العملية الهجومية الاستراتيجية الروسية في الميزان العسكري  

ليس من باب التنجيم وإنما من باب الغـوص في أعماق العملية الهجومية الروسية على أوكرانيا ،أو بالأحرى الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية ، والتي اقتربت من اليوم الخمسين ولم تتحقق أهداف الهجوم المنشود، سوى تدمير المدن ،و لم يتم التوصل إليها حتى هذا اليوم وعلى ما يبدو أن الهدف النهائي للهجوم باء بالفشل وخارت قوى ووسائط القوات المهاجمة الروسية، وعجزت عن تحقيق ماكانت تسعى اليه من سحق وتدمير البنية العسكرية للقوات الأوكرانية المدافعة عن أرضها ، كما وفشلت في تحقيق خرق الدفاع الأوكراني  في عمق دفاعاته والوصول الى المهمة النهائية للعملية الإستراتيجية الهجومية للقوات الروسية المحتلة .وآلت الأمور إلى تغيير الخطة الهجومية لأكثر من مرة وكان أخر تنفيذ عملية الإنسحاب وإعادة التجميع في الجبهة الشرقية والجنوبية الشرقية في دونيتسك وهالونيتسك  من أجل إعادة الوضع إلى ما كان عليه في ماريوبيل وحق وتدمير القوات الأوكرانية في الجبهة الشرقية والجنوبية والسيطرة على لساحل الهام في بحر أزوف والبحر الأسود الأمر الذي يعطيها بعدا جيوبولتيكياً هاماً على صعيد المكاسب البحرية الساحلية الهامة في جميع المجالات .إستناداً إلى ما سلف  فإن منطق التكتيك وفن العمليات الإستراتيجية  الكبرى و تقدير الموقف العسكري  وحساب نسبة القوى والوسائط  في ميزان تفوق العسكري بالقوى والعدة والعتاد ، يقودنا النقد والتحليل  لهذه العملية العسكري الهجومية  حتى الأن بالتالي :-لقد كان الهدف السياسي المتزامن مع الهدف العسكري للغزو هو السيطرة العاجلة على كل المدن الأوكرانية كاملة والسيطرة الجغرافية على جهات حدود أوكرانيا  الأربعة من الجنوب والشمال إلى الشرق والغرب وجهاتها الثانوية، من القرم إلى الى كييف  ومن دونيتسك ولوهانتسيك الى ماريو بول وخيرسون  ومن ثم من خيرسون إلى مايكولايف ومنها لمحاصرة أوديسا من البر والبحر وبالإنزالات الجوية التي باءت جميعها بالفشل بسبب تشتت  الجبهات وتوزّع العتاد القدرة النارية الضاربة الروسية التي لم تستطيع تركّيز الجهد الرئيسي للهجوم على جبهةٍ واحدةٍ بل توزعت بقواتها على عدّة جبهات، مما نتج عن فقدان القوة النارية الضاربة للقوة العسكرية بشكل غير متكافئ، حيث أن المجموعات الأولى التي دخلت أوكرانيا واجهت مقاومةٍ عنيفة، ما أسفر عن تعطيل باقي المجموعات على باقي الجبهاتأما على الصعيد السياسي فإن عملية الإعداد السياسي للعناصر من أجل التحضير للهجوم لم تكن على المستوى المطلوب أو ما تسمى بالعمل السياسي أثناء التحضير للعملية الهجومية ، فلقد تكشفت سلبيات جمة منها :

  1. عدم الإستعداد الكافِ للجنود الروس من الناحية المعنوية حيث تلاشت الجاهزية النفسية لخوض المعركة ،وقد أشات  تقارير الأعمال القتالية الحربية عن ضباط العمليات والإستطلاع الأوكرانيين والذين حققوا مع الأسرى من الجنود الروس الذين تم أسرهم، فقد أفادوا بأنهم  لم يكونوا على معرفة بأنه هناك هجوم ، بل هي عبارة  مناورةٍ عسكرية.
  2. لاشك بأنّ إفادات الأسرى من الجنود والضباط وصف الضباط الروس مؤشر كبير  على إنهيار الجاهزية النفسية وتدني الروح المعنوية  للجيش الروسي وزاد في الطنبور نغماً من إنهزام الروح المعنوية وضعف الناحية النفسية لغزو أوكرانيا هو عدد القتلى في صفوفهم وعدم وجود عناصر إخلاء طبي لإخلائهم من أرض المعركة  وخاصة في الأيام الأولى من بدء الحـرب، إضافة إلى إنعدام طرق الإخلاء الفني لسحب وإخلاء العتاد المعطل والمدمر من ميدان المعركة.والسبب في ذلك هو هدف القيادة الروسية في السرعة لتحقيق نصر سريع في عمق الدولة الأوكرانية للوصول الى العاصمة الأوكرانية كييف.
