سؤال مهم للغاية ، وقد وقع كثير من المدافعين عن الثورة وسلميتها ومدنيتها في خطأ التوصيف الصحيح للثورة السورية .
هل الثورة هي ثورة عسكرية كما يروج النظام ؟
معنی ” عسكرة الثورة ” أو أن تكون الثورة عسكرية ، هو أن تكون الثورة انطلقت على خلفية عسكرية ، أو بهدف التغيير باستخدام القوة المسلحة ، وأن تكون أهداف التغيير الوطنية ، السلمية والمدنية ، قد ضمرت أو تلاشت لحساب الأهداف العسكرية . هذا في الحقيقة لم يحدث ...
وبالتدقيق في المشهد منذ ٢٠١١ وحتى الآن …
قامت الثورة من أجل الحرية والكرامة والعدالة لجميع السوريين ، ودعت منذ انطلاقتها لدولة مدنية تعددية ذات نظام ديمقراطي ، وأن تكون سورية لجميع السوريين على قاعدة المواطنة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ، وانطلق بها شبان وناشطون مدنيون ، جزء كبير منهم ، طلبة ومحامون وأطباء ومن جميع شرائح المجتمع .. أي أن الثورة سلمية مدنية الأهداف والوسائل والغايات …
لندقق في عبارة الأهداف والوسائل والغايات ..
رد فعل النظام وحليفه الإيراني ، صاحب السجل المتخم بالإرهاب ، كان هو استخدام القوة بشكل مفرط في مواجهة المظاهرات والاعتصامات الشعبية ، مما حدا بعدد كبير من الضباط والجنود ورجال الدولة في مختلف المواقع للانشقاق عن النظام والانضمام إلى الثورة وحركة التغيير .
هنا حصل تغيير مهم ولكنه جزئي في المسار …
لقد بقيت الأهداف كما كانت ، وطنية الطابع ، مدنية الغاية ، تتعلق بقيم الحرية والعدالة والكرامة والمواطنة على نحو أوسع وأشمل ، ورغم محاولات النظام وقوى الإرهاب ، إلا أننا نلمس كل عام أن قيم الثورة الأولى ما زالت حية في قلوب أهلنا وشعبنا ، وتتجلى في هتافاتهم ومواقفهم .. لا يشك أحد في أن السوريين موحدون من أجل بناء دولة القانون والمساواة والنهضة والعدالة ، وأن تكون على قطيعة كاملة مع الاستبداد والطغيان والإرهاب والاحتلال ، ولا مكان فيها لبشار وزمرته وطغمته المجرمة . أما الوسائل فهي التي شهدت تغييراً يوائم المرحلة ، حيث اضطر السوريون للدفاع عن أنفسهم في وجه استبداد دموي واحتلال غاشم لأرضهم وإرهاب عابر للحدود ، ولكنهم في نفس الوقت لم يتخلوا عن الوسائل المدنية للمقاومة ضد النظام وحلفائه ، وما نقوم به نحن الآن هو جزء من تلك الوسائل . لا يعني ذلك عسكرة الثورة وفق المعنى الذي يجري تسويقه ، وإنما تمكين الثورة من امتلاك أدوات القوة للدفاع عن شعبها في وجه الغزو الخارجي والطغيان الداخلي . أما الغايات فلم تتغير إلا بمقدار ما تم من تغيير في طبيعة المواجهة والقوى المنخرطة فيها ، ففي سورية فإن الغاية هي بناء دولة مدنية تقوم على نظام تعددي ديمقراطي ، وإخراج قوى الاحتلال التي جلبها النظام ومكنها من مفاصل الدولة السورية وثروات الشعب ، وإبعاد الإرهاب بكل أشكاله . ومن هنا أقول إن الثورة مدنية سلمية من ناحية الأهداف والغايات ، ومتنوعة على مستوى الوسائل والأدوات ، وما تستخدمه الآن فرضته ظروف المواجهة .
