ثانيا، في وهم التجانس الثقافي وسوء مآلهيشكّل التفكير في الهوية بمنطق التجانس، أحد مخلفات الأدبيات القومية الكلاسيكية التي ركّزت منذ القرن الثامن عشر على وحدة اللغة والثقافة والتاريخ، وأحيانا العرق، وأدّت إلى حروب قارّية لتقريب الحدود الجغرافية للدولة من الحدود الثقافية. ويلتقي هذا التفكير مع ما تنادي به اليوم حركات اليمين السياسي المحافظ والمتطرّف في أوروبا التي ترى أن ازدياد عدد المهاجرين من المسلمين والأفارقة والآسيويين، وغيرهم يهدّد هوية الدول الأوروبية، بمقدار ما يحمل معه ثقافات مناقضة لقيمها الثقافية. والحال أنه، بعكس ما تشيعه نظريات التجانس هذه، لا يوجد منطقة جغرافية خالية من التعدّدية الثقافية الدينية والقومية. ولم يتحقّق التجانس جزئيا في أي قُطر قبل نشوء الدولة الحديثة، كما أن من المستحيل أن يتحقق اليوم بالطرق التي تحقق فيها في القرن التاسع عشر من خلال قوانين قسرية، كانت السياسات القومية الفرنسية (اليعقوبية) النموذج الأبرز لها. كما أن التاريخ لم يشهد، في أي حقبة، دولا تشكّلت على أساس هذا التجانس. بالعكس، لقد تشكّلت على الجمع أو التحالف بين العشائر والقبائل، ثم على الغزو والتوسّع لإضافة موارد جديدة للدولة، كما فعلت الدول الإمبرطورية التاريخية. ولذلك، اعتبر بعضهم أن القومية، كما ظهرت في القرن التاسع عشر، لم تكن سوى أسطورة أو صناعة خيالية ورمزية برزت للتعويض عن تقويض العصبيات الأهلية الحميمية (بندكت أندرسن). لكن الدولة الحديثة سرعان ما تخلت عن هذه الأسطورة القومية، مع تقدّمها في النضج السياسي، لتتماهى مع الديمقراطية التي تراهن على إدماج الأفراد، من كل الطوائف والمذاهب والإثنيات، في الجماعة الوطنية الواحدة، مع تركهم يعيشون انتماءاتهم واعتقاداتهم الأخرى كما يحلو لهم. فصارت السياسة تعني تعميم حقوق المواطنة، ومن ثم تنامي الفردية الحرّة، وتكوين رابطة ربما كان من الأصح نعتها اليوم بالمدنية أكثر من القومية أو الأمة. وصار من وظائف الدولة إدارة التعدّدية الفكرية والسياسية والثقافية بدل البحث عن صهرها أو طمسها، بوسيلة أو أخرى، كما كان الحال في بداياتها. أما شعارات القومية الكلاسيكية فقد تحوّلت إلى عنصر مقاومة لهذه الثورة المدنية، وصارت جزءا من عدّة اليمين المتطرّف الإيديولوجية وسلاحه في محاربة المهاجرين واللاجئين الذين حُرموا من دولة المواطنة ومن أي حماية دولية. ثم إن الهوية، أي هوية، لا توجد بالمطلق لأنها ليست ماهية ثابتة تولد مع المرء، وتتحكّم في وجوده إلى النهاية، فالهوية تعبيرٌ عن علاقة اجتماعية هي بالضرورة تعدّدية، فالفرد يدخل في علاقات مع الأسرة، ويأخذ اسمه منها، ومع الجماعة الإثنية أو الدينية التي ينتمي إليها، ومع الحي أو القرية أو المدينة أو الحزب أو النقابة .. إلخ. وتعكس هذه الانتماءات مراكز اهتمامه ونشاطاته، وما يعرف عن هويته، أي ما يمثله، في نظر ذاته أولا، وفي نظر الآخرين الذين يتعاملون معه بوصفه ذاتا مستقلّة أيضا. ومن مجموع هذه الانتماءات تتشكل شبكة الاهتمامات والمصالح والتطلّعات التي تكون هويته أي فرادته، بوحدتها وتعدد أبعادها وتناقضاتها أيضا.