تركيبة متشابكة من الأحداث يعيشها العالم منذ بداية سنة 2022 تؤشر إلى تواصل عملية التحول المتسارعة في موازين القوى وتأثيراتها على تشكل نظام عالمي مختلف عن الذي ساد تقريبا لمدة ثلاثة عقود منذ إنهيار الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن العشرين. هذه الاحداث اثبتت كذلك أن محاولات الغرب بقيادة الولايات المتحدة للحيلولة أو تأخير هذا التطور تشهد فشلا تلو الآخر.
الحرب التجارية التي خاضتها واشنطن ضد الصين خلال حكم الرئيس ترمب كانت خاسرة ولم توقف نمو بكين الاقتصادي، وقبلها فشلت ادارة البيت الابيض في معركتها بخصوص الملف النووي مع ايران، وكذلك حول نفس الموضوع مع كوريا الشمالية. مزيد من الدول في أمريكا اللاتينية خرجت عن طاعة البيت الابيض وأخذت تبنى علاقات متنوعة مع خصمي واشنطن الرئيسيين أي بكين وموسكو. في أفريقيا خسرت واشنطن وحلفاؤها نفوذا سياسيا واقتصاديا كبيرا في مواجهة الصين وروسيا.
بعد أن شنت موسكو عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، لم تطبق سوى الدول الكبيرة أقتصاديا والمصنفة في المعسكر الغربي سياسة الحصار على موسكو، وحتى البعض من هذه الدول أخذ يراجع سياساته. والعقوبات الغربية ضد الكرملين تركت أضرارا على الغرب أكثر من تلك التي مست روسيا. دول الخليج العربي وخاصة السعودية والامارات العربية المتحدة رفضت نداءات وضغوط واشنطن وبقية دول الغرب لزيادة انتاجها النفطى لتسهل للغرب ظروف مواجهته مع روسيا.
لائحة الإخفاقات الغربية طويلة.
سنة 1987، أصدر المؤرخ بول كنيدي بحثه المعنون “صعود وسقوط القوى العظمى” واعتبر أن التمدد الاستعماري للامبراطورية الأمريكية سيكون أحد أسباب هبوطها، بانيا استنتاجاته على تحليلٍ وأرقام حول حجم الإنتاج الأمريكي بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وأثرهما، وتراجعهما الذي يعود بشكل أساسي إلى الانتشار العسكري في العالم.
في العام 1999، كتب نعوم شومسكي مقالا تحليليا حول حرب يوغوسلافيا بعنوان: “الولايات المتحدة، قلق البداية أم خوف النهاية؟”، اعتبر فيه أن الامبراطوريات تعيش مرحلتين تكونان الأكثر عنفاً في تاريخها، مرحلة قلق البداية التي تكون فيها محتاجةً إلى الحروب والعنف لترتقي من صفة الدولة العظمى إلى الامبراطورية العظمى. أما مرحلة خوف النهاية، فتحتاج إلى الحروب، من النوع ذاته أو من أنواعٍ جديدة لتلبي مخاوف النهاية وتحول دون خسارتها لمقامها كإمبراطورية مهيمنة على العالم. لكن هذه الحروب وما يرافقها أو يليها من أعمال عنف وتدابير مختلفة، تسرع النهاية نفسها.
في العام 1993، أصدر الجيوبوليتيكي والديبلوماسي الفرنسي جان كريستوف روفين كتاباً بعنوان: “الإمبراطورية والبرابرة الجدد”. تركزت تحليلاته حول مختلف الأمور المتعلقة بالامبراطورية الأمريكية التي استقرت على عرش العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحدث عن مفهوم “الكتلة المقابلة” حيث تأخذ العلوم السياسية من علم الفيزياء، ليستنتج أن انهيار الكتلة الأولى سيؤدي، بعد فترة الى انهيار الكتلة الثانية.
شكل غزو واشنطن للعراق سنة 2003 أحد مؤشرات نهاية هيمنة الامبراطورية وقد اجمع تقريبا أغلب المحللين العسكريون والسياسيين الأمريكيين في تقييمهم لتلك المغامرة العسكرية في بلاد الرافدين التي خسرت خلالها الولايات المتحدة 4474 قتيلا و33 ألف جريح حسب الأرقام الرسمية وأنفقت حوالي تريليون دولار، بأنها كانت عملية خاسرة.
