تم دفع قضية الحرب الأهلية السورية إلى هامش الاهتمام الدولي. فقد أفسحت الهجمات العسكرية واسعة النطاق في السنوات الماضية الطريق أمام ركود الجبهات والانهيار البطيء الذي نادرًا ما يتصدر عناوين الأخبار العالمية. ولكن بالنسبة إلى الشعب السوري فمعاناته لم تنته بعد. فالذين بقوا في المناطق الخاضعة لسيطرة بشار الأسد يعانون الأمرين، وحلفاء سوريا، روسيا على وجه الخصوص، ليس لديهم أي اهتمام بتحسين حالة الشعب السوري.
وكشف تقرير حديث للباحثة إليزابيث تسوركوف عن مدى قسوة الواقع الجديد. فالعملة السورية المتصدعة تساوي الآن أقل من 2 في المئة من قيمتها قبل الحرب، وتسعون في المئة من السوريين يقعون تحت خط الفقر. كما يبلغ متوسط راتب موظف القطاع العام الآن حوالي 15 دولارًا، أي ما يكفي لإطعامه لمدة ثلاثة أيام فقط حسب الأسعار الرسمية. ويعاني أكثر من 60 في المئة من السوريين من انعدام الأمن الغذائي ولا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية. ولا تلوح في الأفق نهاية للأزمة الاقتصادية، حيث إنها تتعمق كل شهر تقريبًا.
وتتعارض حالة الشعب السوري بشكل صارخ مع الوضع العسكري في سوريا. حيث حافظ نظام بشار الأسد منذ فترة طويلة على استقرار الخطوط الأمامية واستعاد السيطرة على معظم المناطق الرئيسية في البلاد. والفضل يعود إلى روسيا، صديقة الأسد وحليفته منذ زمن طويل. وبعد تدخل روسيا العسكري في سبتمبر 2015، ومن خلال الحملات الجوية المنسقة لموسكو، وبدعم من القوات الخاصة ونخبة المرتزقة على الأرض، تمت استعادة السيطرة على معظم البلاد خلال عامين. وسيطرت القوات الموالية للأسد بشكل حاسم على النصف الذي يسيطر عليه المتمردون من مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في البلاد في أواخر عام 2016، وفي عام 2017 تم تطهير الأراضي من تنظيم الدولة الإسلامية في وسط وشرق سوريا. وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات، سيطر النظام السوري – أو ما تبقى منه – على غالبية أراضي البلاد.
وقد يشكل عجز المواطن السوري عن إطعام نفسه وأسرته إحراجا كبيراً لروسيا التي تلعب دور حليف سوريا الرئيسي. ولطالما سعى المسؤولون الأميركيون لتصوير الوضع من ذلك المنظور، ففي البداية تم تصوير روسيا وكأنها غارقة في “مستنقع” سوري، ولكن عندما أصبح من الواضح أن تكاليف البقاء في سوريا لم تكن باهظة الثمن بالنسبة إلى الروس، تحول الخطاب على أمل إجبار موسكو على تحمل المزيد من مسؤولية إعادة إعمار سوريا التي مزقتها الحرب.
ولكن موسكو وواشنطن تعملان وفق أجندة أعمال مختلفة. فعلى عكس الجهود الأميركية في أفغانستان والعراق الرامية إلى بناء الدولة، فإن روسيا غير مهتمة بتلك الأهداف الأميركية. وكان الدافع المهيمن للتدخل العسكري في سوريا في المقام الأول هو إنقاذ نظام حليف وإجبار القوى الغربية على التفكير في روسيا كلاعب جاد في الشؤون العالمية. وتؤكد ست سنوات من العمليات السياسية الفاشلة والمحادثات بين الحكومة والمعارضة، منذ دخول روسيا إلى سوريا في عام 2015 – في أماكن من جنيف إلى أستانة – عدم اهتمام الكرملين بفرض أي تنازلات حقيقية من طرف الأسد، حتى لو كان قادرًا على تقديم تلك التنازلات.
أما المساعدات الإنسانية فهي مشروع تهكمي بالنسبة إلى روسيا. فهناك الكثير من مقاطع الفيديو للجنود الروس وهم يقدمون الحبوب والطعام للسكان المحليين المحاصرين في جميع أنحاء سوريا بينما تعلو وجوههم الابتسامة، وذلك جزء من الحملة الدعائية الروسية التي تصور الجنود الروس وهم يوفرون الدعم للعائلات في كل من المناطق الحضرية والريفية. ومع ذلك، نادرًا ما يتم توفير المساعدات الروسية من دون حملات إعلامية مصاحبة لها. كما أظهر تحليل آخر أجراه جوناثان روبنسون لمجلس أتلانتيك في يونيو الماضي أن 98 في المئة من القرى السورية التي حصلت على مساعدات روسية على مدى السنوات الخمس الماضية تمت زيارتها مرة واحدة فقط، وهو عمل رمزي ليس له تأثير طويل المدى. وتواصل روسيا أيضًا التلاعب بشحنات الحبوب بالغة الأهمية للشعب السوري، حيث امتنعت عن تسليمها كما هو متفق عليه بسبب عجز ميزانية الحكومة السورية، وقد صادف آخر منع لتسليم الشحنات منتصف العام الماضي.
في نهاية المطاف، لا تهتم روسيا بتلك القضايا. فالسوريون الذين بقوا في المناطق الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد في أشد حالات الخوف ومحبطون للغاية ولا تراودهم فكرة الانتفاض ضد الحكومة، وفق الكثير من الشهادات. وقد ظل جهاز الأسد الأمني قويًا بما يكفي لقمع أي إشارة للمعارضة، ويفكر معظم السوريين في الهروب من البلد أكثر من تفكيرهم في حمل السلاح ضد الحكومة مرة أخرى (أو لأول مرة). وفي الوقت نفسه، تلعب التطبيقات المحسوبة للقوى العاملة الروسية في أشكال كتائب الشرطة العسكرية المنتشرة في مناطق رئيسية أو مفارز أمنية شخصية لقادة النظام المهمين مثل اللواء سهيل حسن، دورًا كافيًا في ضمان أمن المناطق والشخصيات التي تعتبرها موسكو مهمة وحيوية. والبنية التحتية العسكرية الروسية في البلاد، ولاسيما قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية (التي تخضع حاليًا لعملية تجديد وتوسيع كبيرة)، لا تتعرض للكثير من التهديدات وعليه يمكن مشاهدة الشعب السوري يحترق أو يتضور جوعًا من مسافة آمنة.
وما يحصل في سوريا هو كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى بالنسبة إلى الشعب السوري. ولكن من منظور الأسد ما يحصل هو عبارة عن مخاطرة، ولكن ليس بالقدر الذي قد يعتقده المرء. أما بالنسبة إلى روسيا حليفة الأسد، فإن الأمر برمته لا يعدو أن يكون مصدرا من مصادر الإزعاج.
الكاتب:نيل هاور
المقال السابق