أصبحتْ السّياساتُ المتعلّقة بالانفلاتِ والتّفاهةِ والعبث والعدميّةِ والضّحالةِ والتّمّلك والاستقواءِ على الضعيف وسلبِ الحقوق في واقع سياسيّ منهار هي مدارُ الحربِ والحربُ ثقافيّة ..كأنّ البلادَ لم يعدْ فيها مايقال..لا فقرٌ وجوعٌ وتشّرّد. لا ظلمٌ واستبدادٌ سياسيٌّ وقهرٌ وتخلّف. لا سجونٌ ملأى بالمعذبين، لا شهداء بمئاتِ الآلاف لا مدنٌ مدمرّةٌ وأحياء مكدّسةٌ في ركام. ولا انهياراتٌ ثقافيّة وانعدامٌ للشّأنِ والقيمة ولا تراجعٌ في لغة الخطاب…فقد أصبحتْ الحربُ حرباً على كلِّ شيء…حربَ وجودٍ وإنسانيّة، حربَ أخلاقٍ وقيمٍ وتعايش، حرباً ضدّ أيّ تعاطفٍ ومحبةٍ واحترام. حرباً على العقل والفطرةِ السّليمة. فالهزّاتُ الكبيرة التي أحدثتْها الثورةُ وأشعلتْها الحربُ، والدّمارُ الذي أصاب البلادَ والنّاسَ أحدثَ تغييرات اجتماعيةً كبيرةً جدا، استغلّتْها وسائلُ إعلامٍ وأموالٍ وقوى سياسيةٍ ذات نفوذ، لشنّ حربٍ ثقافيّةٍ تفتيتيّةٍ تفكيكيّة. لم تظهرْ قضايا الحقوقِ الثّقافيّةِ وإشكالاتِها على طاولة الخطابِ السّوري الشّعبي عندما اندلعت الثورة؛ فالتّركيز انصبّ آنذاك على بطشِ النّظام السّياسيّ الفاسد المستبد، علماً أنّ المجتمع السّوري كان تحت استبدادٍ واستلاب ثقافيّين ومسحوبة منه عزّة الامتيازات الثّقافيّة. سرعان ما انكشفتْ المشاكل الثّقافيّة باحتدام الصّراعات الدّاخليّة وبرزتْ التّحيّزات الفئويّة المتطرّفة والعنصريّة والفوقيّة على أساسٍ قوميّ أو عرقيّ او دينيّ. وانتشرت تأويلاتٌ سلبيّة لحالة التّنوّع الثّقافي السّوريّ؛ دافعة لإعادةِ تحديد الهويّات وتفسيرها ودعم انفصالِها او استقلالِها. وبدل أنْ تفتحَ مجالاً واسعاً لتعايشٍ ثقافيٍّ غنيّ، تحوّلت إلى اختلافاتٍ وخلافاتٍ ونزاعاتٍ وبيئات متصارعة، كأنّما لا تصلحُ للبقاء في دولةٍ واحدة. إهمال الثّورة للعملِ على الجانب الثّقافيّ التّعايشيّ وفهم جوهر مشاكلهِ وتركِه للمنّظمات الدّوليّة، من الأمورِ التي عقّدت الأزمات الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة؛ فقد أصبحتْ الثّقافة مجالاً لإنكارِ الصّيغة الوطنيّة والصّبغة المصيريّة الموحّدة. أيّ معركة تحرريّة تحتاج صحوة ثقافيّة ناضجة بين بعدي الذّاتيّ والموضوعيّ، الفرديّ والجماعيّ وقدرة معرفيّة ولغويّة على التّواصلِ ومختلفَ المكوّناتِ للشّخصيّةِ السّوريّةِ بمستوياتها الاجتماعيّة والثّقافيّة بروحٍ تكامليّةٍ متفهّمة للاختلاف.فالجهلُ والقمعُ دعامتا التّبعيّة والضّعف. اللغة العربيّة كتعبيرٍ وتفكير مسألة من المسائلِ المهمّةِ والخطيرة التي زادتها الحربُ الثقافيّةُ إشكالاً، سواء في موضوع الهويّة القوميّة والسياسيّة أو في موضوع الهويّة الثّقافيّة ورقيّ الخطاب. تعريف اللغة على أنّها وعاء للأفكار والمعاني يقللُّ من شان اللغة؛ فهي ليست مجرد ناقل أو حافظ؛ ففيها وبها تتشكّلُ القيمُ والأفكارُ، وبالمقابل هي تنشطُ وتتطوّرُ بالأفكارِ والتّجاربِ والخيال. فالعلاقةُ متبادلة. وعندما يعاني الانسان تعاني اللغة. فاللغةُ والثّقافةُ يتغيّران وفقَ التّجاربِ والأزمنة والظّروفِ المكانيّة والأحوالِ الحضاريّة، وكل منهما يؤثّر في الأخر. في مقالته السّياسة