[بقلم د. جمال الشوفي]
ثمة مواجهتان تحددان مصير الإنسان، فإن كانت الأولى غالبة في محتواها وعموميتها وتتعلق بالعمل والإنتاج كشرط أولي للحياة والوجود المادي، فالعمل ليس ميكانيكي وحسب، بل قدرة على الصناعة أو الزراعة أو الكتابة أو التعلم والتعليم… العمل قيمة فارقة في حياة الإنسان الفرد والشعوب أيضاً، وربما يكون هو الميزة الأكثر عمومية والمحور الأعم بين مختلف صنوف البشر..
فالمواجهة الثانية قد تبدو في شكلها الأولي خاصة وفردية، من حيث كونها القدرة على الحرية. والقدرة على الحرية تختلف عن الحرية بذاتها، فبينما تكون الثانية فطرية عامة ومتدرجة تاريخياً بحكم الوجود الاجتماعي، تكون الثانية، والقدرة على الحرية هي فاعلية الوجود الإنساني وقد بات يمتلك إرادته الحرة ضمن الحيز الاجتماعي…
من هنا تبدأ مواجهة أخرى تختلف عن كل سابقاتها عنوانها الأبرز القدرة على الحرية كخيار مجتمعي عام، حيث تتآلف جماع الحريات الفردية المتنوعة والمختلفة والمتباينة ونماذجها المتعددة في مساحة واسعة للحرية تشترط القدرة العقلية والروحية بحواملها التاريخية المعنوية والمادية وضرورتها اللحظية والمسنقبلية على انتاج مجتمعي عام نسميه عقداً رضائيا بالإرادة الحرة على ممارسة الحرية والوطنية ضمن إطار عام اسمه وطن ودولة، وهذا مختلف من حيث ممارسة الحرية كهوى فردي… وهذه مواجهة كبرى مختلفة وفارقة…
الحرية نموذج العقل وموضوعة الوجود ومصدر أخلاقه وقيمه، هي تلك القافلة التي مضت، مع بدء الربيع العربي، في صحراء الاستبداد تهدم أركانه وتضعضع بناه المستقرة لعقود طويلة لتعلي من شأن الإنسان والعقل والقانون والروح والقيمة الإنسانية والحضارية، أو هكذا حلمنا بها أو أردناها. الحرية ليست ذلك الشعار الأجوف الذي يردده إعلام أيديولوجيات الحزب الواحد الموجهة، سلطوية أو معارضة، للانتفاع في مشاعر وفطرة الناس الطيبة لكسبها لموقع سياسي سلطوي وحسب، بل هي مبتغى الحياة ومصدر سعادة الإنسان، هي ذلك الفضاء الذي يتحرك به المواطن وفق مشروعية وجوده الانطولوجية أولاً والثقافية ثانياً والمنضوية تحت راية القانون والمسؤولية الأخلاقية والمدنية من خلال الوطنية والوطن الواحد والموحد والمتنوع والغني بكل أطيافه ثالثاً.
الحرية هي القدرة على القبول بالآخر وحقه السامي في المشاركة في صياغة القرار الوطني العام دون إقصاء واغتصاب للرؤى والأفكار. فاذا كان الدستور هو ضرورة تاريخية للعقد الاجتماعي فالحرية هي اللحظة السامية للقدرة على المشاركة فيه، وهذه ليست وصفة سحرية بل هي المواطنة وقد أخذت بالتشكل.
في بحث طويل سابق عنوانه الوطنية والمواطنة، أسئلة منهجية وحوار مفتوح، تناولت الفروق الأساسية بين الوطنية والمواطنة، وأعيد تكرار ذات الموضوعة أن القدرة على الحرية هي تلك التي تنقل الشعوب من فطرتهم الوطنية لممارسة المواطنة كإرادة حرة جمعية رضائية. إن مرتكزات الدولة الحديثة، بجذرها الفكري والقيمي والوضعي، لازالت لليوم تعبر عن الصلة الوثيقة بين الوطنية كشعور وجداني يرتبط بشكل فعلي بحاجات الاستقرار الأولى فردياً وجماعياً، ولا تكتفي بها وحسب، بل تتجاوزها واقعياً وجدلياً للمساواة القانونية وارتباطها العضوي أيضا مع الحرية الكفيلة بشرطي الاختلاف والتنوع والمسؤولية معاً. فالمواطنة:
- تنفي التوجه الاستقطابي وحيد الاتجاه سياسياً وتحافظ بذات الوقت على شروط الوطنية الأولى دون اخضاع أو اكراه، لتصبح مقولة التعاقد الرضائي شرط أساس لتحقيق الحرية، والإرادة الجمعية الحرة.
