دروس السياسة الخارجية الروسية. طالبان مثال حي!

[بقلم الدكتور محمود الحمزة]

لا تغادر الذاكرة تلك العشر سنوات من التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان، التي انتهت بهزيمة نكراء عام 1989 وتبعها بعد سنتين انهيار دولة عظمى اسمها الاتحاد السوفيتي. وبالطبع كانت هناك أسباب داخلية وخارجية أخرى أدت إلى تلك النتيجة المذهلة والتي لم يتخيلها أحد. وإذا عدنا إلى الوراء لعدة عقود نجد ان الأمريكان هم من ورط بالدرجة الأولى القيادة السوفيتية لارسال قوات إلى أفغانستان. وكانت منظمة القاعدة التي أسستها المخابرات الأمريكية بهدف محاربة السوفييت هي من ساهمت بإلحاق الهزيمة بالسوفييت بدعم أمريكي ودولي وخاصة بصواريخ ستينغر الأمريكية.

تدخل الأمريكان في أفغانستان عام 2001 بعد حادثة تفجير مبنى التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وبعدها احتلت أمريكا العراق عام 2003. فما الذي حصل؟

انسحبت أمريكا من العراق وسلمته لنظام الملالي على طبق من ذهب. ولا يتوهم أحد ويعتقد أن الامريكان انسحبوا من العراق نتيجة خسائرهم او لموقف سياسي حريص على أرواح الجنود الامريكان، بل هي خطوة جيوسياسية استراتيجية مضمونها تسليم العراق لإيران، مثلما غضت النظر عن تسليم سوريا لإيران وروسيا ولبنان لحزب الله واليمن للحوثيين. كل ذلك ليس صدفة بل هو استراتيجية غربية ممنهجة تريد خلق الفوضى في المنطقة العربية الإسلامية باستخدام الأنظمة المستبدة الفاسدة لتقوم بإشعال الحروب بين أبناء المنطقة وقتل الناس الأبرياء. والا كيف نفهم ما يجري في لبنان البلد الجميل- سويسرا الشرق، أو ما جرى في سوريا قلب العالم العربي أو ما جرى في العراق البلد الغني والعريق الذي حولوه الى دولة فقيرة لا يشبع الناس فيها الماء وليس عندهم كهرباء بينما العراق من اغنى دول العالم بالنفط. ويعرف الخبراء أن نفط العراق يتم نهبه من قبل الأمريكان وإيران وجزء منه يذهب لدعم المجرم بشار الأسد.

دمروا المنطقة والآن أفغانستان تركوها لقمة سائغة لطالبان التي يعتبرونها إرهابية.

روسيا تخشى حركة طالبان ولكنها تعمل على مبدأ عدو عدوك صديقك. ولذل حاولت التنسيق الحثيث مع ممثلي حركة طالبان ودعتهم عدة مرات الى مؤتمرات حوارية بين الأفغان بحضور ممثلين دوليين واقليميين واستقبلهم وزير الخارجية الروسي لافروف مرارا وكال لهم المديح.

والغريب في الموقف السياسي الروسي هو أنهم من المفترض أن يدعموا الحكومة الشرعية للرئيس غني وبالفعل كانوا يتواصلون معه ولكن علاقاتهم كانت اقوى بالرئيس السابق حامد كرزاي وبشخصيات سياسية أخرى، وكانوا يعرفون ان طالبان تنتظر فرصتها لكي تسيطر على كل أفغانستان ولم يتوقع الروس انسحابا سريعا من أمريكا. كما أن الروس اعلنوا ان حركة طالبان لن تتمكن من الاستيلاء على العاصمة كابل قبل 3 اشهر . وهذا يذكرنا بالتصريحات الروسية بأن التدخل الروسي في سوريا لن يستغرق إلا  3 اشهر، ولكنه استمر لستة سنوات.

السياسة الخارجية الروسية متناقضة لدرجة لافتة!

فعندما كان مجلس الأمن يناقش قرار بخصوص التدخل في ليبيا في فبراير عام 2011 كان السفير الروسي في ليبيا تشاموف يجلس مع العقيد القذافي ويطمئنه بأن موسكو لن تتخلى عنه. والذي حصل ان روسيا امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن وتم تمرير قرار دولي ل “حماية المدنيين” والذي ترجم عمليا بأنه يسمح للناتو بالتدخل ضد ميليشيات القذافي، والذي كانت نتيجته اسقاط نظام القذافي وقتله بطريقة وحشية لتصفية حسابات معه من قبل الفرنسيين وغيرهم. ولكن الفوضى هناك ما زالت مستمرة.

