لم يعد مستغرباً ألّا ينتظر أحدٌ من السوريين التغير العام في بيئتها السياسية، أو التعويل على أحد أطراف السياسة السورية الرسمية السلطوية أو المعارضة بالتقدم خطوة باتجاه بوادر حل ما؛ سوى قلة ممن هم مشحونون لدرجة الفيض الشعوري، أو الغارقون في مستنقع الأيديولوجيا ووهم التغير بسحر ساحر. فيما غالبية السوريين يتعاطون أيامهم وكأنها دورة زمن، فهم على ثقة من التغيير لما يليق بهم، ولكن قد تأجلت مفاعيله في عجلة دورة الموت التي اجتاحت البلد والبشر، فباتوا يحاولون بوجدانهم زراعة بسمة فرح، نشوة أمل، بقعة نور في درب العتمة الذي نعيشتباً للسياسة التي لم تنتج سوى الوهم والطفح الشعوري، وكلاهما لا يمكن ضبط إيقاعهما على مستوى الفاعلية والمسؤولية، وبالضرورة محاولة تغيير عجلة زمن دورة الموت التي نعيش، فيما تهيمن سياسات الأمر الواقع وسلطاتها العسكرية، وكل منها يهيمن على بقعة من سوريا، تحكم أيام البشر وتقتصر معاشهم على قدر ساعة كهرباء، تتوقف معها الاتصالات والهاتف، ورسالة تموين فصلية (كل ربع عام). أما هذه الأيام، وهي أيام عيد مفترض، يعاند السوريون القدر ويحتالون على الزمن في صناعة الحلوى إن استطاعوا، أو شراء علبة الراحة والبسكويت مع كيلو الكارميلا، والتي باتت تعادل نصف راتب موظف لشهربين دهاليز العتمة هذه تمر أطياف من النور، ويسعى السوريون الموصوفون بالحب، الإخلاص، الوجدان، بالكف عن أوهام الحلول السحرية، أو المشاعر الواهية، بالقدرة على زراعة البسمة على وجه طفل، في قلب أمه وأبيه. يرسمون قمراً على سطح ماء حتى وإن كان سيذهب بذهابه، لكنه مصدر بهجة وأمل تدوم في النفوس. هي محاولة في عكس دورة الموت لزمن حياة، بالتضامن، بالتعاون، ببياض القلوب والأيادي الممدودة وكل يحاول ما استطاع إليه سبيلا، لتطلّ علينا أطياف النور”أنا نور من حمص، أنا احتضنني أهل السويداء حين هجّرت إليها بعد أن عايشت وأهلي دورة الموت ونجوت.. فيما أهلي وأعمامي قضوا في مجازر وجرائم الأعوام السابقة.. أنا أحب أهل السويداء ولا يمكنني أن أوفي جميلهم، لكني أحب ناسها، أحب أهلها، هم أهلي بعد أبي وأمي. اليوم أتابع علمي خارج سوريا، فاسمح لي بتقديم هدية العيد للأطفال والطلاب”. رسالة كهذه لم تبحث عن منصب سياسي، ولا عن وهم حل سحري، ولم تحمل شحنات الأحقية للحماصنة، الذين قدموا فوق ما يتخيله عقل بالسنوات الماضية. هي رسالة تنفي الفرقة الطائفية، تنفي مفهوم الأحقية والشرعية، تبني جسور الحب والتواصل، وتعلي من شأن القيمة والوفاء والإخلاص، فكانت نور نوراً مضيئاً في سماء عتمة السوريينوطيف نحن قدها، طيف من الصبايا والشباب بعمر الورود، عانوا كل ويلات العنف والتنمر، كل شبهات التقارير الأمنية. شباب يحاولون إدارة دفة الحياة ولو لمقدار أيام عيد. يجمعون الثياب، يغسلونها ويكوونها، ومن ثم يرسلون بطاقة شراء للطفل ليحضر إلى سوقهم الكبير. والسوق عبارة عن بيت كبير تبرعت به إحداهن؛ زينوه ليصبح وكأنه سوق فعلي، يأتي إليه الطفل لينتقي ويقيس الثياب التي يريد، حتى لا يشعر أن هناك من يمنُّ عليه بحسنة أو صدقة، بل يختار ثيابه، يقيسها، ثم يشتريها ببطاقته التي يحمل. يحق له أن يرفض وأن يقبل، تحيطه