–ولا ننسى ما عمله النظام بالتعاون مع الإيراني على وضع تقدير للموقف قبل ٢٠١١ مع بداية ثورات الربيع العربي ، وكان يقوم على دفع السوريين للتحول السريع من الاحتجاجات السلمية الطابع إلى المواجهات المسلحة ، ولأجل ذلك قام النظام بتدريب عدد من ضباطه الأمنيين في دورات تمت في إيران ودمشق ( كفر سوسة ) على يد الحرس الثوري ( فيلق قدس ) ، وركزت على كيفية قمع المظاهرات واتهام من يقف خلفها بأنهم جماعات إسلامية ، ولصق صفة الإرهاب بها ، ولجأ الإيرانيون إلى خبرتهم في قمع ” الحركة الخضراء ” عام ۲۰۰۹ ، بینما استند النظام إلى خبرته في قمع ثورة الثمانينيات ( ۱۹۷۹ – ۱۹۸۲ ) والتي توجها بمذبحة حماة في شباط ۱۹۸۲ ، حيث قتل نحو 40 ألف سوري ودمر 80 ٪ من المدينة وهجر عشرات الآلاف واعتقل آلافاً منهم . كانت استراتيجية النظام والإيراني تعتمد على أن الأحداث يمكن أن تنتهي خلال أسابيع ، أو أشهر على أبعد مدى ، لكن من الواضح أن هناك خطأ في تقدير الموقف ، حيث بدأت الأمور تخرج عن السيطرة ، مما اضطر النظام الذي تصدع في كانون أول ٢٠١٢ لطلب النجدة المباشرة من إيران ، وتدخل حزب الله إثر ذلك في القصير مطلع عام ٢٠١٣ ، وتلته الميليشيات الإيرانية من مختلف أصنافها ، ورغم ذلك أخفق هؤلاء جميعا في إعادة فرض سيطرة النظام رغم القوة المفرطة وغلبة الإمكانات المتاحة لديهم ، مما حدا بهم لطلب التدخل الروسي ، الذي أخفق أيضاً خلال 7 سنوات في فرض سيطرته المطلقة . نخلص من ذلك أن هناك خطأ استراتيجيا في تقدير الموقف لدى النظام ، وقراءة خاطئة للحسابات ، وفي المقابل لا أعتقد أنه كان لدى قوى الثورة من خيار سوى التصدي للنظام وحلفائه ، ولولا ذلك لسحقت الثورة السلمية مهما كانت أعدادها . أما على مستوى النتائج ، صحيح أنه كان خياراً صعباً ومؤلماً ، نظراً للضريبة الكبيرة التي نتجت عنه ، لكنه كان خياراً اضطرارياً للشعب السوري للبقاء على قيد الحياة في مواجهة آلة حرب دموية وإرهابية ووحشية . وإن أهم انتصار للثورة هو أنها ما زالت باقية ومستمرة للعام الحادي عشر على التوالي ، ولم تتمكن قوى ضخمة إقليمية ودولية من هزيمتها . لا يجب أن نقلل من انتصار الشعب السوري بمجرد أن بشار لم يسقط سقوطه النهائي .. لقد انتهى الطاغية في ٢٠١٢ ، ومنذ ذلك الحين هو بيدق بيد إيران وروسيا .. الشعب السوري يقاتل فعليا إيران بإمكاناتها الكبيرة وميليشياتها المتعددة ، وروسيا التي تملك قوة هائلة تقارع بها الآن حلف الناتو .. رغم ذلك شعبنا يقاوم ويصمد ولم ينكسر بفضل الله . أما على مستوى المواجهات المباشرة مع النظام وحلفائه ، فقد سطرت الثورة ملاحة عظيمة ، تدعو للفخر ، خاصة عندما تمكن شبان يافعون بإمكانات بسيطة من هزيمة جيش لديه كل وسائل القوة ومدعوم من دول مهمة . ومع تغيير المعادلة وقواعد المواجهة ، خاصة مع التدخل الروسي عام ٢٠١٥ ، وتراجع الدعم الذي كان يقدم من الدول الصديقة ، وقد فرض ذلك وضعاً ميدانياً مختلفاً ربما كان الهدف منه تقويض فائض القوة لدى قوى الثورة ، ودفعها نحو المسار السياسي وفق الإرادة الدولية والتفاهمات غير المعلنة بين أمريكا وروسيا وإسرائيل .. لقد كنا ضحية نزاعات إقليمية واصطفافات دولية ، وانحسار أمريكي في الشرق الأوسط لحساب دور روسي متنام ، خاصة بين عامي ٢٠١٤ – ۲۰۲۰ ، حيث منح بوتين مساحة للحركة ، ليس في سورية والشرق الأوسط فقط ، بل في أفريقيا وآسيا ومناطق عدة ، ولذا كان لزاماً علينا تعزيز تحالفنا الاستراتيجي مع تركيا ، الدولة التي تتحمل عبء المواجهة ومخاطرها الاستراتيجية ، السياسية والاقتصادية والأمنية ، وأن نعمل على الحفاظ على ما تبقى من مخزون القوة المادي والبشري بانتظار لحظة مناسبة لإعادة الانطلاق نحو تحقيق الأهداف الكلية للثورة السورية .
وعند سؤال أنفسنا أين أخطأت مؤسسات الثورة وأين أصابت ؟
يمكن رصد مجموعة من الأخطاء ، منها :
- عدم تقدير خطورة الإرهاب العابر للحدود على مسار الثورة العام .