لا تقتضي المواطنة أو تأسيس أمة وجماعة وطنية محو الروابط والتجمعات الأهلية أو التنافس معها، وليس هذا هدفهاولا يختلف الأمر بالنسبة للفرد في علاقته بالدولة التي تحتل موقعا مركزيا في شبكة علاقاته المتعدّدة لكنها لا تستنفدها. إنما تشير إلى رابطة من طبيعة أخرى، سياسية، تضاف إلى مجموع انتماءاته الأهلية أو المدنية. وكما يرتب انتماء الفرد لأسرة، أو عشيرة أو نقابة أو مهنة، الإلمام بلغة وثقافة مشتركة وقيم أساسية عليه استيعابها والالتزام بها، حتى يعترف له بعضويته فيها، كذلك يقتضي الانتماء للدولة الحديثة الأخذ بقانونها واحترام المبادئ التي تقوم عليها. والالتزام بقانون الدولة هو أساس العضوية فيها، أي اكتساب صفة المواطنة، الحبل الرابط بين أفرادها. وتعني المواطنة التمتّع بالحقوق الأساسية التي تتصدّرها الحرية، بمعنى استقلال الفرد بقراره فيما يتعلق بحياته، وبالمساواة في ممارسة هذه الحقوق. ولا يوجد دستور لدولةٍ حديثةٍ لا يقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، حتى في الدول التي لا تحترم تطبيقه، فمن دونه لا توجد مواطنة، ولا بالتالي دولة بالمعنى الوطني الحديث للكلمة. هذا يعني أن الدولة الحديثة لا تستمد شرعيتها من تقاليد وأعراف ثابتة سابقة عليها أو من فكرة الوازع الخلدونية بوصفه ضرورة لتحقيق النظام، وإنما من تأسيسها رابطةً جديدةً تجمع بين الأفراد من خارج الروابط الدينية والقبلية أو الإثنية التي تفرّق بينهم، وتضاف إلى الروابط القائمة. وهي رابطةٌ من نوع خاص تقوم على المشاركة في حياة سياسية واحدة محورها المشاركة في تحديد مهام السلطة العامة، وفي مناقشة القرارات التي تؤثر في مصير الأفراد وتعديلها. وليست الدولة إلا المنظم المركزي للحياة السياسية، أي الممارسة الجماعية للسلطة المنبثقة بشكل غير مباشر من الشعب. وهي لا تستمدّ شرعيتها إلا من توافقهم وتواضعهم على قانونٍ يجعل من إراداتهم المتعدّدة إرادة واحدة، هو قانون المواطنة، بصرف النظر عن اعتقاداتهم وهوياتهم الثقافية. وفي هذه الرابطة الجديدة، ليس المهم اللحمة الموروثة ثقافيا أو بيولوجيا، كما في العائلة أو العشيرة أو القوم/ القومية، وإنما ما يكفله حكم القانون من حقوق للفرد، وما تقدّمه المواطنة من إمكانية المشاركة في القرارات العمومية. هكذا لا يصبح الفرد مواطنا على حساب انتماءاته الأهلية إلى عائلة أو عشيرة أو جماعة دينية وقومية، ولكن بالإضافة إليها. لذلك لا تقتضي المواطنة أو تأسيس أمة وجماعة وطنية محو الروابط والتجمعات الأهلية أو التنافس معها، وليس هذا هدفها. إنها تدشّن منصّة جديدة، لتواصل الأفراد وتعاونهم بوصفهم أفرادا مستقلين، فيما وراء انتماءاتهم العضوية، لتحقيق مصالح وفتح آفاق لا يمكن تحقيقها في الأطر الخاصة الأخرى. وهنا تكمن خصوصية الدولة وهويتها بوصفها مركز تنظيم الحياة السياسية الجديدة، وجهازها العصبي، ومحور بناء الأمة المكونة من أفراد أحرار ومتساوين وفاعلين في الحياة العامة، أي مشاركين في القرار على مستويات مختلفة، بصرف النظر، كما سبق الذكر، عن انتماءاتهم الأهلية وخارجها.تتأكد من جديد حقيقة أن قيمة الدولة الوطنية، أو بتعبير أدقّ دولة المواطنة، لا تنبع من تجسيدها أي هوية ثقافية إثنية أو دينية، وإنما من إبداعهاهكذا صارت الدولة الوطنية مطلب جميع الشعوب ومدخلها إلى مسرح التاريخ العالمي ووسيلتها للتفاعل مع الشعوب الأخرى. وصارت القوميات الصغيرة والكبيرة تطمح إلى إنشاء دولها الخاصة، ليس من أجل الحصول على حقوق المواطنة: الأمن والحرية والسعادة وتحسين شروط الحياة المدنية فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، لما تفتحه أمامها وأمام أفرادها من آفاق وفرص للتقدّم والترقي لا تتيحها الروابط أو الهويات الأهلية.