورية كان مؤيداً بالمطلق لنهج الخميني سياسياً وعسكرياً حيال الدول العربية.

ولعل الانعطافة الكبيرة في مسيرة حزب البعث في سورية باتت أكثر وضوحاً ومفصليةً ، في نهاية سبعينيات القرن الماضي ومطلع الثمانينيات، وعلى أعقاب المواجهات الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة في سورية، وكذلك على أعقاب المجازر المروّعة التي ارتكبها النظام  في حماة وحلب وجسر الشغور، إذ أقدم حافظ الأسد وأخوه رفعت، على تحويل التشكيلات الحزبية إلى ميليشيات عسكرية رديفة للأفرع الأمنية، وخاصة في صفوف الطلبة، إذ أقدم رفعت الأسد على تشكيل ميليشيا أطلق عليها ( المظليون) وكانت شبه تابعة لسرايا الدفاع، وقد كان يحظى عناصر ميليشيا المظليين بامتيازات كبيرة، أبرزها الاستثناءات في القبول الجامعي، إذ يحصل المظلي على ( 40 ) درجة مضافة إلى مجموعه العام في الشهادة الثانوية، فضلا عن امتيازات أخرى تكاد تقترب من الامتيازات التي يحصل عليها أي عنصر أمن آخر، وعلى مستوى آخر، تحوّلت الأفرع والشعب والفرق الحزبية إلى دوائر رديفة للأمن والمخابرات، وبات اهتمامها الأكبر هو رصد حركات المواطنين وسلوكهم اليومي، ثم كتابة التقارير وتصديرها للأفرع الأمنية. وقد بادر حافظ الأسد في عقد التسعينيات من فترة وجوده في السلطة إلى موقف سياسي وعسكري معاً، كان بمثابة إيذانٍ صريح بانعدام أي أثر فاعل للحزب، وأعني مشاركته في التحالف الدولي ضدّ العراق أثناء حرب الكويت 1991 ، وإرسال قواته إلى حفر الباطن في السعودية بذريعة تحرير الكويت، في حين تظهر الدوافع الحقيقية لإقدام الأسد على هكذا موقف هي الوعود التي تلقاها من جورج بوش الأب أثناء لقائهما في جنيف ( تشرين الثاني 1990 ) وتتمثل تلك الوعود بضوء أخضر أمريكي لاستمرار نفوذ الأسد في لبنان، إضافة إلى دعم واشنطن لمفاوضات مباشرة مع الكيان الصهيوني ، مقابل التزام الأسد بالسياسية الأمريكية في المنطقة وانضمامه إلى التحالف الدولي في مواجهة العراق،  علماً أن الدوائر الحزبية آنذاك ، كانت مستمرّة في تصدير خطاباتها السياسية بشعارات العداء لأمريكا والصهيونية ومندّدة بالسياسات الغربية حيال الوطن العربي.

لعلّ الحديث عن دور فاعل لحزب البعث في سورية يبدو أقرب إلى النكتة، ذلك أن حافظ الأسد – في صميم منهجه في الحكم – لم يكن مأخوذاً بأية مرجعية حزبية أو عربية أو قيمية، بل منهجه الذي بات واضحاً وصريحاً هو الحفاظ على التوازنات الإقليمية والدولية، والبحث عن موقع ضمن تلك التوازنات، يحفظ له مصلحة نظامه بالدرجة الأولى، فليس ثمة عدو ثابت، ولا صديق ثابت، بل هناك مصالح متغيّرة على الدوام، علماً أن حافظ الأسد – كحاكم مستبدّ – لم يسع في يوم ما إلى أن يكون ثمة تقارب بين مصالحه السلطوية ومصلحة الشعب السوري، بل كان على الدوام منحازاً لمصالحه كحاكم، بل كمالكٍ لسورية، بل يمكن التأكيد على أن حافظ الأسد لم ينظر إلى سورية وشعبها سوى على أنهما مُسخّران لديمومة حكمه واستمراره في السلطة، وإن أيّ اعتراض على هذا النهج إنما هو تطاول، بل جريمة توجب العقوبة التي يراها مالك عقار سورية مناسبة. ولعلّ السلوك الذي جسّده الوريث بشار، يثبت صوابية الرؤية التي تؤكّد أن نظام الأسد ( الأب والابن) هو طغمة ذات سمة إستبدادية مركّبة( استبدادي سياسي وطائفي)، وهذه الطغمة تبدو كالنواة الصلبة التي لا تقبل التفكيك أو الانحلال، فإمّا أن تنكسر وتنهار دفعة واحدة، وإما أن تبقى قائمة، ولعل هذه الرؤية تؤكّد صحتها جميعُ المساعي السياسية العقيمة التي تتوهّم قابلية بنية نظام الأسد للإصلاح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.