ثالثا، في أن الوطنية لا توجد بغياب المواطنة
لكن بمقدار ما تحوّلت إلى أسطورة ورمز للتحرّر والتقدّم والدخول في الحياة العصرية، أي السيادة الشخصية على الذات، والسياسية على الدولة وسلطتها العمومية، فجّرت الدولة الحديثة لدى الشعوب التي لم يواتها الحظ في بناء دولتها المستقلة شعورا مأساويا بالحرمان والظلم. وأحدث مبدأ حق تقرير المصير الذي أطلقه الرئيس الأميركي، ترومان، في بدايات القرن العشرين ثورة بمقدار ما ألهب حماس النخب الاجتماعية التي طاولها التهميش المديد، بسبب أصولها الإثنية أو الدينية، للمطالبة بدولتها الخاصة الوطنية، فانطلقت حركات التحرّر الوطني، واستقلت عشرات الدول، وفاق عددها اليوم 193 دولة. لكن ربما لا يتجاوز عدد الدول التي تحقّق مفهومها بالفعل، وتلبّي مطامح سكانها وتطلعاتهم إلى مواكبة المدنية الحديثة، العشرات منها، بينما تعيش أغلبها في أزمة مستفحلة، بسبب عجزها عن تأمين الحقوق والحريات والتعهدات التي تبرر وجودها. فصارت بذلك عالة على شعوبها، وأحيانا سجونا ومعسكرات اعتقال وتعذيب وتجويع، بدل أن تكون وسيلة للتحرّر والانعتاق والتفتح والازدهار في حياة الأفراد المادية والثقافية. صار المليارات من البشر يعيشون في بلدانهم فيما يشبه وضع اللاجئين. أما اللاجئون الفعليون فهم اليوم طريدو الدول الوطنية، وحتى الديمقراطية، التي تعيش مفارقات الحداثة وزوال عديد من أوهامها.
وفي هذه المحنة الأليمة التي أخذت تعيشها تلك الشعوب التي حلمت بالدولة القومية طريقا إلى الحرية والخلاص تتأكد من جديد حقيقة أن قيمة الدولة الوطنية، أو بتعبير أدقّ دولة المواطنة، لا تنبع من تجسيدها أي هوية ثقافية إثنية أو دينية، وإنما من إبداعها، بوصفها رابطة سياسية، أي ناجمة عن التفكير العقلي، وهذا ما يميّز السياسة عن العصبية القبلية أو الدينية، فضاء أو إطارا جديدا (سياسيا) أوسع وأفرج وأرحب، يسمح للأفراد ويمكّنهم من التعاون مع أندادهم، بالرغم من اختلاف هوياتهم الثقافية الدينية والقومية، ومع احتفاظهم بها. وشرط نجاح هذا الإطار السياسي أن يساوي بين الأفراد من وراء انتماءاتهم الأهلية. لذلك لا تتحقق الوطنية إلا بين مواطنين مستقلين وأحرار، ولا تنمو وتنضج إلا بتوسيع دائرة ممارسة الحقوق والحريات، ولا تستقر إلا بترسيخ سلطة القانون. وفي إطار هذه المواطنة، تنشأ الفردية كإرادة ووعي مستقليْن، بمقدار ما تتيح للفرد التحرّر النسبي من عصبيته العضوية. وأي محاولة لمطابقة الهوية الوطنية مع الهويات الثقافية أو العضوية أو دمجها فيها يعني تقويضها والانتكاس من الكونية إلى الخصوصية، ومن الفردية إلى العصبية الجمعوية، ومن ثم تقويض مبدأ المواطنة والوطنية معا.
والخلاصة، ليس البحث عن حل أزمة الهوية الوطنية، في إطار مفهوم التجانس، طريقا مسدودة فحسب، ولكنه حامل لمخاطر كبيرة. وجميع الحركات التي نزعت هذا المنزع انتهت إما بحروب تطهير عرقية أو بشرعنة إقصاء جماعات ترى فيها تهديدا لصفائها، وربما تهميش الأكثرية وتحويل نخبة السلطة إلى عنوان الوطنية. ومثل هذا التجانس أو الصفاء الثقافي والعرقي هو ما سعت إليه ألمانيا النازية، وهي قومية تراجعت إلى مفهوم العرق، بدل أن تتقدّم نحو قانون المواطنة، وقاد إلى انهيارها. ولا أعتقد أن لهذه الدعوة التجانسية أي أمل في التحقق في إطار أي نظام سياسي من خارج منطق التطهير الإثني أو الديني، كما هو حاصل اليوم بالفعل مع شعب الإيغور المسلم في الصين التي تتبنّى رسميا أيديولوجية علمانية، ولشعب الروهينغا والمسلم أيضا في الهند الليبرالية، وشعوب عديدة صغيرة في بلدان كثيرة أخرى.
