[بقلم د. جمال الشوفي]
مع أن السياسية الأمريكية تعتبر من السياسات المتغيرة والبراغماتية، لكنها سياسة ترتسم بسياق عام استراتيجي تبنيه مراكز دراستها المختصة وفق سيناريوهات متعددة تستطيع من خلالها وضع تصور عام وخطط استراتيجية ومرحلية لتنفيذها. وهذا ما تفتقره السياسة العربية في المقابل سوى نادراً.
في هذا السياق يبرز دور بعض السياسيين السوريين الضالعين في قراءة المشهد السوري ووضع اسسه ومفاصله الدولية، وهذا ما حاوله كل من الأستاذ أيمن عبد النور بمقال عنوانه “لابد من خطة أمريكية شاملة لسوريا” نشر في الشرق الأوسط في 27/3/2021، وحاوره بها الدكتور حازم نهار في مقال نشره بالمدن تحت “عنوان نقاش مع ايمن عبد النور” نشر في 28/3/2021.
ويظهر بداية حرص كلا المتحاورين على وضع محددات للسياسة الأمريكية في المنطقة وخاصة سورية فيما يتعلق بألية الحل في المسألة السورية، ويبدو كلا المقالين يحمل سيناريو معين لرؤية السياسية الأمريكية في المنطقة.
بغض النظر عن كيفية علاج كليهما لسياق المسألة السورية لكن الملفت للنظر الحوار العلني في قضايا حساسة أولاً والاختلاف المتكامل في الحوار ثانياً والحرص على الفاعلية السورية ثالثاً.
وفق لهذا التصور اتساءل معهما هل تملك أمريكياً تصوراً للحل في سوريا؟ سؤال مشروع يستلزم قليل من المراجعة والتحديد في ملفات المنطقة عموماً وسورية خاصة:
- كتب بن رودس، مستشار الأمن القومي الأمريكي في فترة حكم باراك أوباما، في كتابه The World As It Is”” أن جل اهتمام أمريكيا وعلى رأسها أوباما في ذلك الوقت من الربيع العربي، هو انجاز صفقتي الكيماوي السوري والنووي الإيراني، والتي قال فيها أوباما حينها “تمت المهمة ولا أريد أن أسمع عن سوريا بعد اليوم”.
- في عام 2015 كتب مركز راند الأمريكي دراسة عنوان “خطة سلام من اجل سورية”، تستند الخطة إلى تقسيم سورية إلى مناطق آمنة كأساس للاستقرار والحل فيها، فتقول الدراسة: ((إن أفضل الآمال من أجل وقف المقتلة السوريّة، هو القبول بمناطق مُتفّق عليها، تأخذ في حسبانها التقسيمات الإثنو-طائفية، والخطوط الحالية للمعركة))، وهذه المناطق هي: منطقة سيطرة النظام من الساحل السوري إلى دمشق وتحت الوصاية والضمانة الروسية. منطقتان منفصلتان كلية تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة، واحدة في الشمال السوري في إدلب وشمال حلب تحت الوصاية والضمانة التركية، والثانية في الجنوب السوري تحت الوصاية والضمانة الأردنية. منطقة كردية شرق الفرات وشمال غرب سورية تحت الوصاية الأمريكية. على أن يتم إدارة هذه المناطق بالمسيطرين عليها من قوى الأرض، على أن تضمن كل من روسيا وإيران التزام النظام، وتركيا والأردن التزام المعارضة، وأمريكيا التزام الأكراد، لتبقى منطقة داعش الشرقية تحت الوصاية الدولية بعد طردها منها. وهذا ما يتفق جزئيا مع عبد النور في موضوع “العربات” الذي اقترحه أولياً للحل السوري. ولكن ذات الخطة لم تكتمل لا في شروط تحقيقها ولا في قدرتها على انجاز خطة السلام المزمعة لليوم.
- درجت حكومة رونالد ترامب على إدارة ملفات المنطقة بطريقة الابتزاز السياسي العام لجميع الأطراف الإقليمية سواء الخليجية أو التركية، وذلك في سياق سياسة نفعية محضة، فحافظت على مواقعها الاستراتيجية ذات العصا الطويلة في إدارة ملفات المنطقة خصوصاً من خلال تموضعها في مثلث التنف السوري، لتضغط بذلك على جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري سواء الروس أو الأتراك والنظام وايران، دون الدخول في مواجهات مع أي منها، ببقدر الحفاظ على الاستقرار النسبي شرق الفرات وترك الملف السوري لفوضى عارمة دون أحداث بوادر حل جدية فيها وهذا ما يتفق مع رؤية النهار.
اليوم يهتم جميع السوريين خاصة المقربين من دوائر صنع القرار الأمريكي في وضع ملامح تصور لطريقة ودور السياسة الأمريكية الجديدة في عهد بايدن وذلك بالاستناد لقوة وفاعلية القرار الأمريكي على الساحة الدولية، هذا مع تباين واضح في تصريحات سياسيها إزاء سورية، فبينما تصر خارجيتها على ضرورة الحل السياسي السوري والضغط باتجاه تسوية سياسية في سورية بمرجعية 2254/2015، بينما لم تبدي الإدارة الامريكية موقفاً واضحاً من المسألة السورية بقدر طلبها من المقربين السوريين حولها بتقديم تصور عن الحالة فيها وطرق حلها.