بعد شهر على انتهاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وما رافقه من تخبط وفوضى، أقر رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي الأربعاء 29 سبتمبر 2021 بأن الولايات المتحدة “خسرت” الحرب التي استمرت 20 عاما في ذلك البلد. وقال الجنرال ميلي خلال جلسة استماع في مجلس النواب “من الواضح والظاهر لنا جميعا أن الحرب في أفغانستان لم تنته بالشروط التي أردناها، مع وجود طالبان في السلطة في كابل”.
الحرب استمرار للسياسة
إذا كانت الحرب “استمراراً للسياسة بوسائل أخرى”، بوسائل عنيفة، حسب قول منظّر الحرب البروسي الشهير كارل فون كلاوزفيتز في كتابه “فن الحرب”، فإن الأمر لم ينته هنا، بل يجعل الحرب أكثر غموضا لجهة التكتيكات والاستراتيجيات والخطط المعتمدة. يكمن الغموض في قول كلاوز فيتز في كلمة “استمرار”، مع أن الحرب عبارة عن قطيعة في شكل الوسائل وقفزة من السلم إلى العنف. فعندما تشتعل نار الحرب تغدو السياسة إرادة متحقّقة في أرض الميدان. والغزو والعنف ليسا أمرا عرضيا، بل هما قابلة “ولادة” التاريخ كما قال ماركس.
والأجدى على مستوى العبارة القول: إن السياسة تزيل الحرب وتظهر على صورتها سياسة حربية، سياسة بوسائل عنيفة غير ديبلوماسية، وتكون الحرب هي الشكل الأعلى للسياسة وتحقيقها الدموي العنيف. وهذا لا يزيل الغموض لا عن السياسة ولا عن الحرب وتكتيكاتها.
ضمن هذه الصعوبة المفهومية، وضمن هذا الغموض التكتيكي، تندرج الحرب الروسية في أوكرانيا.
العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا لم تأت مفاجئة، وإنما تمثل جزءا أصيلا من حركة التاريخ في المنطقة، وقد سبق أن حذر منها الخبراء والباحثون الاستراتيجيون والمحللون السياسيون والاستشراقيون الذين أشاروا إلى إمكانية اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا في أي لحظة خاصة بعد أن وجد فيها المحافظون خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا البوابة التي يمكن عبرها تشديد الحصار على روسيا والعمل على تفتيتها إلى دويلات والهيمنة على ثرواتها الهائلة، وبالتالي التمكن من إمتلاك الأسلحة والأدوات التي تتيح مواجهة الصعود السريع للصين وتقليم أجنحة القوى الأسياوية الصاعدة ومنها الهند وأندونيسيا والفيتنام.
وفقا لمعيار هنتنغتون الحضاري، فإن أوكرانيا بلد متصدع الأركان، ومنقسم داخليا على أسس تاريخية وجغرافية ودينية، حيث يقع غرب أوكرانيا في الزاوية الأوروبية وشرق أوكرانيا والقرم في مدار روسيا الأرثوذكسية.
أصدر المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون كتابه “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” في العام 1996 متحدثا عن صراعات ما بعد الحرب الباردة التي لن تكون، وفق تقديره، بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون نتيجة للاختلافات الثقافية خلال السنوات القادمة، ووفق رؤيته لمستقبل العالم، فإنه يمكن تقسيمه إلى “حضارات” ثقافية كلية منفصلة، غربية، وأرثوذكسية، وإسلامية، وهندوسية، وما إلى ذلك، على أساس اللغة والثقافة والدين المشتركين.
وتوقع أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة، سيكون الصراع متجذرا في هذه الاختلافات الثقافية، مثل الصفائح التكتونية الجيوسياسية، محذرا من أن “خطوط الصدع بين الحضارات ستكون خطوط معركة المستقبل”.
تمرد
يبدو أن الحصار الاقتصادي ضد روسيا يلحق خسائر أكبر ببقية العالم أكثر من روسيا.
جاء ذلك في مقال للكاتب ألفارو فارغاس نشرته مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأمريكية يوم الأحد 24 يوليو، حيث أشار الكاتب إلى أن الأمور على الصعيد الاقتصادي تبدو مختلفة عن التأكيدات المتكررة من الرئيس بايدن وغيره من الزعماء الغربيين، فيما يظنونه من أن “أشد العقوبات الاقتصادية في التاريخ” من شأنها أن تشل الاقتصاد الروسي، وتجوع آلة الحرب، حيث يقر الكاتب بأن ذلك “لم يحدث”.
