بعد سنوات من التفاؤل والأمل بالإصلاحات والمصالحات الوطنية وتجديد السياسة وإمكانية انفتاح النظم المغلقة منذ عقود، فإنّ حياة البشر في عالمنا العربي تتردى بسرعة (40% من العرب يعيشون تحت خط الفقر)، مما ينطوي على تفاقم الاحتقان السياسي والاجتماعي، واتساع دائرة الإحباط، وارتفاع درجة التوتر والاستعداد للانفجار والانفلات والعنف لدى أغلب الأوساط الاجتماعية وعلى جميع المستويات.
إذ لا يمكن لسياسات الإقصاء والعزل والحرمان ومنع المشاركة، في ظروف تفاقم الأزمة العامة وتراجع قدرة الدولة على تلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية، أن تؤدي إلى شيء آخر غير إلحاق مزيد من الفئات الاجتماعية بقوى الاحتجاج، وإعادة إنتاجها كقوى انشقاق وتغيير.
لقد قدمت حصيلة السياسات العربية في مجال التنمية فشلاً في نهوض المجتمعات العربية، على رغم الموارد المادية والبشرية التي تملكها. وتكفي الإشارة إلى بعض المصائب التي تتخبط فيها المجتمعات العربية: نسبة الأمية العالية، والهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء، واكتظاظ المدن بالسكان، وهجوم التصحر على الأراضي الزراعية، والأحياء شبه العشوائية، والطرق الخالية من الأرصفة، وشبكات الصرف التي تتدفق في كل مكان، والمرافق والخدمات التي تُبنى وتُدار بلا تفكير في رأي المواطن وراحته واحتياجاته. ولو أخذنا واقعنا على حقيقته لوجدنا أنّ الشباب، بين سن الخامسة عشرة والثلاثين، يشكلون حوالي 70% من مجموع العرب، وأنّ نسبة العاطلين عن العمل منهم يزيد عن 30%، فإذا أضفنا إليهم عدد النساء غير العاملات لأدركنا حجم المصيبة التي نحن فيها.
لقد آلت النظم العربية الحاكمة إلى إفلاس أخلاقي وسياسي تام، وهي تحكم مجتمعات مهمَّشة، عديمة المناعة، ضئيلة الكثافة النفسية والروحية رغم المظاهر المعاكسة. هذه الأنظمة بلا برامج وبلا خطط وبلا قدرة على وضع استراتيجيات، لأنها مبرمجة على تأبيد اللحظة الحاضرة، إنها أنظمة محافظة بعمق تخشى التغيير ولا مطمح لها في هذه الحياة إلا بقاء الأوضاع التي تؤمِّن لها سلطاتها.
إنّ معظم الحكومات العربية تستمر في المباهاة بقوة السيطرة، تحت عباءة ” تحقيق الاستقرار” دون أن تعترف بالأزمة العميقة التي تمرُّ بها مجتمعاتها، وهذا يشكل تجاهلاً للأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية لحالة عدم الاستقرار. إذ لم تحاول الأنظمة العربية المتوالية إقامة حكم ديمقراطي صحيح في بلادها، ينتج منه تمثيل حقيقي للشعب يتولى إدارة البلاد والاهتمام بقضايا الناس الحياتية والتنموية. وبدلاً من ذلك، انغمست الأنظمة في الفساد وتأمين مصالحها الخاصة، ما ولَّد الكبت والقهر في نفوس مواطنيها وانزوائهم وشعورهم بالغربة في وطنهم.
إنّ توصيف طبيعة النظم العربية القائمة وآليات عمل نخبها الحاكمة يمكن أن يعطينا الصورة بكل ما لها وما عليها، إذ إنّ أغلب الأنظمة العربية تعاني حالة من التقوقع داخل إطار دوائر مغلقة، سواء كانت تلك الدوائر سلطوية أو حزبية أو حتى عائلية، لذلك توقفت المشاركة في السلطة وغاب دوران النخبة، واختفت الدماء الجديدة التي تضخها الشعوب في نظمها السياسية لتعطيها الحيوية وتوفر لها أسباب المضي نحو آفاق المستقبل بخطى ثابتة ونقلات واعية.
إنّ المشكلة التي تواجه أغلب الدول العربية تتلخص في عدم تحويلها إلى وطن لمواطنيها، المحرومين اليوم من حقوقهم ونواتج عملهم، حتى ليمكن القول، كما ذكر فقيدنا الأستاذ ميشيل كيلو: إنّ عالمنا العربي يشبه اليوم هرماً مقلوباً يقف على رأسه، يقيم توازناته وممارساته وأفكاره ومصالحه على قبضة محدودة من مواطنيه، يشكلون رأس الهرم، بينما أغلبية الشعب معلَّقة في الهواء، تعاني الأمرَّين من أجل لقمة العيش وشيء من الحرية، وتفتقر إلى أي دور في حياتها.