واللغة الانجليزية بيّن الكاتب الانجليزي جورج أورويل أنّ الصّراع السياسي يؤدي الى تدهور اللغة، وتحريفها لتناسبَ الأغراض السياسيّة. فكلما ساءت البيئة السياسية، كانت الأمور أسوأ بالنسبة للغة، وهناك علاقة بين رتابةِ اللغةِ وحمقِ الافكار . وضعٌ متأزّمٌ تعايشه اللغةُ العربيّةُ وثقافتُها؛ كأنّ تعثّراً أصابَ أداءَها في حقولِ المعرفةِ والفكرِ والعلمِ والتّعبيرِ، ولا علاقةَ له بقوّتها كلغةٍ عربيّة في الأصل؛ فقد كانت لزمنٍ طويلٍ لغة الحضارة والعلم والفكر، فهو ناجمٌ عن مشاكل في متكلميها المسلوبةُ حرياتُهم وإراداتُهم، والمُرهقةُ عقولُهم بعقودِ التخلّف، والمتعبةُ قلوبُهم بالحروب والهزائم. والمشغولةُ خيالاتُهم بأوهامِ الإعلام الهابط وتفاهة الخطاب السائد. فاللغةُ تقوى إشاراتُها ورموزُها، وقيمُها النفسيّةُ والمعنويّةُ المعبّرةُ عن الإنسانِ وفهمِه لوجودِه وتاريخِه وفكرِه، بقوّةِ متكلّميها ورقيِّ أفكارهِم وعقولِهم. اللغةُ كما رآها عالمُ اللغويّات تشومسكي تعبّرُ عن مفاهيم تفكيريّةٍ معيّنةٍ وترتبطُ بشكلٍ وثيقٍ بالتّاريخ والثّقافةِ والعقل. هي مرآةٌ تعكسُ آليّاتِ التّفكير في عقل الإنسان. التّخلّفُ الحضاريّ الذي أصابَ المجتمعاتِ العربيّةَ أثّرَ في اللغةِ وأساليبِ تعليمِها، فتراجعتْ من لغةٍ حضاريّة للإنتاج العقليّ والمعرفيّ إلى لغةٍ ضعيفةٍ لا تبتكر، وأفشلَ عملَ المؤسّساتِ التّعليميّةِ والثّقافيّة، وأخرجها عن السّياقِ الحضاريّ ومن المسارِ التّاريخيّ. فالانهيارُ الحضاريّ يجدُ طريقَه سهلاً في المجتمع المفتّت بالضّعفِ السّياسيّ والانقسام المجتمعيّ، والمضغوط بالاستبداد؛ فسرعان ما تتلاشى القِيَم الوطنيّة وتنعدمُ المعايير العقليّة ويفشلُ الإنسانُ، ككائنٍ مفكّر، ويتعّثر لسانه العاقل في اغترابٍ عن هويته وذاتِه…فيستسهلُ استعارةَ لغاتٍ وثقافاتٍ أخرى أقوى، مسيطرة سياسيّاً وعلميّاً. لذلك الاعتقادُ بفشلِ اللغةِ العربيّةِ وضعفِها، قلّل الاهتمامَ بها وأحطَّ من منزلتِها الثقافيّةِ وشأنِها الحضاريّ. فالتّبعيّةُ السّياسيّةُ هي تبعيّةٌ ثقافيّةٌ ولغويّةٌ وقيميّة ولذلك أصبح الترّكيزُ الحاليّ العلميّ والشعبيّ على الألسنِ الأجنبيّة، خصوصاً، الإنجليزية، لغة المالِ والسّياسةِ والتّكنولوجيا والتّسلية، مطلوبا ومنشودا؛ فهو من لذةِ الانقيادِ للقويّ وتقليدِه… صحيحٌ أنّ الإنسانَ يكتسبُ من وفي التّجاربِ المؤلمةِ للحروبِ خبراتٍ جديدةً؛ فتتغيّر الأفكار وتتأثّر بذلك تعابيرُ اللغةِ وأساليبُها ونبرتُها ومصطلحاتُها، لكنّ بشاعةَ الحربٍ تنتقلُ للغةِ ؛ فيسوء الكلام كأداءٍ لغويّ جمعيّ عامٍ، وكنظامٍ معرفيّ، في المجتمعاتِ الخائضةِ في الحرب أو المقهورة بالتسلّطِ السياسيّ والقمعِ والتّفكيك والتّهجير. وفي سوريا ارتبطتْ الحربُ بالنّزاعات الدّاخليّة، فاضطربتْ اللغةُ المتداولةُ رسميّاً وشعبيّاً، وسادَ في مساحةٍ واسعةٍ من الخطاب السّوري لغةٌ انفعاليةٌ شّعبويّة من جهةٍ، ولغةٌ تنظيريّةٌ نخبويّة من جهةٍ أخرى وأعلى. وفي الحالتين لم تسلمْ اللغةُ من التّحيّز والتّعصّبِ والغضبِ ولم يسلمْ التّأويلُ من الشّخصنةِ والنّزاعِ والتّلاعبِ بالحقائقٍ لتغيير الحقيقة، فالشّخصُ يبني