في هذا السياق يمكن وضع محددات عامة تقوم بها السياسة الأمريكية وتشغل الفاعلين في صناعة قراراتها نلخصها في نقاط عدة دون استنفاذ غيرها:
- بقائها على رأس قمة الهرم العالمي في نظام احادي القطب تنافسها عليه بالوقت الحالي كل من روسيا جيوبوليتيكيا والصين تقنيا واقتصادياً. ما يؤهل سياستها لتجنب المواجهات الحادة مع كليهما، خاصة روسيا المتمسكة بعودتها لمربع القطبية العالمية من خلال البوابة السورية، بقدر العمل على ترويضها في سياق ذات النظام. وكل الطرفين الأمريكي والروسي يتقنان اللعب بأوراق متعددة بذات الوقت وفق معايير مصالحها المرحلية والاستراتيجية، لتبدو أنه ثمة نقطتي اتفاق بينهما خلاف ذلك تتمثل ب: تحجيم أدوار اللاعبين الاقليمين التركي جزئياً والإيراني كلياً في منطقة الشرق الأوسط، ثانيهما ايجاد محيط آمن لما يسمى بالأمن القومي الإسرائيلي المتشارك والمتداخل مع الدور الأمريكي من جهة والروسي من جهة أخرى خاصة في المسألة السورية.
- خطوط المواجهة الروسية الأمريكية في سورية لا يمكنها تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة تحت عنوان عريض للقوى الكبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بحيث لا يمكن حدوث مواجهة مباشرة بينهما في منطقة معينة بقدر اللجوء للعقوبات الاقتصادية، الذراع الفعال في السياسة الأمريكية لليوم، ومع هذا لم ينفع قانون عقوبات قيصر في جعل الروس يميلون للحل السياسي في سورية لليوم، سوى أن سياسة لا إعادة اعمار في سوريا بلا حل سياسي فيها تبدو ورقة قابلة للتنفيذ والتقارب بين السياستين حولها.
- أمام أمريكيا سلة متكاملة للعمل في الشرق الأوسط سواء في العراق أو سوريا أو في الخليج العربي، ويأتي التمدد الصيني خارج حدودها اليوم بتنفيذها صفقة الموانئ الإيرانية عقبة إضافية أمام السياسة الأمريكية في عموم المنطقة، ما يجعل الارباك بادٍ عليها، وبالأصح لا تمتلك خطة واضحة او تصور واضح حول آلية التعامل مع المنطقة لليوم ضمن هذه الملفات المعقدة.
حددت الخارجية الامريكية في العام 2014 ما بدا أنه خطتها الاستراتيجية لمواجهة التمدد الجيوبولتيكي متعدد الأطراف المتمثل بالصين وروسيا وإيران، ويبدو أنها بدأت العمل من وقتها على وضع خططها الاستراتيجية لهكذا مواجهات قاسية، بدأت مفاعيلها بالاتضاح في مواجهات التقنية الكبرى مع شركة هوواي الصينية، ومع التمدد الروسي ووصوله للبحر المتوسط، إضافة لاتساع رقعة التواجد الإيراني، ما يجعل طبول الحرب العالمية الثالثة، التي كان هنري كسنجر 2013 قد حذر منها مبكراً، أكثر سماعاً اليوم من أي وقت مضى. فاذا ما أخذت سياسات الدول الكبرى في الحذر بخطوطها الحمراء القوية هذه من تفادي المواجهات الحادة، فان المسألة السورية ستصبح قريباً على طاولة التفاوض العالمي متعدد الأطراف لإيجاد حل فيها وإيلاء الأوربيين دور فعال فيها كحل وسط بين جميع الأطراف، وهذا ليس إرضاء للسوريين ومظالمهم بقدر تفادي هذا الاحتكاك الخطر على السلم العالمي. وأظن هذا ما يمكن الحوار حوله بوضوح بين أروقة الفاعلين السوريين سياسياً، بهذا الوضوح المعلن الذي بدأه عبد النور والنهار، دون مجازفات أيديولوجية لازلت تمارسها معظم صنوف المعارضة السورية خاصة مع غياب دور مراكز الدراسات السورية عن التأثير في قراءة المشهد العام، ليبرز على السطح في هذا السياق دور العقلانية والحوار الهادئ والمنتج في تحديد أولويات العمل الممكن وكيفية الاستفادة من هذه التباينات الدولية ولو بحدها الأدنى في وضع تصور للحل السوري وان كان جزئياً ومرحلياً لكنه يبدأ بطوي صفحة الحرب والقتل الجزافي والتوجه نحو السلام العام كنقطة ارتكاز دولية مطلوبة اليوم وكل يوم…
إقرأ أيضاً: الخوف وعلاقته بالاستبداد والدولة