لقد تبدلت الأحوال في الزمن الراهن، فلم يعد المواطن العربي يهتم بما يجري خارج حدود بلاده، وضعف حسه القومي وتفكك، وثقلت همومه اليومية، وتسلَّط عليه حكَّام يتصرفون بخيرات بلاده وفق أهوائهم الشخصية ومصالحهم الذاتية، ولا يعيرون متطلباته الحياتية والتعليمية والصحية اهتماماً حقيقياً.
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان أن يعود لدولة الحق والقانون دورها في العالم العربي، وبشكل خاص في المجالات والأنشطة الاجتماعية. وإذا كانت الكثير من الدول العربية قد قدمت تسهيلات وخدمات منقطعة النظير لرجال الأعمال الأثرياء فقد آن الأوان لكي تعيد الدولة حساباتها وأن توجِّه رعايتها للملايين من الفقراء والمحتاجين، فهؤلاء هم الوقود الحقيقي للتنمية، كما أنهم الوقود الحقيقي لأية انتفاضات قد لا تستطيع هذه الدول مواجهتها أو السيطرة عليها، الأمر الذي لابدَّ وأن ينتهي بحالة فوضى عارمة تجتاح هذه الدول وتكرِّس وضعية تخلِّفها.
إنّ العالم العربي يعيش حالة قلق متنامية، وتبدو كثير من التصرفات خارجة عن نطاق المألوف إن لم تكن خارجة عن نطاق العقل، وذلك هروباً من التعاطي مع الواقع والحقائق بصورة موضوعية. ففي الوقت الذي تستعد فيه قوات الأمن في بلداننا لقمع أيِّ تحرك شعبي يعبِّر عن استنكاره لما وصلته أمتنا من إذلال ومن عجز، يتعمق الإحباط عند الإنسان العربي أمام مأساة عربية جديدة تضاف إلى مأساة فلسطين، تضاف إلى مأساة الفقر والتخلف، تضاف إلى مأساة الاستبداد والفساد والهجرة المكثفة لشبابنا. وفي ظل إفلاس شامل لأنظمة فاقدة للشرعية، فاقدة للهيبة، فاقدة للمصداقية، فاقدة للفعالية.
إنّ الواقع العربي الراهن يعبِّر أصدق تعبير عن فشل العرب في تكوين دول مدنية حديثة، بالمعنى الثقافي والسياسي العملي. فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم ” أهلية – قبلية ” غير مدنية، بعيدة عن منطق العصر والتطور والحداثة المعرفية والعلمية، ولا مكان فيها لأية منهجية تفكير علمية رصينة. لذلك يجب ألا يغيب عن أذهان العرب أنّ مجتمعاتهم قد وصلت إلى أدنى حالات السوء من تخلُّف وفقر وأمية حضارية، وشارفت درجة الغليان من الإحباط والاحتقان الكلِّي الشامل نتيجة انعدام أملها ونفاذ صبرها في تحسُّن الأمور وتغيير الأوضاع.
إنّ الأمر الذي يحتِّم على كل القوى والتيارات والنخب الحية الفاعلة، في السلطة وفي المعارضة العربية على حدٍّ سواء، أن لا يتناسوا أبداً حاجتهم الملحَّة لإعادة التوجه نحو داخل بلدانهم، بما يسمح لهم بإعادة النظر في أسس تنظيماتهم السياسية والمدنية التي أصابها العطب في الصميم، نتيجة لتاريخ طويل من تفشِّي الفساد والإفساد والقهر والتسلُّط والظلم في كل مواقعها وامتداداتها، فأصبحت تعاني من القصور والشلل وانعدام الفاعلية الحضارية.
إنّ ما جرت الإشارة إليه يشكل عيِّنات من الوضع العربي في واقعه الراهن، تبرز نتائجه كل يوم على أكثر من صعيد، إحباطاً ويأساً وهجرةً لقواه العاملة الكفؤة، وعجزاً عن توفير فرص العمل وزيادة في مستوى البؤس. وليس غريباً، في مثل هذه الأوضاع، أن تتحول المجتمعات العربية إلى تربة خصبة لإنتاج التطرف والإرهاب واكتساح الحركات الأصولية وأفكارها لجيل الشباب اليائس من تحسُّن أوضاعه.
كما لا يعود مستغرباً أن تسير المجتمعات العربية إلى مزيد من الانقسام في بناها، لصالح غلبة العصبيات العشائرية والطائفية والقبلية والعائلية على حساب الدولة القائمة، بما يفسح في المجال لانفجار الناقضات العصبية حروباً أهلية ساخنة تمعن تمزيقاً وتدميراً في البنى المجتمعية القائمة. وبذلك تتحول هذه المجتمعات وشعوبها إلى أطلال بكل معنى الكلمة.