مفاهيمَه ومصطلحاتِه على الهوى الشّخصيّ والولاء، لا على موضوعيّة وعقلانيّة وعلمٍ وفهمٍ لمعاني القضيّة والمسألة. وعلى الرّغم من وجود نخبةٍ رائعة من المفكرين واللغويين والأدباء والنّقاد، وعلى الرّغم من أنّ التّاريخَ الحضاريّ للأمة ككلّ، غنيّ بعلماء ومفكرين وعلماء لغة مبدعين كالجرجاني وابن جني وغيرهم، أسهموا في الفكر والحضارة، وفي تأسيس نظرياتٍ كبرى في علمِ الكلامِ والتّأويلِ والنّظمِ والمعنى والسّياق؛ إلّا أنّ الواقعَ الحالي للغةِ العربيّةِ متخلّفٌ، فنقدُهُ عشوائيٌّ غيرُ موضوعيٍّ، غيرُ عادلٍ، ولا ابتكارَ في أيّ إنجازٍ معرفيّ. عدم حدوثِ تطوّرٍ معنويّ واضحٍ وواسعٍ وعميقٍ في السّياقات غير اللغويّة من ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وقيميّةٍ وعلميّة، انعكسَ في تأخّر اللغة وتخلّفها العلميّ والفكريّ. وليست حالة التّمكّن اللفظيّ والنّحويّ والشّكلي في الخطاب وفي بعض الأداءاتِ الأكاديميّةِ والثّقافيّةِ الرّسميّةِ والإعلاميّةِ، أكثر من بريق سطحيّ، في أغلبه، ولا يعكس بالضّرورة رقيّاً عاماً في الإنتاج اللغويّ الأصيل والبحثِ الفكريّ المبتكر، ولا حريّةً في اكتشاف الحقيقة، ولا ازدهاراً عقليّاً في منهجيّة التّأويل. فمؤسّساتُ السّلطةِ الثّقافيّةِ والاجتماعيّةِ والسّياسيّة تقمعُ وتراقبُ وتكبتُ نموَّ عقليّةٍ نقديّةٍ وذهنيّةٍ حرّةٍ طليقة؛ لأنّها قد تشكّلُ خطراً يهدّدُ وجودَها أو استمرارَها. وقد صار لها شركاء من ميليشياتٍ عسكريّة جديدةٍ تدّعي شرعيةً وطنيّةً أو دينيّة، لكي تسيطرَ على الواقع، وهي هدامة فاسدة مُفسِدة، تعمل على تعميقِ التخلّفِ والقهرِ بكبت الفكرِ الحرِّ والتّعبير الحرِّ، وباستخدامِ تأويلات لغويّة دينيةٍ أو قوميّةٍ لتسويغِ سياساتِها القمعيّة وإحكام سيطرتِها. التّأويلُ مهمٌّ وضروريّ، كنهجٍ لغويّ، لكنْ، عندما يفقدُ التأويلُ موضوعيّته، يفسد التّفكير ويخلو الفكر من العمق والتّبصّر والرويّة، ويتحيّز للدّوافع الأيديولوجيّة والشّخصيّة. الخطاب السّوري تأزّم، عموماً، بعد الثّورة بما استجدّ من حروبٍ وصراعات سياسيّة واجتماعيّة وعقائديّة؛ فزادتْ حدةُ الاحتقان والتّوتّر وحكمت لغةَ الكراهيّة والتخوين، وارتبطتْ بهما سرديّات من تّأويلاتٍ عشوائيّةٍ ومضّطربة في البيئات السّياسيةِ والثّقافيّةِ والاجتماعيّة. وغذّت القنوات الإعلاميّة تأزيم التّواصل بين المختلفين بالمهاترات التي كانت ترعاها حيث كان ينتقصُ كلُّ فريقٍ شأنَ الآخر ويسيء له ويتطاولُ على افكاره ومواقفه. الثّورة والحربُ فرصةٌ للتّغيير، ويمكن للأمةِ التي أبدعت الحضارة والأبجديّة والكتابة والتّوحيد، أن تتغلّب على ذلِها وضعفِها وتخلفِها وانصياعِها للمستعمر نتيجةَ هزائمِها السّياسيّةِ في الحروبِ الطويلةِ والمشاريعِ الاستعماريّةِ المستمرّة، باقتناصٍ فرصةِ التّغيير وإعادةِ تكوين الثّقافة الوطنيّة والإنسانيّة اللائقة بها، وتشكيل التّصورات والمفاهيم واللغة بما يعيدُ لها الاستقلالَ والنّظرَ النّقديّ في تأويلاتِ الثّقافة التّاريخيّة والقيم الأخلاقيّة والدينيّة وصقلها بتقدير التعدّدية الثّقافية وتنوّع وجهات النّظر الفكريّة لبناء كيانها الوطنيّ المستقل.