الزمان مكان سائل، والمكان زمان ثابت”، جملة تتباين فيها حدود المعنى رغم اشتراك الكلمات والجذر اللغوي، لكن لقول محي الدين بن عربي هذا معنى سابق لعصره. فالسيل مرونة وحركة، تقدم ومجرى، انكسارات وامتلاءات، وقد ينبعث انفجاراً في جدول أو نبع
هكذا يكون الماء في أصله، فكيف إن تحول المكان، ومنها الموطن لسيل قابل للانبعاث وتحريك معطيات المكان لوجود قابل للحياة، فيما الجماد والتصلّب حالة تشكّل وثبات، خصائص قائمة لا تتبدل وإن اختلفت أشكال جمادها. فكيف وإن تصلب الماء، فسيأخذ شكل الإناء الذي وجد به ويضيق الموطن على قاطنيه
في جدل الفكر اليوم، تتراءى أمامي صورة البؤس، بؤس الفلسفة الذي تناولها كارل ماركس أيام اشتعال الفكر الغربي في تحديث منظوماته ومناهجه وطرقه، بما شكلته من نتاجات وجود وحضور واقعي تجلى في الدولة ومؤسساتها كما الأطر المعرفية والفكرية بآن. منها من سال وأخذ درب الانبعاث والتحرر والتدفق، فشكل موطناً للفرد بوصفه إنساناً ذا حقوق بحيث شكلت له وطناً حراً تُمارس فيه الحقوق كمواطنة؛ والمواطنة هي ممارسة الوطنية بالفعل الإرادي الحر. ومنها من تصلب وتجمد وأخذ موقع المتمترس المعادي لكل تغيير، فشكل جموداً للوطن ونفى عن الأفراد كل الحقوق والحريات، فبئس القول والجمود ما لم تتحرّك الحياة وتصبح قابلة للنمو والازدهار. ويبدو هذا بعض، بل غالب، جدلنا لليوم في حضور بؤس الأيديولوجيا اللامتناهي
الوطنية والمواطنة كلمتان متشابهتان حروفاً، ومع هذا متغايرتان معنىً وشكلاً ووجوداً وطريقة حياة وحقوق. فالأولى زمان جامد، قيمة حميمية، ارتباط وشكل وجود عاطفي يدلل ثباته على الانتماء والحماية والاستقرار. الوطنية ارتباط وثيق بالوطن والأرض، ارتباط بالتاريخ وهذا إيجابي وهام ولكنه جامد لا يتحرّك في المعنى فهل هذا يكفي؟ فيما تغدو المواطنة سيل متحرّك قابلة للامتداد والتحرّك، وهي انتقال في ذات الموطن من لغة الحماية والأمان والاستقرار وحسب إلى لغة الحقوق والاختلاف والتنوع، إلى تحريك مجرى، بل مجاري الحياة في أطر مختلفة عن تشكلها الأول
فالانتماء للقبيلة أو الملة أو الأمة كمجموع بشري قائم، ضرورة وجود طبيعية، تحركها مفاهيم الانتماء والحماية، تلك التي تستثمر فيها اللغات، والفكر المسيس في ثبات الوجود تكريساً لسلطة الحماية وتأمين الأمان والاستقرار، والتي شكلت أعتى الديكتاتوريات وأنظمة التسلّط والعسكر بذات الراية في الحماية والاستقرار، فهل نكتفي؟ فيما أية صفة للاختلاف البشري في تعدد أنماطه وأفكاره وتمدد حرياته وسيلها، تحتكرها وتحيلها لأطر جامدة، والشعب معها لرعايا في حلقات الطلائع والشبيبة والنقابات المدجنة وكلهم يهتفون للوطن وقائد الوطن، يئمون الحياة بالقوة والحماية دون حقوق مختلفة، فتنزع صفة الوطنية عن أي وجود مختلف فكراً أو رأياً، وذلك لخروجه عن نسق الانتماء المحدد والثابت جذراً، فكانت السلطات والفكر واللغة متشاركة في نفي الوطنية، وتخوين المختلف، عن كل ما يخالفها القول والتوجه، وهنا بؤس لغتنا وفكرنا وسياستنا المعاشة لليوم، وأيديولوجيتنا بالضرورة
فيما تماثلت للشفاء تلك اللغات والأفكار التي تباينت أطر تمددها خارج مفاهيم الثبات هذه، وبحثت في أطر الإنسان وتمايزاته، أفعاله وأفكاره وأحلامه، منتقلة من وجوده الأول الطبيعي، وجوده الحق والبديهي المعبر عنه وجدانياً بالوطن والوطنية، إلى وجود يحتوي ويتضمن القدرة على التفرد وممارسة الحرية والاختلاف، والسيل متعدد الاتجاهات: فكراً وسياسية وعلماً وفناً وأدباً، فبات مواطناً. هو وطني بالانتماء والحماية، وكائن مفكر واجتماعي ومبدع له الحق بالاختلاف والتحرك بشتّى شؤون الحياة كمواطن ذي شأن وقيمة يمتلك حقوقه ويمارس حريته في الوطن. حينها يصبح الوطن زماناً متحركاً، قيمة وإنتاجاً وطوراً حضارياً، وهذه لا تلغي أبداً قيمة الوطن والأرض والانتماء، بل تضيف عليها الحقوق الإنسانية