جوقة الفرح والعيون تملؤها كلمة هي “جبران خاطر” فنحن قدهافي طيف منير آخر، في منزل أحد أركان الثورة السورية الكبرى عام 1925، منزل المرحوم قاسم أبو خير الذي قدمه له الرئيس المرحوم شكري القوتلي. منزل يقع في قلب ووسط مدينة السويداء، منزل تسيجه محبة السوريين والمغتربين من كل صوب. في هذا المنزل تحتفي الوطنية بتاريخها التعاقدي، وحاضرها الإنساني فوق أي مستوى سياسي، وعنوانه الإنسانية تجمعنا. في هذا المنزل يغلفون علب الراحة والبسكويت والكارميلا، مع أسفاط البيض، الزيت والمربى، الرز والسكر، تقدم للأطفال وأسرهم من كل أبناء سوريا. هي أيام جبر خاطر وفيض محبة وعنوان دائم للعطاء والوطنية. فيما يتابع ذات المكان التكفل بتعليم ما يزيد عن 150 طالب تعليمهم الجامعي، مشروط بالنجاح والوفاء بعد التخرج، كما كان لنور ذات الدور اليومأما أطفال الفرح، الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فتنظم لهم أسرة الفرح بجوار الإنسانية تجمعنا، حفلات بهجة وكرنفالات عزف وموسيقى وحفلة رسم وألوان محبة، يشاركهم فيها الصبايا والشباب المتطوع مدنياً وحباً من أوساط مدنية وإنسانية وحقوقية عدة بما فيها المنظمة العربية لحقوق الانسانأيام فرح وجبر خاطر، زمن يغالب دورة الزمن المعوج وسنونه العجاف، وهذا غيض من فيض. هذا القليل البادي من فيض القلوب التي سأمت السياسة ومكرها، ملّت أوهام الحلول بنصر عسكري مؤزر سيحرر القدس مروراً بحلب أو حمص، في مقابل نصر إلهي على أعداء الوطن ومغتصبي السلطة. قلوب انعتقت من أوهام الوحدة ورمي اليهود في البحر، وشعارات البعث الرنانة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وقد أقامت سلطاتها الحاكمة مواقع فجة للتشرذم العربي، ومجازر للحرية بحفر يردمها الحقد الطائفي والهوس السلطوي، وكذب الاشتراكية، وقد تحولت البلاد لمزرعة لقلة حاكمة و90% من الشعب مجرد هياكل عظمية تتحرك دون مستويات خطر الفقر. فيما تلك القلوب، قلوب السوريين ووجدانهم النقي، وجدانهم الذي يعاند الانكسار والانجراف في بوتقة اليأس والموت الجزافي، ما فتئوا يبحثون عن مواطن الفرح والقيمة والاهتمام، ليثبتوا في كل لحظة أنهم شعب على قدر التحديات والصعاب فهم قدّها، والإنسانية قدرها، والوطنية قعرها الذي ينضب، مهما تبدلت على سطحه دورات الموت وسياسة العسكر وصوت الرصاصفي الأسطورة، استبدل الله، ابن إبراهيم الخليل بكبش، ليضحي به في ليلة عيد، فباتت طقساً للوفاء، للتضحية، للكرم، ولتغير دورة الموت لدورة حياة، ونفي محرم لقتل البشر. والسوريون اليوم، وهم مصرون على الوفاء ورفض القتل، على الكرم والتضحية، يرتقبون جبر الخواطر ويدققون في إشعاع الفرح من القلوب المتعبة والكئيبة، فإن بدا الزمن بدورته الأولى زمن موت وتردٍّ، لكنهم يحاولون بأن يكون دورة حياة، إذا انقشعت عن سطحه انعكاسات سياسات الهدر وزمن العهر والجريمة. هي محاولة حياة بالإرادة الحرة للانتقال لزمن الطهارة والنقيّ الكامن في النفوس ويرتقب إشارة دورة عجلة الحياة، بدء دورة الزمن في اتجاها الصحيح، تجاه النور والحب والوطنية المجردة من كل شبهات السطو والغزو والسبي والنفي والقتل الحرام.. فعله عيد جبر خاطر.