الجزء الأول :نهاية الشرق الأوسط القديم :
يشكّل إخفاق سياسات الغرب في الشرق الأوسط الحدث الأبرز لهذا العقد. خسر الغرب أو هو على وشك أن يخسر كل رهاناته في المنطقة، فبدل نجاحه في ما أطلق عليه المثقفون والساسة الأميركيون بناء الأمة التي افترضوا غيابها، في العالم العربي، قوّضت التدخلات الأميركية في العراق وفي أفغانستان هياكل الدولة، ومزّقت النسيج الاجتماعي في البلدين، وأطلقت العنان لتنامي حركات التطرّف الطائفية، ومعها سياسات الارهاب، وآل حكم كابول إلى حركة طالبان. وانتهت سياسة احتواء إيران الخمينية التي عمل عليها الغرب عقودا طويلة إلى اجتياح مليشيات إيران معظم أقطار المشرق، وإلى زعزعة استقرار بلدان الخليج الغنية التي لم يتردّد بعضها في البحث عن الحماية في كنف تل أبيب المفترض أنها عدوة تاريخية لها. وبدل أن تؤدّي سياسة العقوبات الطويلة وغير الناجعة إلى كسر شوكة النظام الإيراني، أخرجت المارد النووي من عباءة المرشد، لتضع المنطقة أمام احتمال سباق تسلّح نووي يستنزف قدراتها، ويهدّد بزجّها في أتون محرقة لا ينبغي الاستهانة باحتمالاتها.
ولم تخفق واشنطن في تطبيق حل الدولتين لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي الذي سمّم حياة شعوب المنطقة أكثر من قرن فحسب، ولكنها أخفقت أيضا في ثني تل أبيب عن استكمال مشروع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية لقطع الطريق على أي أملٍ بقيام دولة فلسطينية في المستقبل. وبعد فشل ما سمّي التحالف العربي أو الدولي لإنهاء الحرب الكارثية في اليمن، تفاقم الصراع واتسعت رقعته وآثاره الكارثية. وهذا هو الوضع أيضا في معظم مناطق أفريقيا شمال وجنوب الصحراء التي تنخرها الصراعات والنزاعات والحروب الداخلية والخارجية تحت أنظار الدول الغربية، وأحيانا بمساعدتها ورعايتها. وأحدث هذه الإخفاقات تصدّع التهدئة في لبنان أمام تصميم مليشيا حزب الله على تقويض سلطة الدولة والقانون، لتجنيب أنصارها المساءلة في قضية الانفجار الكبير الذي دمر مرفأ بيروت والأحياء المحيطة به.
وبموازاة هذه الإخفاقات، تزايدت المخاطر من تحدّي الصين الصاعدة الهيمنة الغربية، الأميركية خاصة، على السياسة والعلاقات الدولية. وشيئا فشيئا، تبدّلت الأولويات الاستراتيجية، ووجدت واشنطن أن مصلحتها تكمن في تقليص إنفاقها على حفظ نفوذها في الشرق الأوسط لتوجيه موارد أكبر، عسكرية وسياسية وتقنية، لمواجهة الخطر الصيني والآسيوي المتنامي في العالم. وهذا ما ترجم بتخفيض استثماراتها المادية والسياسية فيها، وسحب معظم قواتها وقواعدها العسكرية من منطقتنا وحذفها من قائمة أولوياتها الاستراتيجية.
مخاطر كبيرة على استقرار منطقةٍ تعيش أصلا أزماتٍ مزمنة منذ انفصالها عن الإمبراطورية العثمانية، ودخولها في الفلك الغربي الأوروبي، ثم الأميركي
تحمل هذه التبدّلات في الاستراتيجية الغربية مخاطر كبيرة على استقرار منطقةٍ تعيش أصلا أزماتٍ مزمنة منذ انفصالها عن الإمبراطورية العثمانية، ودخولها في الفلك الغربي الأوروبي، ثم الأميركي، فتهز توازناتها وتطلق ديناميكيات صراع متعدّد الاطراف بين مكوناتها، كما تثمير شهية الدول الاخرى التي تتصيّد الفرص لوراثة مواقع نفوذها في هذه المنطقة الحيوية من العالم. ومثلما لعب صراع القوى الكبرى على الشرق الأوسط، منذ بداية القرن الماضي، دورا رئيسا في رسم الخرائط الجيوسياسية للمنطقة، وتحديد ديناميكيات نزاعاتها الداخلية، وأيضا أشكال وحدود النزاعات المزمنة فيها وعليها، يفجّر انسحاب الغرب الاستراتيجي من مواقع عديدة كان يسيطر عليها نزاعات وحروب بمقدار ما يخلق من رهانات جديدة، وما ينتج من الطموحات والأطماع لدى الدول الإقليمية الأقدر على اقتسام مواقع النفوذ الغربي القديمة. وبمقدار ما يكشف من مواطن اختلال وضعف في بنى الدول والبلدان وتوازنات القوى الذاتية فيها، يحول الضعيفة منها إلى فريسة جاهزة وسهلة للطامعين فيها. ولن تتردّد الدول الإقليمية التي حققت قسطا من التقدّم الصناعي والتقني والعسكري، خصوصا في الدخول في التنافس على وراثة ما يمكن وراثته من إرث الإمبراطورية الشرق أوسطية الغربية المتهاوية، وفي السعي إلى الحصول على نصيبها منها.
ولأن تراجع استثمار الغرب الاستراتيجي في هذه المنطقة التي لا تزال تتمتع، على الرغم من كل شيء، بأهمية استراتيجية، من دون أن يعني تخلّيها عن مصالحها الكبيرة فيها، تتقاطع فيها، كما هو واضح وضوح الشمس، الصراعات الإقليمية مع الصراعات الدولية مع السعي إلى تهميش النزاعات السياسية والاجتماعية واحتواء القوى المحلية وتشغيلها لحسابها.