- عدم تطوير خطاب وطني شامل يستوعب جميع السوريين بمختلف مكوناتهم .
- التهاون في دور الدول الخارجية وتأثيرها في مسار الثورة عبر آلية التمويل التي لم تكن منظمة ومركزية .
- عدم الاهتمام بتقوية وحماية المظلة الشرعية ، مما أدى لإضعافها على حساب بروز أجسام تتبع لجهات خارجية .
- عدم إنشاء مؤسسة عسكرية مركزية مما أوجد مساحات للاشتباك وأضعف البنية الداخلية للثورة .
- عدم إنشاء منظومة أمنية متكاملة تحمي الثورة ومؤسساتها من الاختراق .
- عدم تكامل المؤسسات التنفيذية وعدم اعتمادها على مبادئ الحوكمة والكفاءة والإنجاز .
- عدم بناء العلاقات مع الدول وفق منظومة المصالح المشتركة وليس المنافع من طرف واحد .
- عدم الإفادة من المهجرين السوريين والجاليات في المهجر من الصراع مع النظام وحلفائه .
في المقابل كانت هناك خطوات مهمة :
- تمسك الثورة بأهدافها الكبرى ، وخاصة مبدأ إسقاط النظام بكافة رموزه وفي مقدمتهم بشار الأسد .
- الالتزام بمبدأ الحل السياسي وفق قرارات مجلس الأمن ، ورفض أي تنازل عنها رغم الضغوط .
- عدم التنازل عن الحق في المقاومة ضد النظام وحلفائه المحتلين .
- إبقاء المواجهة مع النظام بدرجة رئيسة ، حتى مع تزايد المخاطر الأخرى .
- التمسك بالمبادئ الوطنية ورفض الانسياق لمساحات طائفية أو نزاعات أخرى .
- التصدي للإرهاب العابر للحدود ، وعدم التهاون معه بعد أن انكشفت خفاياه واتضحت نواياه .
- البعد عن حالات الاستقطاب في العلاقات الخارجية ، وخاصة في النزاعات بين الأشقاء العرب .
وأيضاً أدت الظروف السابقة ، ومنها التمويل والتدخلات الخارجية إلى نشوء علاقات سلبية ، وربما كانت هناك قطيعة في بعض الأوقات ، ولكن آثار ذلك كانت بالغة الضرر على الجميع ، وخدمت العدو وكل من يريد إفشال الثورة وعدم تمكينها من الوصول إلى غاياتها الكبرى . وأقول بكل صراحة لا يمكن للثورة أن تنتصر إلا إذا تكاملت جميع الأجسام في ظل قيادة سياسية تحظى بالشرعية وتتمتع بالكفاءة والفاعلية ، وتنطلق من الداخل بوصفه مركز المواجهة مع النظام ، ومؤسسة عسكرية واحدة ، تبنى وفق قواعد احترافية ، وتكون تابعة للمظلة الشرعية السياسية ، وأن تعيد الثورة بناء أجسامها السياسية والتنفيذية والتفاوضية ، وفق معايير الكفاءة والخبرة والتمثيل والوفاء للثورة وأهلها .
الآن لدينا فرصة ذهبية ...
- هناك أرض محررة فيها الكثير من الإمكانات ، وهناك شعب ضحى وما زال مؤمناً بالثورة وأهدافها ، وهناك إمكانات متاحة للعمل والنشاط وبناء نموذج ناجح ، وللثورة أشقاء وأصدقاء يدعمونها .
- في المقابل ، النظام يصاب بانتكاسة تلو أخرى ، وهو الآن يشعر أنه يتصدع مع وقوع حليفه الروسي في مستنقع لا تبدو نهايته قريبة ، ويتعرض لاستنزافي متواصل ، فيما حليفه الإيراني حريص على تحسين أوضاعه ورفع العقوبات التي يعاني منها ، ولدى النظام عجز كبير في توفير الحد الأدنى من الاحتياجات المعيشية وتمويل آلة الحرب لديه .
- في ظل ذلك ، تنشأ ظروف متسارعة نتيجة تطورات الصراع في أوكرانيا وشرق أوروبا ، قد تقود إلى معادلة سياسية جديدة في المنطقة ، تتولد فيها معطيات مختلفة للحل السياسي خارج إطار الهيمنة الروسية والنفوذ الإيراني ، وهو ما يجب أن يكون السوريون بجميع مكوناتهم على استعداد للتعامل معه بكفاءة وحكمة وفاعلية .
تقدمة إلى سوريا الأمل
بقلم العقيد إبراهيم مجبور
تحليل دقيق
قراءة صحيحة و شاملة لواقع ثورتنا المباركة
بوركت سيادة العقيد
بورك الاحرار
و لنا موعد في ساحات الحرية