ليست هناك حاجة لأحد كي ينكر تراثه القومي أو روابطه الأهلية، كي يكون مواطنا صالحا، ولا يشكّل ذلك شرطا لتأكيد مواطنته في الدولة القائمة
لا يعني هذا أن القومية بمعنى الانتماء إلى أرومة ثقافية وتراث وتاريخ قد اختفت أو هي في طريقها إلى الاختفاء مع صعود نجم الدولة الديمقراطية التي تساوي بين مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم القومية ودياناتهم وفلسفاتهم، فعدا عن أن ذلك من المستحيلات، لأن الثقافة مادّة حياة البشر التي تشكل ذاكرتهم وتصوغ مشاعرهم وأفكارهم، فإن تاريخ الشعوب، ومن ثم الثقافات، لا يتطابق مع تاريخ الدول، وهو سابقٌ عليها ومستمر بعدها. فالدولة شكلٌ من التنظيم السياسي الأكثر تعرّضا للانقلابات والتحولات الطارئة، لكن الشعوب والثقافات تشكيلات عابرة للدول، ولها حياتها الخاصة خارجها، وقد تعيش حقا أو وهما عند أصحابها آلاف السنين.
لذلك ليست هناك حاجة لأحد كي ينكر تراثه القومي أو روابطه الأهلية، كي يكون مواطنا صالحا، ولا يشكّل ذلك شرطا لتأكيد مواطنته في الدولة القائمة، ولا في جعل هذه الدولة أكثر تحقيقا لشروط الازدهار والتقدّم المادي والسياسي وحكم القانون، فلكل رابطة حياتها الخاصة التي تتقاطع مع الروابط الأخرى في دوائر معينة وتبتعد عنها.
وللهويات الإثنية، وهي جوهريا ذات بنية ثقافية، حياتها الخاصة التي تتطوّر عبر الزمن والتقلبات السياسية، وتغتني بها، وتعيد تشكيل نفسها في كل حقبةٍ تاريخيةٍ بصورة متجدّدة. وليست الدول التي تنشأ وتزول إلا الإطار التنظيمي المتجدّد لهذه البنيات العميقة والتاريخية التي تفور بالحياة وبالتغير والتقلب الدائمين. لكن في بنية الدولة وأسلوب إدارتها وخيارات نخبها السياسية وعلاقتها مع شعوبها، ينبغي البحث عن جذور أزمة الهوية الوطنية، بما في ذلك عودة الروح إلى العصبيات الأهلية والخصوصيات الطائفية والدينية، فالمصدر الأول للاضطرابات والانفجارات التي تشهدها الدولة شبه الوطنية اليوم في بلاد الجنوب الفقيرة يرجع إلى خيبة أمل شعوبها بها، بعد أن كادت تخلع فيها ذاتها على أمل أن تمكّنها من الوصول إلى جنة المدنية الحديثة الموعودة. وإذا كان للعوامل الثقافية أو التاريخية المتمثّلة في الحساسيات الإثنية أو الطائفية بعض الأثر في عرقلة نضوج الهوية الوطنية لكن إجهاض هذه الهوية أو غيابها هو من دون أي مقارنة النتيجة المنتظرة والمقصودة لسياسة واعية، واستراتيجية ممنهجة، لنخب حاكمة نجحت، وبمساعدة أولياء أمرها الخارجيين في أكثر الأحياء، في قلب الطاولة على أصحابها المفترضين، ومصادرة الدولة الحديثة، وتوظيف موقعها المركزي وآليات السيطرة الشاملة التي توفرها والطوبى التي تبعثها، لإخضاع شعوبها وتسخيرها لخدمة أهدافها الخاصة ومراكمة مصالح ومنافع استثنائية لا يمكن تحقيقها من دون تقويض الجماعة الوطنية أو الحيلولة دون تكوينها، واستخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة في الداخل والخارج، بما في ذلك تلغيم تناقضات المجتمعات الأهلية وتفجيرها، لإلغائها. وهذا ما سوف أتناوله في مقالة قادمة
المقال التالي