  3. إعتقاد ورسيا بأن الإلتفاف من الحدود البيلاروسية الى غوستوميل وبوتشا وإربين وتشكيل نصف قوس يتم إتصاله مع  الجهة الشمالية المحاذية للحدود البيلاروسية وصولاً إلى الجهة الشمالية الشرقية في خاركيف قد يحقق لها نصر سريع . وهذه العملية أيضاً  قد فشلت ولم تحقق ما طمحت اليه فبعد مرور ما يقارب الخمسين يوماً على الحـرب الروسية على أوكرانيا، لم  تتمكن القوات العسكرية الروسية من تحقيق أي هدفٍ لها خلال الحملة، بل وتكبّدت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وألحقت الكثير من الدمارٍ الهائل والكبيرٍ الذي طال أكبر المدن الأوكرانيّة.
  4. لم تستطيع القوات المهاجمة الروسية من  خرق في عمق الدفاعات الأوكرانية  من أجل  الوصول  باتجاه كييف ، بسبب الدفاع الصامد  والفعال  لنقاط الإستناد الأوكرانية التي كانت على قدر كبير من التحصين ومستوى العالي من المسؤولية التي يتحلى بها القادة العسكريين الأوكران  ، حيث استطاعت القوات المدافعة أن تحدّ من تقدم الروس باتجاه عدة مدن بسبب إتباع المدنيين أسلوب المقاومة الشعبية .
  5. إن تركيز الهجوم الرئيسي على كييف  ضمن  قطاع  خرق رئيسي مغطى بنيران حوامات الــــ  م/ د   والـــ م/ط  وضربات الطيران القاذف المقاتل الهجومي من أجل  تدمير الأسلحة الإستراتيجية و قواعد الصواريخ وبطاريات الدفاع الجوي والمطارات الحربية والصواريخ البالستية والمنشآت الحيوية لم يتحقق بشكل كلي، رافقه عجز روسي بإنعدام الإمدادات بالوقود والذخير والتأمين الإداري (فالجيش الروسي لم يكن مستعداً بشكلٍ كافٍ للقتال بجنود وطنيين فهم إعتادوا على القتال بجنود مرتزقة من فاغنر والفيلق الخامس والفرقة 25 مهام خاصة ومليشيات ايرانية ،غير مكلفين بتامين إمدادهم إداريا ً ، لذا ظهر العجز بالإمدادات التي لديه والتي لا تكفي لإسبوع ، وإن ضراوة المقاومة الأوكرانية جعلت الإمدادات تنفذ بشكل أسرع مما كانوا يتوقعون.)
  6. إن فعالية التمهيد المدفعي الناري كتغطية نارية كثيفة إبتداءاً من بداية العملية الهجومية والذي يبدأ من لحظة تحرك الدبابات (T72-T82-(T90وعربات الـــ BMB والنسق الإداري المرافق  النسق القتالي الأول ، وصولا الى خط الهجوم لتأمين  تحرك القوات من مناطق الإنطلاق وانتظامها ومسيرها على محاور التحرك حتى الفتح بترتيب القتال لم يكن بمقدوره الإنتظام كما هو مخطط له . بسب ربات صواريخ الـــ م/د ورمايات المدفعية والصواريخ ، ونقص الإمداد اللوجستيّ حيث أصبح  أكبر عائق لمتابعة  تقدم القوات الروسية.
  7. إن هدف الإستفادة من القدرة النارية الصاروخية والمدفعية والطيران والإسناد الجوي مع تقدم القوات المتقدمة من الجنوب والجنوب الغربي التي تتقدم من جهة غوستاميل وبوتشا وإربين لإكمال الإطباق على المدينة كييف لم تتحقق بسبب بقاء منظومات الدفاع الجوي تعمل مما أدى لتحييد الطيران بعض الشيء خارجا ووقوع طيارين بالأسر وإسقاط طائراتهم . 
  8. إن المرافقة النارية للقوات المهاجمة التي تخوض قتالاً عنيفاً في خضم المعركة القتالية الهجومية على أطراف العاصمة الأوكرانية كييف وكسر الخطوط الدفاعية الأولى والفتح والإنتشار على جبهات القتال لمحاصرة كييف لم يؤتي أكلها بسبب فقدان القيادة عسكرية الموحدة وتعطيل سيطرة غرف العمليات على التشكيلات والقطعات المقاتلة على الجبهات .مع العلم أن العقيدة السوفياتية تقاتل  بمركزية مطلقة ولا تسمح بالتصرف الفردي ولا تسمح بهامش كبير للقادة  لإتخاذ القرارات في أرض المعركة الأمر الذي أفقد الكثير من  المجموعات على الجبهات  أثناء المعركة غير قادرة على  إتخاذ القرار المناسب للموقف الطارئ  ، مما شكل  عقبة بالغة في التأقلم  مع الظروف القتالية  .
