الاحتجاجات الايرانية الى اين؟

ما زالت ايران لغاية اللحظة تعيش وضعا مأزوما ما بين الاندلاع الاحتجاجات وسلسلة عمليات التخريب والاستهداف الممنهج على وقع قتل الفتاة الايرانية مهسا اميني من قبل قوات الامن الايراني وما بين هذا وذاك تعكس التصريحات والتبريرات الايرانية وما اعقبها من اندلاع التظاهرات في مناطق كردية وسنية واحتمالية توسعها في اية لحظة

المرجح ان ما يجري في ايران مؤخرا سيعجل بشكل أساسي من التبكير في تفجير الصراع بين مؤسسات النظام وأذرعه على مستقبل ايران فعلى الرغم من ادعاء أدوات الدولة والثورة القمعية في الحد من حركة وحجم الاحتجاجات خلال الفترة الماضية إلا أنه برأينا كان نجاحا محدودا لأنه بموازاة ذلك سيؤزم بين فئات الشعب الايراني بأطيافه المختلفة والنظام من ناحية وبين نفس أجنحة النظام نفسه والتي التقت فيما بشكل كبير كما حدث سابقا لقمع الاحتجاج الشعبي فلا خلاف ان خطاب (روحاني) الرئيس السابق زمن تولي المعتدلين سدة الرئاسة لم يختلف كثيرا عن المرشد والرئيس الحالي ابراهيم رئيس والحرس الثوري في الوقت الحاضر لكن يبدو ان ما تحقق حاليا وتصاعد هو استمرار معركة ” كسر حاجز تابو النظام وقدسيته” قد رفع معنويات الشعوب الفارسية وغير الفارسية لتحدي الدولة والثورة بشكل أكبر وأوسع بل وأعمق والهجوم تباعا على شخص المرشد الأعلى والولي الفقيه “المقدس” على خامنئي الذي أصبح مادة دسمة للشعارات والهتافات والكتابات الناقدة له في مختلف الاحتجاجات التي تجري في ايران ليعكس ما يكنه الوعي في الباطن والظاهر من حقد دفين ضد المرشد الذي تم مطالبته بالرحيل هو وكل نظام ولاية الفقيه الذي بات المظلة الحامية للفساد والمسئول المباشر عن دمار مقدرات إيران داخليا وخارجيا.

ما كشفته الاحتجاجات الحالية أيضاً هو فعلياً فشل الرهان على كل القوى الايرانية سواء كانت موجودة في مؤسسات صنع القرار ام لا، الجناح الإصلاحي، ففي فترة الرئيس الإيراني حسن روحاني السابق والذي كان مدعوماً من تياري الإصلاحيين والمعتدلين والزعماء البارزين في هذين التيارين أو الطيفين خاصة محمد خاتمي رئيس إيران الأسبق ومهدي كروبي، ومير حسين موسوي قائد الاحتجاجات الخضراء اللذين، فقد تخلوا جميعاً عن المتظاهرين، وتركوهم مكشوفي الظهر أمام أكبر حركة قمعية للنظام الإيراني، وفعلياً هم ابتعدوا عن مواجهة داخلية محتدمة مع المرشد والجناح المحافظ والحرس الثوري، معتبرين مقاربات النظام لمواجهة المحتجين كانت خلال الفترة السابقة هي الطريقة الأفضل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل شاطروا النظام وقتهل أنها أسهمت في وأد الفتنة والمؤامرة الكبرى التي قادتها أميركا وإسرائيل، وهو نفس التعبير الذي أجمع على استخدامه الجميع بأطيافهم المختلفة

ونحن هنا نتساءل عن الصورة التي بات يقدمها الجناح المتشدد الذي يقود ايران حاليا، ومن والاه عن نفسه داخلياً وخارجياً، حتى يتم التعاطي والرهان عليه لإحداث التغيير المأمول في إيران، خاصة بعد دخولهم في سجال ليس معاكس مع الثورة والنظام وأدوات الدولة القمعية، بل مكمل لبعضهما لمواجهة الاحتجاجات.

هذه الاحتجاجات الداخلية سيدفع الجناح المحافظ والإصلاحي المغيب قسرا ثمنها الأكيد، فالمواجهة الراهنة في إيران أخذت تداعياتها تتشعب مع ما يجري توظيفها في الداخل الإيراني لصالح تيار التشدد، ففي السابق كان يتم مثلا مهاجمة روحاني وحكومته، على اعتبارهم المسئولين مباشرة عن التقصير في معالجة مشاكل إيران الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو التوظيف الذي كان قد اجهض حظوظ الرجل في الوصول إلى كرسي الإرشاد وادى أيضاً إلى تقليص فرص نجاح رئيس إصلاحي مستقبلاً على الرغم من انعدام فائدته.

فمناخ الترويع الذي باتت تعيشه إيران اليوم سيتجه نحو التصعيد، خاصة أنه سيتزامن مع زيادة حدة البيئة الصراعية في علاقات إيران، سواء على حدودها الشمالية (الصراع بين ارمينيا  واذربيجان)، اضافة الى الصراع مع واشنطن التي تتجه نحو التصعيد، خاصة مع تعثر المفاوضات النووية،و احتمالية فرض عقوبات اقتصادية جديدة عليها.

لا شك بأن مصطلح “الفتنة والمؤامرة “ الخارجية كانت الورقة القوية التي استطاع النظام الإيراني بكافة مستوياته، توظيفها لاحتواء اية احتجاجات، والتي استطاع تحالف الإصلاحيين والمعتدلين أيضاً التسويق لها سابقا بقوة، وظهرت نتائج هذا الاحتواء واضحة جليّة في إضفاء شرعية لقمع المحتجين، فضلاً عن توظيف أذرع الصحافة الإصلاحية ومواقعها الالكترونية للتبرير لذلك، لكن ما يجري حاليا هو غياب تضامن الاصلاحيين ومؤسساتهم.