- تحقق التوزيع المتساوي قيمة وحقوقاً، فالبشر متساوون قيمة ولكنهم مختلفون رأياً وفكراً وعلماً وأدائياً ووظيفياً حسب الإمكانيات والرغبات أيضاً، ولا ميزة لأحد قانونياً على الآخر وفقاً لها، بقدر التزامه المسؤول عن الوطنية والحرية معاً.
- تغييب وتنحية الهيمنة المركزية سواء كانت فردية الطابع، أو كتلية الحالة كالطبقة وغيرها، أو غيبية المنشأ كتعاليم ونصوص مقدسة، وما ينتج عنها من مفاهيم الولاء والتضحية والأضحيات المجانية، وإيلاء الأدوار الوظيفية المختصة للجيش الوطني في الحماية، كما الاستقرار للعلم والبنى الاقتصادية والاجتماعية مع أحقية التنافس واثبات القدرة والجدوى والكفاءة، كما تحقيق الذات سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.
- قابلية الانفتاح المتحركة للحوار مع الآخر المختلف واستبعاد فكرة التخوين كنقيض للوطنية المتقوقعة، بحيث يصبح المحيط الإنساني العام غاية التفاهمات الإنسانية العامة على حقوق إنسانية عامة تتجاوز محيط الدول بذاتها، وصولاً للمبادئ الدولية لحقوق الانسان.
- انتفاء العودية القبلية لحكم مبني على موروث قبلي ذو اتجاه مغاير لحركة الواقع العصري، وبالضرورة انتفاء أنماط الهيمنة والاستعباد واسترخاص القيم الإنسانية، بحيث أصبحت ضرورة تحقيق المصير والهوية الوطنية المهددة بالتشظي بجذرها الأول حماية وانتماء واستقرار، ضرورة واقعية تقتضيها طبيعة الواقع والأخطار السياسية والمجتمعية والدولية المحيقة فيه، بعد الفشل الذريع لهذا الاستقطاب المغاير للوطنية الأولى وفطرتها الطبيعية التي قوضتها انظمة الحكم القَبْلية هذه، وموجة الصراع الدامي والعنفية بعدها على سلطة دون غيرها.
هنا تصبح مفاهيم كالديمقراطية والمدنية مفاهيم غير ملتبسة وغير قابلة للتأويل أو الاستثمار، عندما تتمثل في تطبيق حكم القانون على نحو يحمي المساواة الكاملة بين كل السوريات والسوريين، وفي التأسيس لمدنية الدولة والحياة السياسية، وفي تداول السلطة على المستويين الوطني والمحلي عبر صناديق الانتخابات دون استئثار فردي أو جماعي وحيد اللون، وفي التوافق على ضمانات قانونية وسياسية تمنع أن يتحول صندوق الانتخاب إلى مصدر لتسلط الأغلبية على الأقلية، وفي الرقابة المتبادلة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لمنع التعسف في ممارسة السلطة وتصحيح أخطاء الحياة السياسية ذاتيا، وفي الانتقال من البناء المركزي للدولة إلى اللامركزية، وفي تمكين المواطنين كناخبين ومراقبين ومرشحين من المشاركة الكاملة والمستمرة في إدارة الشأن العام والسياسي بكامل الأهلية والاحقية والحرية والمسؤولية أيضاً.
القدرة على الحرية فارقاً رئيسياً في تحقيق ضمانة المستقبل نحو تلك الدولة المنشودة عند مرورها في أي مرحلة سياسية انتقالية تفاوضية كانت أو فعلية بشروط تشكلها الموضوعية، بقيادة مجلس عسكري انتقالي منفرد أو بالشراكة وفي ظل حكومة انتقالية مدنية، حيث بات كل السوريين أحراراً ولكنهم يرقبون لحظة تحقق قدرتهم على الحرية هذه في عقد وطني، ينقلهم من مرحلة المواجهات الخاسرة إلى المواجهات المفصلية الأساسية في العمل والقدرة على الحرية، ولنقل بإيجاز القدرة على الحياة من جديد…
إقرأ أيضاً: حول مصطلحي الأقلية والأكثرية