يضيف الكاتب في مقاله: “كان الحساب الجاري لروسيا، الذي يقيس التجارة العالمية في السلع والخدمات، قويا في الربع الثاني من هذا العام عندما ارتفع الفائض التجاري إلى مستوى قياسي بلغ 70.1 مليار دولار. كذلك فقد أظهر الروبل مرونة ملحوظة، حيث احتل المرتبة الأولى كأقوى عملة أداء حتى الآن هذا العام، وارتفع إلى أعلى مستوى له مقابل اليورو منذ عام 2015، وحقق مكاسب كبيرة مقابل الدولار.
فما هي أسباب تضخم خزائن بوتين؟ الجواب بسيط: ارتفاع أسعار السلع واستمرار قدرة روسيا على تصدير النفط والغاز والحبوب وحتى الذهب.
والصورة الاقتصادية ليست وردية بالنسبة للدول التي تفرض العقوبات على روسيا، حيث تكافح أوروبا لتلبية احتياجاتها من الطاقة، ما يؤدي إلى ارتفاع التضخم، وإرغام البلدان الرائدة في طليعة الحركة الخضراء على التراجع. على سبيل المثال، اضطرت ألمانيا، التي ينتمي وزيرها للشؤون الاقتصادية والعمل المناخي إلى حزب الخضر، إلى إعادة تنشيط 17 محطة تعمل بالفحم، كانت قد أغلقتها في السابق.
في الآونة الأخيرة، توسل الرئيس بايدن، مع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاما، إلى قادة المملكة العربية السعودية، وهو نظام كان يتجنبه، لإنقاذه عن طريق ضخ المزيد من النفط الخام للمساعدة في خفض أسعار البترول وتخفيف الضغط التضخمي، الذي تحمله الأسعار المرتفعة للوقود على السلع الأخرى.
باختصار، يبدو أن الرد الاقتصادي على حرب روسيا يلحق خسائر أكبر ببقية العالم أكثر من روسيا نفسها.
كان على القادة الغربيين أن يتعلموا الآن كيف يأخذون عاملين في الاعتبار، عند فرض العقوبات: الحالة الأخلاقية والعواقب الاجتماعية والاقتصادية المحتملة.
كان هناك توتر واضح بين الاثنين في هذه الحالة، حيث دعت الحالة الأخلاقية إلى عزل الاقتصاد الروسي قدر الإمكان، ولكن نظرا لاختلالات العرض والطلب الراهنة، والتي أصبحت واضحة مع خروج العالم من الوباء، والتضخم المتزايد، كان على الآلة الحاسبة الاجتماعية والاقتصادية أن تشير إلى نظام عقوبات من شأنه تجنب تفاقم المشكلات ما كان إلى ذلك سبيلا.
إلا أن ذلك لم يكن ما حدث، بل أدى تضافر العقوبات والحرب إلى تعطيل إمدادات الطاقة والحبوب، وخلق فرصة اقتصادية استغلتها روسيا. في واقع الأمر، ووفقا لمركز الطاقة والهواء النظيف، ومقره هلسنكي، حققت موسكو 100 مليار دولار من الإيرادات من مبيعات النفط والغاز والفحم في الأشهر الثلاثة الأولى وحدها من الحرب.
في غضون ذلك، تواجه أوروبا، التي استوردت 40 في المئة من غازها الطبيعي من روسيا عام 2021، ضربة مزدوجة تتمثل في نقص حاد بسبب تضاؤل الواردات الروسية وارتفاع التضخم الذي غذّته أسعار الطاقة جزئيا. وقد يؤدي ذلك إلى شتاء طويل وبارد، عندما ينفجر الطلب على الطاقة في نفس الوقت الذي تستعد فيه أوروبا لوقف استيراد البترول المنقول بحرا من روسيا، كما تتطلب لائحة الاتحاد الأوروبي التي تم تقديمها في يونيو. بل وقد تزداد الأمور سوءا إذا ما قررت روسيا قطع صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب.
يمكن رؤية الصورة الكبيرة بالأرقام. ففي فبراير، وعندما بدأت العملية العسكرية، كان مؤشر السلع الأساسية العالمي لمجلس الاحتياطي الفدرالي عند 203، بحلول نهاية يونيو كان قد بلغ 227، بزيادة 12 في المئة. وبدلا من تجويع آلة الحرب الروسية، أدت الزيادات في أسعار السلع الأساسية إلى تقوية الأوضاع المالية لروسيا.
كانت الفكرة أن يساعد الغرب أوكرانيا في كسب الحرب، أو على الأقل جعل استمرار العمليات العسكرية مكلفا للغاية بالنسبة لروسيا، وبينما لا زال الحكم على الصراع العسكري مبكرا، إلا أن روسيا اقتصاديا لم يمسها الضرر قيد أنملة”.