السؤال المطروح هل من بديل لهذين التيارين المتناحرين ظاهرياً، لا شكّ بأننا أمام مؤكدين وثابت:

المؤكد الأول: يتضمن إقراراً بفشل كل منهما في قيادة البلاد على ضوء ما جرى من تأمر على طموحات الشعب الإيراني.

المؤكد الثاني: أن ما يحدث حالياً يؤكد تعثر لحكومة (ابراهيم رئيسي)، وهو دليل آخر على وجود قناعة تتزايد يوماً بعد يوم بحاجة إيران ليس إلى تيار أو جناح ثالث قادر على أن يقود البلاد ويخرجها مما هي فيه من صراعات داخلية واشتباكات خارجية، بل أن القدرة على التغيير باتت شبه مستحيلة على ضوء هذه المعطيات، وهذا ما تأكد من خلال نتائج الاحتجاجات السابقة وتداعياتها.

لكن الثابت، وما هو أهم، أن كل نظام ولاية الفقيه قد بات عاجزاً وغير قادر تماماً على تقديم إجابات مقنعة بل وملهمة للمحتجين ليس من الشباب الإيراني فقط، بل ومن الشيوخ والنساء، الذين بدوا مقتنعين أنه لا مستقبل لإيران مع نظام ولاية الفقيه الذي تأكلت شرعيته في ظل تعثر السياسات الداخلية، والتداعيات الخارجية المدمرة، وبفعل السياسات العبثية لمؤسسات الدولة والثورة الإيرانية التي أوصلت إيران إلى الحضيض في مختلف المجالات، وما يقلق الإيرانيين أكثر هو ضبابية رؤية مستقبل إيران على ضوء هذه المتغيرات، وضرورة وجود البديل، وهو ما بدا جلياً من خلال الشعارات التي نادت بعودة الملكية لحكم إيران من جديد.

المثير أيضاً في موضوع الاحتجاجات أنها لم تعد تؤمن بالبحث عن البديل “الشخص لتنصيبه، بل في أهمية “كنس” النظام وأدواته برمتها، والمطالبة برحيلها، وهذا له مغزاه ودلالاته الخطيرة والمهمة.

ما يهمنا الآن أن النظام يداري نفسه، وبات غير مبال أو مُدرك تماماً لخطورة ما قد يحدث.

ما يدركه الجميع الآن أن إيران باتت على أبواب مرحلة انتقال ثوري في أية لحظة خاصة مع وجود معطيات داخلية دافعة للانفجار، هذا عدا عن احتمالية أن يغادر فيها المرشد خامنئي الحياة، فضلاً عن كثافة ما تتعرض له إيران من ضغوط خارجية.

لا شك بأن سياسات علي خامنئي واسطونات خطاباته المشروخة المتكررة الداعية إلى دعم “الاقتصاد المقاوم ونشر الثقافة الإسلامية وتعميقها”، ومطالبة الشعب بأن يكون “ركيزة الشعب المؤمن والثوري، وخندقاً حصيناً يتصدى لأطماع الاستكبار الوقحة”، باتت بحكم فاقدة الصلاحية والمنتهية أصلا، لأن النظام برمته بات يعيش معركة كسر عظم مع الشعب الإيراني، ما حدث ويحدث باختصار شديد هو حرص الجناحين الاصلاحيين سابقا، وحاليا تفرد المتشددين بمقاليد القرار، هو حرص الجميع على إقصاء طموحات الشعب وتطلعاته المشروعة في التغيير مهما كلف الثمن، هذا المسعى للتفاهم الداخلي وللتفاعل غير الإيجابي سيواجه بتحديين أولهما: أن الحرس الثوري ومن خلفه صقور الأصوليين والمحافظين مع فكرة أن القضاء هذه الاحتجاجات عن طريق القمع المفرط من شأنه تهيئة الارضية، لتعزيز فرص الجلوس على عرش الولي الفقيه بلا مشاكل. وثانيهما: علاقات إيران الخارجية مقبلة بالتأكيد على أيام عجاف مع الطرف الأمريكي، إضافة إلى حالة الاشتباك القوي مع أطراف إقليمية على صعيد العلاقات الثنائية وعلى خط جبهة الأزمات الإقليمية، لكن ما هو أهم من كل ذلك هو أن ضغوط الأطراف الخارجية باتت تضع مؤسسات صنع القرار الايرانية في ميزان واحد، وهذا الأمر صحيح بمجملة، ما سيؤدي إلى حشر حكومة رئيسي في الزاوية، ومن شأنه أن يُسهم في إضعاف تمكينه لموقع الارشاد خاصة بعد إعلان واشنطن فشل المفاوضات مع طهران، حيث يحرص المتشددون على توظيف الضغوط الخارجية لانتزاع السلطة من الجميع ما يزيد من حنق الشرائح المؤيدة للاصلاحيين، وسيسهم في التعجيل بانهيار الوضع الداخلي الإيراني.

بالمجمل ما حصل في إيران من تطورات سيحرص المرشد والحرس والتيار المحافظ والأصولي على استغلالها ضد اية قوى سياسية وشرائح مجتمعية، و تحويل قمع السلطة للاحتجاجات إلى انتصار داخلي يدعم الوزن السياسي للمرشد، وتصويره على أن ما جرى نعمة، وليس نقمة لإيران؛ لأنه كشف عن العملاء والمتآمرين والخونة، لكن الهدف النهائي هو إبعاد الشعب الإيراني بأطيافه المختلفة عن أن يكون طرفاً مهماً في تحديد مستقبل النظام السياسي الايراني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.