كنت أخجل من الكتابة عن وضعنا المعاشي لسببين: أولاً خجلاً من المشردين، ممن فقدوا بيوتهم، أرزاقهم، تاريخهم، أبناءهم، آباءهم، أذرعهم، عيونهم، مدارسهم.. خجلاً من المعتقلين، من سهر ليل أمهاتهم، من طول سهدهم، من أحزانهم، من كآباتهم.. خجلاً ممن يزر على بطنه بمئزر يعمل ليل نهار ليطعم أبناءه دون شكوى، يربط حنفية عينيه، كبرياءً، من أن تفيض ألماً أمام حاجة ابنه فينفك لنفسه ويلعن ساعات عمره وحاله الذي بات عليه.
وثانياً حتى لا تكون الكتابة عنّا، عن أوضاعنا المعاشية، مصدر شماتة ممن ينظرون إلينا خارجين عن قوانين العبودية والطواعية المثلى في سوق قطعان الرعب السلطوي، أو أن تكون في الجانب الآخر مصدر عطف وشفقة على ما بات عليه حالنا! نحن من لم يتمكن بعد، أو لم يستطع لليوم، أو لم يقرر الخروج من هذه المحرقة.. وفي الحالتين شعور بالانكماش والصغر بعد كبرِ نتمسك به رغم كل ما حدث ويحدث.
وطن بات كل شيء فيه “حراً”! نعم حر أي متحرر، بلا قيود، مطلق الجنون، فهل هي حرية؟ وهل الحرية التي كنا نشتهيها؟
هي حرية، ولكن لا كما كنّا نشتهيها، أو تقنع أي درجة من درجات الإنسانية أنّها حرية! بل نموذج لانفلات عام في كل شؤون الحياة.. وإليك ما يحدث:
– أنت “حر” أن تأخذ حقك المستلب بقوة السلاح “الحر”، بالخطف، بالسلب، بالقتل.. و”حرّ” في أن تفكر بأخذ حقك عبر القانون، والقانون أيضاً بات “حراً” أن يتابع قضيتك أو ينهيها في الأدراج، وهذا حسب قوة صاحب الحق أو المحقوق والدافع صاحب الحرية الأعلى.
– أنت “حرّ” في أن توقف سيارتك إذا لم تجد البنزين، أو تشتري البنزين “الحر”، فبنزين سيارتك على بطاقة رقمية ذكية، وإن احتجت فوقه فحر أن تشتريه من السوق الحرة أو أن تتوقف عن قيادة سيارتك وتمارس هواية المشي، فالرياضة حرية.
– أنت “حر” في أن تتدفأ، ودفؤك يتطلب أن تشتري المازوت، كما البنزين، الحر بأضعاف مضاعفة عن سعره النظامي، وحرّ أيضاً أن تقطع أشجار بستان جارك، أو بستان أي غابة إن لم تستطع أن تشري مازوت التدفئة أيضاً.
– حر أنت في أن تتداوى، فتشتري الدواء المتضاعف سعره مرات ومرات، أو أن تتعالج بالأعشاب، او تنتهي كَمداً أيضاً! ولمهزلة وسخرية هنا، حين اشتريت علبة الدواء كمضاد التهاب في اليوم الأول وعدت لشرائها بعد يومين لتتمة العلاج، فأنا حر في متابعة العلاج من عدمه أيضاً، زاد سعرها ضعفاً، وحين استنكرت، يرد الصيدلاني “الدوا صار حر كمان”، فشتمته وشتمت هذا الوطن الحر! فأنا أيضاً حر فيما أقول أو أفعل!
– حر أن تدفن حياً أو تموت فقعاً، حر أن تسافر وتهاجر، وأن تدفع ثمن جواز سفرك ما يزيد عن المليون فتأخذه بعد أيام، أو تتركه لشهور في إدارة الهجرة والجوازات.
– حر أن تتاجر في الحشيش والمخدرات، وتصبح صاحب أموال ومن رجال الأعمال الكبار بعدما كنت من أرذال القوم! وحرّ أيضاً أن تعمل بسطة لبيع البطاطا، والبطاطا أيضاً باتت حرة وسعرها متحرّر من كل قيود، فكيلو البطاطا بثلاثة آلاف، وحر أنت أن تأكل البطاطا أو تأكل الحشيش.
حر أنت يا أخي فيما تفعل وتريد وتشتهي “مش ها الحرية اللي بدكن ياها”! هذه الجملة التي تكررت آلاف المرات في قمع المظاهرات السلمية، وهذه الجملة التي باتت اليوم وبالاً على كل ناسها، على من أراد الحرية وعلى من ساهم في القمع أيضاً.. فقد تحوّلت البلاد لقلة من أمراء المال، وسيل من المعوزين في كل شؤون الحياة، وطالت حتى من كانوا ضالعين في قمع أبناء جلدتهم المطالبين بالحرية والتغيير، وبات حالهم من فقر الى إفقار! ربما لدروشة، والدروشة هنا تعني قلة الحال والعقل والرؤية، وربما لانتفاعية ضحلة في منصب أمين فرقة أو حتى حارس على باب داخلي بدل باب خارجي تحت المطر، فهذا منصب أيضاً.. لقد باتت الغالبية اليوم دون خط الفقر وبات الجميع حرٌ.
اليوم، يحدّد مقدار خط الفقر العالمي بـ 1.9 دولار للفرد يومياً، أي 57 دولاراً شهرياً، أي 684 سنوياً، ودخل الأسرة السورية حسب تقارير عالمية، 305 دولارات سنوياً للأسرة، أي 25 شهرياً، أي أقل من 90 سنتاً يومياً، وهي أقل من نصف قيمة خط الفقر العالمي للفرد الواحد! كم أنت جبار أيها السوري، تعيش وأسرتك المكونة من أربعة لخمسة أفراد بأقل من مستوى الخط العام للفقر بالنصف وتقول لله للحمد! ويجيبك أصحاب الملايين والأرباح الفائضة، هذا وطن “حر”، “حر” أن تبقى مداساً مهاناً ذليلاً، أو تجد طريقتك لتصبح فاسداً أو حرامياً أو قاتلاً، أو وزيراً، أو تجتمع فيك كل صفات الهدم الحضاري جميعها، أو تجد لك بلداً آخر، إلا الحرية فهي ممنوعة عنك! ويضيف، أيضاً أنت حر أن تطلب الحرية تلك، لكن سيكون مصيرك كمن أشرنا إليهم بداية، مشرداً أو معتقلاً أو قتيلاً، أو تصمت وتعيش في وطن كله حر كما يريدون.
من إدهاشات هذا الزمن، التساوي المعيق والمعطل لكل شؤون الحياة، فبيع الوطن وتحويله لمتجر حر، بات يساوي ويعادل اكتساء الوطن بقيمة أبنائه وحريتهم في التعبير وإطلاق إمكانياتهم وتحرير حياتهم من رهانات أسواق النخاسة السياسية والاستعباد. ولعمري شتّان بين وطن كل شيء فيه حر وبلا قيمة سوى الإهانة والاستخفاف والمهزلة، ووطن حر بمكوناته وأفراده وحياة ناسه، فتلك موقعة ذات ندامة، والثانية موقعة كرامة ونفس أبية. ولم يخطئ من يقول حينها، حافظ على كرامتك حتى لو صادقت جدران غرفتك، فالاحتكاك بجموع الناس في هذا الوطن “الحر” بات عاراً ووبالاً
بوركت جهودك دكتور الافضل فوك تم نشرها على كل مواقعنا التابعة لمركز رصد للدراسات الإستراتيجية ونشرها على النشرة الإعلامية للمركز