الانقسام الجيوسياسي للعالم
سرد صندوق النقد الدولي، في تقرير نشره خلال شهر يوليو 2022، العوامل السلبية في تطور الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن.
وتضمنت القائمة، إلى جانب المخاطر الاقتصادية والمالية التقليدية تشديد السياسة النقدية، وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين بسبب قيود وباء كوفيد، وارتفاع أسعار الطاقة وغيرها، خطر انقسام العالم إلى كتل جيوسياسية نتيجة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
وحذر صندوق النقد الدولي، من أن هذا سيمنع الدول من المشاركة في مكافحة المشاكل العالمية، بما في ذلك مشكلة التغيرات في المناخ.
وأضاف التقرير: “أحد المخاطر الجسيمة على المدى المتوسط، يكمن في أن الأعمال العسكرية في أوكرانيا ستسهم في تجزئة الاقتصاد العالمي إلى كتل جيوسياسية ذات معايير تكنولوجية يمكن تمييزها بوضوح، وأنظمة دفع عبر الحدود، وعملات احتياطية”.
يوم 20 يوليو 2022 أفادت مجلة “نيوزويك” الأمريكية بأن التعب والقلق يتناميان لدى الشعوب الغربية مع ارتداد آثار العقوبات المفروضة ضد روسيا عليهم، والتي انعكست على الحالة المعيشية في بلدانهم.
وقالت المجلة إن “العقوبات المفروضة على روسيا أسفرت عن مجموعة من المشاكل لدى الغرب، منها التضخم المتصاعد والارتفاع الكبير في أسعار الوقود وحالة عدم اليقين حيال استقرار إمدادات الغاز الروسي في الشتاء الذي لم يبق على قدومه إلا أسابيع قليلة”.
وأضافت أن “حالة عدم الاستقرار السياسي في تصاعد، حيث آخر تأكيد على ذلك كانت استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أحد أقوى الداعمين الأوروبيين لأوكرانيا ثم استقالة حكومة إيطاليا”.
نهاية شهر يوليو ذكر مقال بصحيفة “تايمز” البريطانية أن الاقتصاد المتعثر، والانتخابات النصفية الوشيكة للكونغرس، والتوترات المتزايدة مع الصين، أمور تقوض الدعم الأمريكي لإوكرانيا في الحرب ضد روسيا.
ويوضح المقال الذي كتبه الصحفي جيرارد بيكر أن الميزة العسكرية الحاسمة للرئيس الروسي بوتين في حربه بأوكرانيا ستكون عدم الثبات والصبر الضعيف والتعب العام لخصومه ولامبالاتهم.
التماسك أو السقوط في الفخ..
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 27 يوليو 2022:
تواجه أوروبا ضغوطا متزايدة فيما يتعلق بالغاز، بعد أن قالت شركة “غازبروم” الروسية، يوم الاثنين 25 يوليو، إنها ستخفض التدفقات عبر خط أنابيب “نورد ستريم1” إلى ألمانيا إلى خُمس طاقتها.
توصل الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن كيفية خفض استهلاك الغاز بنسبة 15 في المئة، اعتبارا من أغسطس إلى مارس، وخفض اعتمادها على الإمدادات الروسية، ما أدى إلى تساؤلات عما إذا كانت هذه التخفيضات ستحل مشاكل أوروبا.
وبينما يواجه العديد من دول الاتحاد الأوروبي بالفعل انخفاضا في الإمدادات الروسية، يحث الاتحاد الدول الأعضاء على توفير الغاز وتخزينه لفصل الشتاء، خشية أن توقف روسيا التدفقات بالكامل ردا على العقوبات الغربية.
ويريد قادة الاتحاد أن يضمنوا ألا يؤدي نقص الغاز الروسي إلى ترك المنازل دون تدفئة أو إغلاق المصانع، وفق مجلة إيكونوميست.
لكن أعضاء الكتلة لديهم مستويات مختلفة من الاعتماد على الغاز الروسي، فقد قام البعض ببناء محطات للغاز الطبيعي المسال، ما قلل من اعتمادهم على “غازبروم”، لكن دولا أخرى ستعاني، كما أن التحول إلى الغاز الطبيعي المسال من أمريكا وآسيا سوف يتطلب استثمارات ضخمة من الدول الأوروبية.
