مثالان اثنان، الأول من روسيا والثاني في سورية، يفرضان ربما، إعادة النظر في علم الاقتصاد، منذ وجوده وتعريفه، وصولاً لأركانه وغاياته.
فالاقتصاد، كما نراه اليوم، لم يعد منطلقه من المنزل وإدارة المصاريف أو حسن التصرّف بالمطبخ، ولا غايته المستمدة من فعل اقتصد، أي التوسط بين الإسراف والتقتير.
كما لم يعد الاقتصاد، بمفهومه الحديث، بعد تحويله لأداة توّظف لغايات غير اجتماعية، وليس لعلم اجتماعي يركز على دراسة السلوك الإنساني وتوزيع الدخل وفق الموارد، بما يتلاءم مع الإنفاق للوصول إلى الرفاهية.
بل ولم يعد الاقتصاد، وفق أبسط وأقدم مفاهيمه وتعريفاته، بأنه آلية البحث عن علاقة أو طرائق، بين رغبة الناس واحتياجاتهم، وفق الموارد المتاحة ومحاولة تطوير وحسن استثمار تلك الموارد.
بل تحوّل الاقتصاد، بعد الترويج على أنه الوجه الآخر للسياسة، بل ومحرضها، إلى أداة أو سلاح بيد الساسة، لتحقيق غايات، في الغالب ليست اقتصادية ولا تتعلق بمعيشة الناس ورفاهيتهم.
ولئلا نقع في فخ الفذلكة والدوران بدوائر المفاهيم وضرورة تبدلاتها على حسب التطورات والأحداث والمرحلة، إليكم هذيّن المثالين.
الأول والأكثر سخونة وحداثة من روسيا الاتحادية، ولا يتعلق المثال طبعاً بكيفية استغلال الموارد وتسخير الاقتصاد لما فيه مصلحة “القائد”، حتى غدا الرئيس فلاديمير بوتين صاحب ثروة شخصية تزيد عن مائتي مليار دولار، وفق تقارير غربية، بل ولا حتى بتوجيه الاقتصاد الروسي الهائل، بجناحيه الطاقة والزراعة، بما يتواءم مع مفهوم القائد بتكريس الاستبداد ودعم الديكتاتوريات حول العالم، أو لما فيه منفعة الأسرة أو العصابة المحيطة بالقائد.
بل المقصود شقان، الأول كيف استغل بوتين، اقتصاد روسيا المصنف الحادي عشر في قائمة أكبر اقتصادات العالم، بناتج محلي إجمالي يفوق 1.57 تريليون دولار، بل والمتحكم، عبر الغذاء والنفط والغاز، بملامح الاقتصاد العالمي برمته، وكيّف كل تلك الموارد والإمكانات “إنتاج نحو 11 مليون برميل نفط يومياً وصادرات سنوية من النفط فقط تزيد عن 110 مليارات دولار” لأوهام قيصرية، بعد أن حوّل أكثر من 13% من سكان روسيا الذين لا يزيدون عن 145 مليون نسمة، إلى تحت خط الفقر و80% من الشعب الروسي يجدون صعوبة في تغطية مصاريفهم الشهرية، 12 بالمائة من الروس يستخدمون مرحاضا مشتركا أو خارجيا.
وفي المقابل، ينظر المتابعون للأحداث كيف يرد العالم المتحضر، اليوم، سواء القارة الأوروبية أو الولايات المتحدة أو اليابان، على بوتين عبر الاقتصاد أيضا، باعتباره أداة لإضعاف قوة روسيا ولجم جموح القيصر المستهتر، ليعاد إحياء السؤال المتكرر، منذ متى وعبر أي التجارب، أسقط الاقتصاد والحصار المستبدين أو ردعهم عن خطاياهم؟!.
ومن جدلية هذا التساؤل، ننتقل إلى المثال الثاني، والذي ربما من خلاله بعض الإجابة. فسورية التي فرضت الدول العربية، منذ منتصف عام 2011، العزلة والعقوبات الاقتصادية على نظام الأسد، قبل أن تتبعها دول أوروبية، ومن ثم وزارة الخزانة الأميركية، قبل أن تتوّج تلك العقوبات بقانون “قيصر”، زاد فقراؤها عن 90% اليوم، بعد التجارب وتعميق وتنويع استخدام أداة الاقتصاد.
ولكن، ربما يقول سائل، ما هي الطريقة إذاً لثني هؤلاء الديكتاتوريين والحد من جموحهم المدمر إلى ما بعد حدود بلدانهم، أوليس بتجفيف منابع الاقتصاد الحل الأمثل، إن لم يكن الوحيد، لعودتهم إلى جادة صوابهم؟
ربما الإجابة عن هذا السؤال، المنطقي بشكله والمدمر بنتائجه، تأتي من واقع العراقيين والسودانيين والإيرانيين والسوريين، وبمستقبل تلك الدول وحصص “الكبار” من اقتصادها وجغرافيتها، بعد ذريعة ضرب الزعماء بعصا الاقتصاد.
بل، حتى وإن كان التذرع بأن الحصار والعقوبات و”سويفت” هو الحل الوحيد المتاح، للمواجهة والرد على شذاذ العالم، فلا بد من البحث عن حلول أخرى، لا تدفع أثمانها الشعوب وتزيد سراق السلطة والأحلام، قوة واستقواء وديمومة على الكراسي.
نهاية القول: ربما تتضح الغاية من هذا الطرح الجدلي الذي قد لا يتوافق مع آراء وقناعات الكثيرين، أيضاً من خلال مثالين.
الأول أن وزير خارجية روسيا وربما ثاني رؤوس شرها النووي، سيرغي لافروف، هو من يهندس ملامح الاقتصاد الروسي، طبعاً بأوامر القائد، وليس علماء الاقتصاد ومديري مراكز الأبحاث والآكاديميين أصحاب النظريات المخلّصة.
والثاني أن علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني وثاني رؤوس الشر السوري، هو من أمر من طهران، أمس، بتفعيل الاتفاقات الاقتصادية مع الحليف الإيراني.