ونتذكر كذلك الرئيس حسني مبارك الذي كان يجلس معه قبل أيام معدودة ألكسندر سلطانوف نائب وزير الخارجية الروسي ويطمئنه بأن موسكو معه ولكن مبارك استقال من الرئاسة.

واليوم في أفغانستان يصرح المسؤولون الروس في الخارجية وفي السفارة في كابل بأنهم على تواصل وتنسيق جيد مع طالبان وأن سفارتهم في أمان وأن طالبان لديها قابلية أكثر للتفاوض والحوار بخلاف حكومة الرئيس أشرف  غني التي وصفها الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان كابولوف بأنها سيئة وخائنة ويجب تقديم الرئيس غني للمحاكمة وصرح السفير الروسي في كابل بأن الرئيس الهارب أخذ معه أموالا كثيرة.

مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زيغموند بريجينسكي صاحب نظرية تحطيم الاتحاد السوفيتي عمل لنصف قرن حتى توصل الى عام 1991 وانتهى الاتحاد السوفيتي ومعه منظومة المعسكر الاشتراكي بكاملها. وهو الذي قال بأن روسيا بدون أوكرانيا ليست دولة عظمى، وفقدت روسيا أوكرانيا في غفلة من الزمن في 2014 ، وكادت ان تفرط ببيلاروسيا ومازال الخطر قائما نتيجة تذبذب الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو لأنه لا يعتبر ان روسيا صديقة له، ولا  يثق به الغرب وهو يبتز الطرفين ليستمر بالحكم الذي يقارب الثلاثين عاما.

صحيح ان موسكو نجحت في تدخلها العسكري في سوريا وحافظت على نظام الأسد. لكنها اليوم تعاني من سلوك الأسد الذي يريد ان يبتز روسيا ويناور من وراء ظهرها مع الامريكان، وهو يحاول افشال المساعي الروسية لتحقيق هدوء واستقرار وان كان بطريقتها الخاصة، بهدف الإيحاء للعالم بأن سوريا مستقرة ويجب تمويل إعادة الاعمار، وهي تأمل ان تكون الشركات الروسية هي المستثمر الرئيسي بأموال تقدم من الخليج والدول الغربية.

ولكن هيهات ان يقدم العالم مليارات الدولارات لنظام فاسد له تاريخ اسود في ارتكاب جرائم حرب ضد شعبه. ويقف الروس اليوم أمام جدار اصم فلا النصر العسكري يفيدهم إلا إذا اقترن بنصر سياسي واقتصادي، ولا محاولات تجميل نظام الأسد لان المجرم يبقى مجرما ويتحمل الروس مسؤولية تاريخية أمام العالم في دعمهم لديكتاتور مارس تدمير البلاد والقتل والتهجير القسري لثلثي سكان سوريا.

لن تتعلم موسكو من تجارب الماضي فهي تنتقل من هزيمة الى أخرى فالصراعات الدولية ليست فقط عسكرية بالسلاح والجيوش، بل هي صراعات سياسية واقتصادية وكما قال خبير روسي: روسيا تنتصر في الحروب ولكنها تخسر في السلم.

هناك أخبار وتحليل يفيد بأن القيادة الروسية مقتنعة اليوم ضمنيا بأن الأسد غير صالح للمرحلة القادمة ولكنهم يخشون من البديل.

ويبدو ان الامريكان ورطوا الروس في سوريا كما ورطوا السوفييت في أفغانستان. واليوم انسحبت أمريكا من أفغانستان وتركت جارا جهاديا لجمهوريات اسيا الوسطى المليئة بالتيارات والحركات الإسلامية التي تنتظر الدعم الخارجي ضد أنظمة آسيا الوسطى الشمولية المدعومة من موسكو! وقد تنسحب أمريكا من سوريا وتترك قسد لتصارع الروس وتركيا، في وقت تعاني منه البلاد من حالة اقتصادية واجتماعية كارثية سمتها الجوع والمرض وفقدان الثقة بيوم الغد في ظل حكم الطاغية بشار الأسد.

رهانات موسكو ليست صائبة بل هي هشة وصديق الأمس ينقلب في لحظة الى عدو والعكس صحيح.

فهل سيتخلى الروس عن الأسد ويسجلون بذلك موقفا تاريخيا في سياستهم الخارجية، أم يستمرون بمواقفهم الآنية التي تأتي كردة فعل على ما يحدث. بينما الامريكان ومن وراءهم إسرائيل هم من يخطط ويحقق النتائج في المنطقة. فقد تسببوا بتحطيم دولة كبرى هي الاتحاد السوفيتي ولديهم مهمات استراتيجية وهي تقزيم روسيا والصين! ومن يدري ماذا تخبئ السنوات القادمة للشعوب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.