تشير مجلة إيكونوميست إلى أنه سيتعين على الكتلة إثبات قدرتها على التماسك عندما يكون الوقت عصيبا، في فصل الشتاء القادم، “وستحتاج ألمانيا على وجه الخصوص إلى إظهار التضامن مع الدول الأعضاء الأخرى”.
وتساءلت: “هل ستسمح ألمانيا، التي تقع في وسط شبكة أنابيب الغاز في أوروبا، على سبيل المثال، بتدفق الغاز إلى جمهورية التشيك لمنع الناس هناك من التجمد، مع أن ذلك يعني أن تتوقف مصانعها عن العمل مؤقتا؟”.
وبالنظر إلى أزمات سابقة، كانت ألمانيا من بين الدول التي فرضت قيودا على تصدير المعدات الطبية الوقائية، في الأيام الأولى لوباء كوفيد، في عام 2020.
وتشير المجلة إلى أن الانقسامات في أوروبا ستصب في النهاية لصالح الرئيس الروسي، وتقول إن “انهيار التضامن الأوروبي هو بالضبط ما يريده”.
أوكرانيا أفغانستان أخرى
مع احتدام حرب بوتين على أوكرانيا واستمرار واشنطن في التعهد بمزيد من المساعدات والأسلحة للدولة المحاصرة، بدا الوضع برمته وكأنه أفغانستان أخرى.
بهذه المقدمة استهلت ربيكا كوفلر، رئيسة استشارات العقيدة الإستراتيجية ومسؤولة استخبارات سابقة في وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، مقالها في مجلة “نيوزويك”، مشيرة إلى أنه بعد أقل من 5 أشهر على الصراع الروسي الأوكراني أنفقت الولايات المتحدة 8 مليارات دولار، وهو ما يزيد على ما أنفقته خلال السنوات الخمس الأولى في أفغانستان.
وألمحت الكاتبة إلى تحذير المسؤولين الغربيين، بمن فيهم الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، من أن الحرب الروسية في أوكرانيا ستستمر لسنوات، وأشارت إلى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يخطط لإبقاء الصنبور مفتوحا.
وترى كوفلر أن الديمقراطية التي تريدها أمريكا والعالم للشعب الأوكراني قد تكون هدفا لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب. ولن توقف المليارات الأمريكية حرب الرئيس الروسي. وإن أوكرانيا -مثلها مثل أفغانستان- ليست مرشحا ناضجا لأن تكون ديمقراطية جيفرسونية وحكومة على النمط الغربي.
وأضافت الكاتبة أن مشروع واشنطن للترويج للديمقراطية الغربية جرب وثبت فشله عدة مرات في جميع أنحاء العالم. ومن غير المرجح أن ينجح في أوكرانيا.
وعلاوة على ذلك، لم يقدم أحد في إدارة بايدن تعريفا للنصر حتى الآن. وكما هي الحال في أفغانستان، فإن نقاط الأهداف غير واضحة ودائمة التحرك. وحتى بالمساعدة الأمريكية، فإن تعريف أوكرانيا للنصر، الذي يقوم على استرداد كل الأراضي المغتصبة كما أعلن رئيسها فولوديمير زيلينسكي، غير محتمل بالنظر إلى التفوق العسكري الروسي الساحق.
ولفتت كوفلر إلى أن مشاركة الولايات المتحدة التي استمرت 20 عاما في أفغانستان كلفتها 2.2 تريليون دولار و6200 قتيل أمريكي. ويبدو أن الرئيس بايدن ومساعديه في الكونغرس يسيرون في الاتجاه نفسه مع أوكرانيا، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالمساعدات المالية والعسكرية. وختمت مقالها بأن لدى الرئيس فرصة لإعادة التفكير في هذا المشروع المحكوم عليه بالفشل الآن، ويجب عليه قطعا.
تضخم أم ركود..
جاء في تقرير نشره في واشنطن موقع الحرة: بينما يبدو الاقتصاد الأمريكي، الأكبر في العالم، على حافة ركود بعد ربع سنوي ثان من تقلص النشاط، تسود مؤشرات مختلطة ويسيطر عدم اليقين بشأن المستقبل، سواء للدول أو الأفراد.
وفي خضم الجدل بين الاقتصاديين وصانعي السياسة، ثمة سؤال أساسي يفرض نفسه، يمكن أن تكون له تداعيات هائلة على مستقبل الولايات المتحدة، وربما العالم: أيهما أسوأ- التضخم أم الركود؟.