  9. ان التخطيط الروسي الفوري للبدء بقتال الشوارع بعد محاصرة المدن الكبرى خيب أمال الروس ولم يستفيدوا من المرافقة النارية طيلة فترة القتال في المدينة ولم يتحقق أي تقدم في الإنتهاء من جيوب المقاومة النارية في الأبنية والأقبية والشوارع، ولكون أن اسلوب القتال الروسي مستند الى المركزية في القيادة أدى الى عدم تنفيذ خطط  بديلة في حال تعثر  في أحد الجبهات  لكن الغرور الذي يلف الجيش الروسي ، أوهمته  بأن الحـرب ستنتهي خلال عدّة أيام وستتحقق هزيمة أوكرانيا بسرعة وليس بمقدروها أن تصمد امام الدب الروسي  المصنف كأقوى في العالم، لكن كما يقال : (الماء تكذب الغطاس ) وما حدث منذ الأيام الأولى، أسقط إسطورة الجيش الروسي الوهمية و خططهم الفاشلة المعتمدة على الإستقواء على الشعوب الفقيرة. 
  10. الطامة الكبرى ظهرت في عدم قدرة الجهاز الفني الروسي من الصيانة والإصلاح في إصلاح الأعطال التي أصابت الآليات العسكرية، إضافة لقلة خبرة  الضباط الروس في التعامل مع المواقف الطارئة في ارض المعركة وتأمين بدائل سريعة .واستطاعت القوات الإلكترونية الأوكرانية تنفيذ الحرب الإلكترونية وخلق تشويش إلكتروني ضد الإتصالات الروسية وخرقها والتشويش عليها .
  11. كل النطاقات الدفاعية والإتجاهات الثانوية للهجوم التي كانت تهدف  للمشاغلة والتثبيت للمدن الأخرى متل خاركيف ومار يوبل والبلدات المحيطة بها وخيرسون  المتواجدة على الإتجاهات الأربعة لم تساعد على إسكات بؤر المقاومة في المدن ولم تساعدها على المتابعة باتجاه كييف على الرغم أن المحتلين الروس كانوا  يتوقعون أن تسقط أوكرانيا خلال  أيام بيد الروس، لكنهم تفاجئوا من القدرات القتالية الدفاعية لدى الأوكرانيين. والضربات المركزة الت استهدفت طرق إمدادات الوقود والذخيرة والطعام ، مما جعل الروس يقعون في عجز كبير لإطعام عساكرهم وقطعاتهم على الجبهات ، فطلبوا مساعدة من الصين .
  12. لم تستطيع القوات الروسية المحافظة على التشكيلات والقطعات المرؤوسة في حالة جاهزية قتالية دائمة. لأنها أخفقت في الحصول على معطيات الموقف وجمعها وتحليلها بشكل مستمر ونظرا لان الاستطلاع غير حقيقي فالقيادة العملياتية الروسية لم تستطيع تشكيل تجميعات القوات والبنية العملياتية بما يتناسب مع القرار المتخذ ولقد وصل الأمر الى فقدان السيطرة على القوات بسبب الأوكرانيين، استطاعوا الدخول على ترددات  أجهزة الاتصال الروسية،اللاسلكية  حيث أن الروس بدأوا حربهم باستخدام أجهزة محمولة وأدوات قديمة ، وهذا ما ساعد الجيش  الأوكراني  في التنصت على المحادثات وتعطيل الخطط الروسية، مما أوقع  الكثير من القطعات الروسية في كمائن  كثيرة وأسر قادتها من الضباط وتدمير مقرات القيادة للفرق والألوية ومقتل اكثر من عشرة جنرالات .

إن تقدير الموقف القتالي من خلال الإستطلاع الشخصي الروسي بمختلف أنواعه كان قائماً على التكهنات حيث أن الروس ظنوا أن الدفاع الأوكراني هش و أنهم قادرين على إحتلال الأراضي  الأوكرانية بسهولة من خلال الخطأ في حساب نسب التكافؤ بين القوتين، القوة الروسية ، وقوة أوكرانيا من ناحية الترسانة العسكرية، وبعد  بدء القتال تفاجئ بالدفاع الصلب والصامد والفعال  والمقاومة الشرسة من قبل الجيش الأوكراني الذي تعبأمن خلال حشد القوى المدنية و انضمام فئة كبيرة من المدنيين إلى صفوفه.
 أخيراً لاشك بأن أي نهاية الحرب ستكون نقطة حاسمة ومكلفة  جداً على جميع الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الروسية ، وما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا لم ولن يكون كما هو قبله فالمنتصر في هذه الحرب إن لم تتطور لحرب عالمية ثالثة سيرسم خارطة العالم عامة وأوربا خاصة.وسيغير النظام الأمني العالمي والتحالفات .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.