هكذا بدل التدخلات العسكرية القديمة التي اتسمت بها السياسات الاستعمارية الكلاسيكية، تنحو الاستراتيجية الراهنة إلى التدخل من خلال إشعال الحروب الداخلية، والتلاعب بالقوى المحلية وتغيير موازين القوى من خلالها. وهذا ما يفسّر تنامي ظاهرة الحروب بالوكالة التي لا يقتصر استخدامها اليوم على دول الهيمنة الآفلة، وإنما يأخذ أحجاما أكبر عند الدول الإقليمية التي تطمح إلى الحلول محلها، واحتلال مواقع نفوذها السابقة، فلا تقلل هذه الحروب من التكاليف المادية والبشرية للقوى الدولية والإقليمية المتنازعة فحسب، ولكنها تخفّف عنها المسؤولية في الجرائم المرتكبة، كما تساهم في توسيع دائرة انتشارها من دون رادع. والأهم أنها تجعل أغلبها حروبا بلا نهاية، أي حروب مستحيلة وصفرية، حصيلتها الوحيدة الموت والخسارة المتبادلة. ولا يحسمها، في أفضل الحالات، إلا الإنهاك والخراب المتبادل ومنطق الحد من الخسائر وتوفير التضحيات الإضافية المجانية.
هذا ما حوّل المشرق إلى منطقة زلازل وتصدّعات جيوسياسية وسياسية وثقافية متناسلة، وإلى مسرح لحروب مركّبة تتداخل فيها النزاعات الدولية مع النزاعات الإقليمية مع النزاعات السياسية، الأيديولوجية والقومية والطائفية، أي بمعادلاتٍ معقدة ومتشابكة، مستعصية على الحل أو تكاد.
دفعت سورية الثمن الأعلى لتنازع السياسات الدولية والإقليمية
وما من شك في أن لهذا الوضع، الاستثنائي في تعقيده، دورا رئيسا فيما آلت إليه ثورات الربيع العربي التي تحوّلت من انتفاضات سياسية شعبية وسلمية ذات محتوى ديمقراطي وتحرّري واضح، في البحرين واليمن والعراق ولبنان وليبيا وسورية، إلى حروبٍ دوليةٍ وإقليميةٍ وطائفيةٍ وقومية متداخلة. كما كان له أثره الواضح في تلغيم العلاقات العربية الإيرانية والعربية التركية، وفي توتر العلاقات بين دول الخليج وتفكّك مجلس التعاون الذي جمعها عقودا طويلة ماضية، وفي دفع بعض منها إلى البحث عن سبل جديدة للحماية في إسرائيل، و/ أو تبنّي سياسات راديكالية في التعامل مع المعارضة، والسعي إلى تجريمها وقتلها.
الخاسر الأكبر في هذا الانقلاب الاستراتيجي كان القوى والحركات الديمقراطية التي راهنت في كل بلدان الشرق الأوسط على موقف قوي للغرب في دعم عملية انتقال سياسي وإصلاح اجتماعي، وفي مواجهة سياسات الإبادة المنظمة للمعارضات القائمة أو الوليدة من نظم تمرّست بالقمع الدموي، وأحكمت بالفعل سيطرتها على الدولة والمجتمع، وحصّنت نفسها أمام أي نقد أو احتجاج.
أما في سورية التي دفعت الثمن الأعلى لتنازع السياسات الدولية والإقليمية، فقد شكّل هذا التحول الاستراتيجي نقطة مفصلية في تطور الصراع والمواجهة الداخلية، ووضع مصير الدولة والبلاد والمجتمع أيضا، بالمعنى الحرفي للكلمة، على كفّ عفريت. هذا ما يعنيه تسليم الدول الغربية بفشل الضغوط الاقتصادية والسياسية التي اعتمدت عليها للتوصل إلى تسوية سياسية وعدم استبعاد خيار التعامل مع الأسد كأمر واقع وامتحان التعايش معه.
لكن بالإضافة إلى ما يمثله هذا الموقف من تكريس للوضع التراجيدي القائم، وما ينطوي عليه من قبول باستمرار الحرب والفوضى والبؤس الإنساني المرتبط بهما أمرا واقعا أيضا، يوجّه التسليم بمثل هذا الـ”انتصار” للأسد ونظامه رسالة خطيرة إلى الشعوب والقوى الديمقراطية في العالم أجمع، فشرعنة بقاء الأسد، رسمية كانت أم واقعية، تعني عمليا، شرعنة استخدام الأسلحة الكيميائية وحروب الإبادة والقتل العشوائي، وإزالة كل الخطوط الحمر من أمام الأنظمة الديكتاتورية في حروبها الراهنة والقادمة ضد إرادة التحرّر لدى شعوبها، وفيما وراء ذلك، ضد الشعوب الأخرى. وسيكون التطبيع الذي بدأت تتحدّث عنه بعض الحكومات العربية والأجنبية هديةً مجانيةً لا تقدّر بثمن لجميع مجرمي الحرب من الديكتاتوريين القائمين على رأس عملهم والقادمين، والمرشّحين لتكرار حروب الإبادة، وإشعارا سلبيا من المجتمع الدولي إلى الطغم المفترسة التي تتحكّم بمعظم أقطار الجنوب بأن منطق التشدّد والعنف وضرب الحائط بأي ضغوط عالمية، أو قيم إنسانية، أو مواثيق دولة، هو وحده المنطق الناجع لضمان البقاء في الحكم والاستمرار فيه.