ومن خلال رفعه أسعار الفائدة بشكل متتالي، يراهن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على أن الأولوية هي لرفع معاناة المستهلكين، وتحجيم الأسعار التي ترتفع بأسرع وتيرة لها منذ أربعة عقود.
لكن العديد من الاقتصاديين والمشرعين يرفضون هذه الفكرة، بحجة أن مخاطر حدوث ركود، ستكون أسوأ بكثير من مشكلة التضخم.
ومن المؤكد أن الاحتياطي الفيدرالي يود تجنب كلا الأمرين، ويهدف إلى “هبوط ناعم”، يرفع خلاله أسعار الفائدة بشكل كافٍ لإبطاء الطلب، دون خنقه تماما. ويرى أنه هذه ستكون النتيجة المثالية، رغم أن الاحتياطي الفيدرالي نفسه يعترف بأن حدوث ذلك يزداد صعوبة.
الاستثنائية الأمريكية
جاء في بحث نشر في العاصمة اللبنانية بيروت يوم 29 يوليو 2022:
خلال اجتماع مع مجلس الفضاء الوطني، أمر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بتشكيل فرع سادس للجيش الأمريكي يركز على الفضاء ويحقّق هيمنة الولايات المتحدة عليه. حرب النجوم هذه لم تبدأ مع الحاجة إلى التعدين في الفضاء أو التحكم في الاتصالات العسكرية من خلاله، بل بدأت كجبهة استعمار نهائية للرجل الأبيض الأمريكي. وترافق استكشاف الفضاء مع صعود دراما الخيال العلمي، التي كرست عقدة المخلّص الأبيض ليس كمخلّص للبشرية وحدها، بل كمخلّص للكواكب والمجرات. عام 1977، تم إنتاج سلسلة هوليوودية من الخيال العلمي لمحاربة الغزاة الفضائيين “Star Wars”، وفيها لن يكون أشرار وأعداء المستقبل من البشر، وسيفوز أحفاد الأمريكيين -بالطبع- في أغلب معاركهم الفضائية. كانت هذه الفئة من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني بمثابة التهيئة النفسية لفكرة “نهاية التاريخ”. وأكثر من الخيال العلمي تسرب هوس التفوق إلى إعادة كتابة التاريخ بمساعدة مجموعة من النظريات الأنتروبولوجية، وحتى البيولوجية، تروج لها وثائقيات الإعلام الأمريكي، أن الحضارات الأخرى لم تبنها الشعوب، بل بناها فضائيون، لأن عقل الرجل الأمريكي الأبيض، الغارق في استثنائيته، لا يستطيع استيعاب أن شعوبا سمراء بإمكانها بناء حضارات متفوقة قبل أن يتعلم الرجل الأبيض الزراعة بآلاف السنين.
التفوق
الاستثنائية الأمريكية، هي النظرية القائلة بأن الولايات المتحدة تتفرد بطبيعتها عن الأمم الأخرى، وهذا نابع من نشأتها من الثورة الأمريكية، لتصبح ما أطلق عليه العالم السياسي سيمور مارتن ليبست “أول أمة جديدة”، ينظر إليها على أنها “متفوقة على الدول الأخرى ولديها مهمة فريدة لتغيير العالم”. وكان عالم السياسة والمؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل أول كاتب وصف الولايات المتحدة بأنها “استثنائية” في عامي 1831 و1840. وخلال إدارة جورج بوش الابن، استُخدمت الاستثنائية الأمريكية لوصف ظاهرة أن الولايات المتحدة هي “فوق” أو “استثناء” للقوانين الدولية، وتحديداً قوانين الأمم المتحدة. ثم في عام 2013 تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن الاستثنائية الأمريكية خلال حديثه إلى الشعب الأمريكي بينما كان يفكّر في العمل العسكري على سوريا، انتقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائلا: “من الخطير للغاية تشجيع الناس على رؤية أنفسهم استثنائيين مهما كانت الدوافع”. ومن أكثر الأمثلة التي يتجلّى بها الشعور الأمريكي بالاستثنائية والتفّوق، هو قانون “لاهاي”، الذي سنته أمريكا، لردع محاكمة أي أمريكي متهم بارتكاب جرائم حرب في المحكمة الجنائية الدولية.