في الوطنية المحضة، تنتزع الصفة عن كل من يفكر بطريقة مختلفة، وتهمة الخيانة التي مارستها سلطات الشرق، وما زالت، تنزع الفرد من أرضه، من وجوده، من انتمائه الطبيعي الأول، وتقيم مذبحة للوطن بأكمله، وما أشد بؤس السوريين لغة وفكراً ووجوداً حيث مازالوا يقفون عند فكرة الوطنية ولم يروا بعد ما أنتجته بثباتها وجمودها من ويلات وكوارث، وتهجير وتفريغ مدن بأكملها، والشعار المطروح الوطنية أو الخيانة، وسوريا مثلاً لا تخطئه أعين
في المواطنة، لا نزاع حول الوطنية، فالوطنية جذر وجود وحق لا خلاف حوله، فيما الحقوق المتفتحة المتباينة والمختلفة هي القابلة للجدل والنزاع والتحقق. في المواطنة هناك تحقق وتثبيت لشكل الوجود والانتماء وليس فقط، وانتقال للاختلاف والحريات، وميزة القانون هو الفصل بين أنماط تلك الحقوق التي تبني أو تعتدي على حريات الآخرين كعام. في المواطنة الكل متساوون بالوطنية، وخلافهم يبدو واضحاً في الحقوق، ومنها أتت حرية الملكية والفكر والأدب والفن والإبداع، حتى وإن اختلفت عما هو قائم وموجود. ولا يحق لكائن ما أن ينزع صفة الوطنية عن شخص، أو أن يجرده من حقوقه المدنية كما تمارس سلطات الشرق المستبدة، المتمسكة بمفاهيم الوطنية جذراً للعقاب والثواب، للحماية والتهجير، للانتماء والتخوين نافية من الجذر أية ممارسة في الحقوق والمواطنة. فيما يصبح القانون حقاً يساوي بين الجميع حقوقياً ويقرّ بينهم في الاختلاف والتعدد، إذ يعاقب القانون المعتدي على الشأن العام، فيما لا ينزع ولا بأي طريقة الفرد من وطنه لاختلافه، وإلا لنزع ماركس الماديين المنتقدين في بؤس الفلسفة من وطنيتهم، فيما كان حواره النقدي باتجاه التغير وتحقيق المزيد من الحقوق والعدالة، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا. ذلك حوار أنتج العصر الحديث بمفاهيمه المتعددة في المواطنة والدولة والقانون وسيادة القانون، فيما ما زلنا ننزع عن بعضنا بعض صفات الوطنية لمجرد الاختلاف بالأيديولوجيا، فكيف وإن اختلفنا بالسياسة والممارسة، فالتهجير والترحيل والتنكيل سمة الحاضر الجامد لا يتغير يا ابن عربي
لليوم لم نجز الاختلاف بعد، وربما نعفي أنفسنا من التفكر في الوجود الحاضر لعجزنا عن تغير مجرياته، ولكن إن توقفنا عند جملة ابن عربي قليلاً لوجدنا أنّها سابقة بقرون لأفكار النسبية الحديثة فيزيائياً قبل تحققها العلمي العصري بكل نتاجاتها المتقدمة علمياً وتقنياً. ما يشير إلا أنها دلالة على طريقة التفكير الحضاري في زمنه! وهي سؤال اليوم عربيّاً وسورياً. إذ لا يمكن الاكتفاء بأن العربية لغة البيان والإفصاح أو لغة “الضاد” قومياً، أو لغة القرآن الكريم إسلامياً، بل من الضرورة، الأخذ بأطر الاختلاف والتباين وشرطها الحوار والحرية والانفتاح وتحقيق الازدهار المادي والفكري المتوازي، ومنها وأشدها وضوحاً اليوم: الوطنية يجب أن تكون سمة الجميع، الزمان الثابت في المكان والأرض، واجب الجميع حمايته، فيما المواطنة هي حقّ الكل في الاختلاف والممارسة، وعلى الكل حماية بعضه من اعتداءات الجوار والمقربين وسلب الاختلاف وتفرد الرأي، خاصة الأيديولوجيات التي لا ترى غيرها إلا عدواً
ربما الوطنية والمواطنة كلمتان صغيرتان لغوياً، لكنهما كبيرتان في الفعل الزمني وتحقيق الدول في المكان والموطن، وهذا مسار طويل وشاق بدأناه ولن نقف فيه عند وصفة ما، بقدر الانفتاح على مجريات مختلفة وينابيع فياضة خلاف مياهنا الآسنة في بؤسنا الأيديولوجي المستنقع دهراً والتي هي أشد هولاً من صلابتها بعد .
دكتوراه في الفيزياء النووية
المقال السابق
المقال التالي