في علم النفس، تتسم سلوكيات الشخص النرجسي من خلال علاقاته بالآخرين بالتسلط على النفس والمال وإفقاده الحرية، وتنتهي به بالمعاناة والتعاسة والشعور بالقلق وفقدان الثقة، وكلّها عوامل تجعل الضحية عالقة لا تعرف الخروج من هذه العلاقة السامة. والملاحظ أن هذه السمات هي نفسها ما يطرأ على الدول التي ترتبط بالولايات المتحدة. يمكن فهم علاقات الولايات المتحدة بالدول والشعوب الأخرى وتحديدها بوضوح من خلال المبادئ السياسية والاقتصادية التي تعتمدها. وهي ما انفكت تمارسها منذ بداية تلمس قوتها بعد إخضاعها التام لجبهة الغرب والتفاتها إلى أمريكا اللاتينية وإعلان مبدأ مونرو.
المبادئ التاريخية لعلاقة واشنطن بالدول
تاريخيا، تؤمن الولايات المتحدة بأن حرية رأس المال هي القيمة الأعلى التي توجه سلوكها السياسي والخارجي، وتفرض حرية رأس مالها على الدول الأخرى. ومن هذا المنطلق تعادي بمبادئها النيوليبرالية الدول الوطنية من حيث المبدأ لاحتفاظها بحد أدنى من السيادة في وجه رأس المال الأمريكي والغربي. وهو مبدأ متطور عن سياسة مناطق النفوذ التي تنتهجها الولايات المتحدة منذ ما يقرب الـ 200 عام، استمرت بالتطور حتى عام 1918 عندما صاغ وودرو ويلسون بشكل فعال “عقيدة مونرو العالمية” لتوسيع الهيمنة الأمريكية على العالم بأسره، وسمي أيضاً بمبدأ ويلسون. تضمن 14 مبدأً فرعيا أثّر على السياسات العالمية بعد الحرب العالمية الأولى. والواقع أن التوسع في هذا المبدأ حمل مبادئ المساواة للدول المستقلة وهو الخطاب الذي اعتمدته أمريكا لتجريد القارة العجوز من مستعمراتها والحلول مكانها.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تم إقرار المواثيق الدولية والنظام العالمي الجديد، إلا أن واشنطن أعفت نفسها من الشروط والمواثيق الدولية، وازدادت انتهاكاً لها منذ نهاية الحرب الباردة. هذا الاستخفاف بالمعاهدات كرس هيمنة أمريكية ساحقة، ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. ولولا صعود قوى المقاومة الإقليمية لكانت سيطرت بالفعل على الكوكب، من خلال هذه المنافذ الحديثة التي توظفها الولايات المتحدة لبسط نفوذها.
لقد اتخذت الهيمنة أشكالا مختلفة، منها عدائية، وأخرى عملت على الجاذبية للمؤسسات والمجتمع الأمريكي للشعوب حول العالم، وهي ما سماها فوكوياما “التأثير الأمريكي العالمي”، وعبر عنها جوزف ناي بـ”القوة الناعمة”، على أن كلا الشكلين، العدائي والجاذب، يزرعان بذورا سامة في أي مجتمع يدخلان إليه حتى لو كان دولة حليفة أو تابعة. استطاعت من خلالها الولايات المتحدة تسميم هذه الدول وتفخيخها بالفساد بحيث يصبح من الصعب عليها ممارسة سيادتها والاستفادة من ثرواتها وتحقيق مصالحها، بل تتحول تدريجيا إلى دول تابعة غير قادرة على الاستمرار بدون الوصاية الأمريكية، ويتم امتصاصها حتى تنفد، فيتم التخلي عنها.
هذه السمية في العلاقات لا تقتصر على الدول المستعمَرة، بل تنسحب على أصدقائها وحلفائها الأوروبيين وغيرهم من الدول التابعة. بعد الحرب العالمية الثانية، أعادت الولايات المتحدة الأمريكية بناء أوروبا الغربية واليابان من خلال خطة مارشال التي بدأت عام 1948 واستمرت 4 سنوات، وهو برنامج التعافي الأوروبي، لكن بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة، واستخدمت الخطة لهزيمة اليسار في أوروبا بالترغيب والترهيب والتهديد في حالات أخرى. في المقابل، أطلق وزير الخارجية السوفياتي فياتشيسلاف مولوتوف مقابله “خطة مولوتوف”، والذي اعتبر أن “إطلاق رأس المال الأمريكي في المدن والدول الصغيرة المدمرة في أوروبا سيعطي صلاحيات واسعة وهيمنة على القارة العجوز”، لتصبح سيدةً على تلك الدول الضعيفة التي لا تكاد تملك قرارها.
في كتابه “الإمبريالية الفائقة”، يتحدث مايكل هدسون عن شبكة علاقات ومنظمات حقّقت النفوذ الأمريكي على الاقتصاد العالمي، منها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة، ومنظمات ومؤسسات المساعدات والتنمية الدولية، ويتحدث أيضا كيف فاوضت أمريكا عند تشكيل هذه المنظمات لضمان فرض رأيها وكيف عطّلت المؤسسات التي كان على أمريكا فيها الخضوع للقانون كأي دولة أخرى ومرجعية الدولار في التجارة العالمية والهيمنة ضمن آليات التبادل التجاري العالمي، وهكذا فإن أمريكا تلعب دور القرصان الدولي على الاقتصاد العالمي. أما منظمة التنمية الاقتصادية (USAID)، التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، فلم تكن سوى شرطي للتنمية بحسب حاجات أمريكا لتقسيم العمل بين بلدان العالم بحسب حاجة رأس المال الأمريكي من أسواق وموارد.
دول مستهلكة
علاقات أمريكا مع دول الجنوب تحيلها إلى دول مستهلكة غير منتجة. فبعد تدمير الصناعة والزراعة ضمن خطة الإجهاد، تصبح هذه الدول بحاجة إلى استيراد حاجاتها الأساسية بالإضافة إلى الكماليات. فتعمد الولايات المتحدة إلى إمدادها بمنتجات على أنها مدعومة أمريكيا، لكن فعليا هي مدعومة من القروض التي تراكمها الولايات المتحدة على الحكومات، وتدفعها هذه الدول بأسعار أرخص مما ستكون عليه محلياً، وبالتالي يتفاقم الوضع في تدمير الزراعات الداخلية مثلا، وينعدم الأمن الغذائي. وهذه من أهم أسباب ظاهرة مدن الصفيح في العالم الثالث، إذ أدت المساعدات الأمريكية، في مجال الغذاء تحديدا، إلى تدمير الأرياف وتهجير سكانها. وبذلك تؤمن الولايات المتحدة بأموال هذه الدول سوق التصدير للقمح والأرز أيضا، وتتمكن من التحكّم بحاجاتها. وهذا ما حصل في العراق، حيث عملوا على تدمير محاصيل القمح بشكل متعمد، والقمح الذي زرع بعد الاحتلال كان قمحا للمعكرونة وليس للخبز، وهو للتصدير وليس للاستهلاك المحلي.
دول منهكة
تتميز الدول التي تقع تحت النفوذ الأميركي بأنها دول تتصاعد فيها الصراعات بشكل مستدام، فالصراعات هي المسرح الذي تدور عليه المنافسات وتوازن القوى من جهة، وهي من جهة أخرى تحول الدول إلى وكر دبابير من التدخلات العسكرية، ومزيد من النفاذ إلى الدول، واستخدامها في خدمة المصالح السياسية، ونهب ثرواتها الاقتصادية وخلق أسواق السلاح.
الواقع أن الثورات والهويات المتنازعة والحركات الانفصالية والفوضى، من أفغانستان إلى البلقان ومروراً “بالربيع العربي” إلى قضية انفصاليي الإيغور في الصين الذين كانت تصنفهم الولايات المتحدة بالإرهابيين وفجأة أصبحوا ثوارا، هي من أبرز أدوات النفوذ للولايات المتحدة. وبالإضافة إلى الحركات الانفصالية على أساس العرق أو الدين والطائفة، تعمل أمريكا على إدخال هويات اجتماعية أخرى تسمح لنفسها أن تكون وصية عليها ومصالحها بدون تفويض من أحد مثل الهويات الاجتماعية والجنسانية المسيسة والتي تدخل إلى الساحة بتعليب وخطاب نيوليبرالي مقنع.
في إطار علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأوروبية، تعاني الدول الأوروبية اليوم من تضخم مرتفع خرج عن السيطرة بسبب الحرب الاقتصادية ضد روسيا، وعلى الرغم من التصريحات المتكررة لقادة الاتحاد الأوروبي بأن “الكتلة لا يمكنها الانضمام إلى الولايات المتحدة في مثل هذا القرار بسبب تأثير ذلك في الأسر والشركات”، فإن البنوك المركزية الأوروبية ما زالت في حالة انتظار للقرار الأمريكي. ورغم إدراك جميع الأطراف للتبعات الكارثية على أوروبا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا للعقوبات الأمريكية على مختلف الصادرات الروسية وحتى تبعات حجر ومصادرة أموال الأوليغارشية الروسية، فإن أوروبا تجد نفسها مضطرة للخضوع وتدمير نفسها ذاتياً لتنفيذ القرارات الأمريكية.
المقال السابق