[بقلم الدكتور محمود الحمزة]
العلاقات الروسية السورية
نتحدث أحياناً عن الصداقة بين الدول والشعوب ولا ندقق في عمق هذه الصداقة وأبعادها التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وفي واقع الحال هناك مستويات للعلاقات بين الدول، حيث أن الدولة تتضمن النظام والشعب والأرض.
واذا راجعنا العلاقات الروسية السورية، التي نشأت تاريخياً منذ أكثر من ألف سنة، عندما انتقلت المسيحية إلى روسيا الكييفية (نسبة لمدينة كييف) وأعلن الأمير فلاديمير اعتناق الديانة المسيحية. عندها لعب السوريون في ظل بيزنطة دورا أساسيا في نشر المسيحية في العالم بما فيها روسيا. وأصبحت العلاقات الروحية قوية جداً بين روسيا وبلاد الشام. وحتى أن بعض المستشرقين الروس يرون بأن اللغة الكيريلية (الروسية) وضع ابجديتها قديسان من أصول سورية بيزنطية وهما كيريليوس (بالروسي كيريل) وميفوديوس (بالروسي ميفوديا).
وتطورت العلاقات وتعمقت حتى أصبحت الكنيسة الروسية تابعة لبطريركية دمشق وسائر المشرق وتم اصلاحها أكثر من مرة على يد البطاركة السوريين، إلى أن تم تحويل المطرانية الروسية إلى بطريركية منذ عدة قرون. ومعروفة رحلة البطريرك مكاريوس بطريرك انطاكية وسائر المشرق إلى روسيا منذ ثلاثة قرون تقريباً واشرافه على حل مشاكل الكنيسة الروسية وترقيتها لتصبح بطريركية مستقلة بعد أن كانت مطرانية.
ثم أن اهتمام الروس، وخاصة منذ القرن التاسع عشر، ببلاد الشام كان متميزاً من خلال زيارات الحجاج الروس للاماكن المقدسة في فلسطين وشراء الأراضي والعقارات وإنشاء المدارس الروسية لتعليم الأطفال في فلسطين ولبنان وسورية، والتي تخرّج منها الكاتب اللبناني المعروف ميخائيل نعيمة، وتبع ذلك إنشاء الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الارثوذكسية التي تعمل حتى اليوم وتحظى باهتمام السلطات الروسية وشخصيات اجتماعية كبيرة.
وعندما حصلت سورية على استقلالها عام 1946، والذي دعمه حينها الاتحاد السوفيتي في عصبة الأمم المتحدة، بدأت العلاقات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية بين البلدين. ومعروفة صفقة الأسلحة الروسية التي اشترتها سورية عن طريق تشيكوسلوفاكيا في 1957.
في أواسط القرن الماضي بدأت صداقة واسعة بين الدولتين السوفيتية والسورية. فالتواصل كان على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية. وتبلورت لدى السوريين مشاعر حقيقية حول أهمية الصداقة مع الاتحاد السوفيتي ليس فقط على المستوى الحكومي وإنما على المستوى المجتمعي.
وفي مرحلة الستينيات تمسكت موسكو بقوة بالدفاع عن النظام البعثي في دمشق بحجة أنه يتبع نهجاً اشتراكيا ولكن هذا جزء من الحقيقة. وللتاريخ فليست الأيديولوجيا هي فقط من حدد تلك الصداقة والدعم السوفيتي لنظام البعث بل المصالح الجيوسياسية لموسكو فسرت ذلك التمسك السوفيتي بالنظام في دمشق.
وفي فترة حكم البعث بدأت ملامح تعاون وصداقة جديدة تتبلور بين سورية والاتحاد السوفيتي، بالرغم من وجود علاقات وزيارات وتعاون بين الأحزاب والنقابات والمنظمات الاجتماعية. إلا أن التعاون الأبرز كان بين الأجهزة العسكرية والأمنية بحكم طبيعة النظام في البلدين. فالنظام السوفيتي كان شمولياً بامتياز حيث كانت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي ومكتبه السياسي هي الحاكم المطلق للبلاد وكل ما عدا ذلك هو تكملة صورة.
ونظام البعث كان أيضا شموليا وبالرغم من إنه أبرز إعلاميا دور الحزب والنقابات في الحكم والمجتمع إلا أن الحقيقة كانت بأن السلطة والقرار كله كان بيد أجهزة الأمن والجيش وكان نظاما كرس الطائفية كما كتب عن ذلك بشكل مفصل الراحل ميشيل كيلو في كتابه “الانتقال من الإمة إلى الطائفة…” ونشره عام 2020.
وأسوأ مرحلة مرت في سورية كانت في ظل الأسد، الذي ألغى عمليا دور المنظمات والأحزاب والمجتمع وحول الحكم إلى نظام أمني قمعي فاسد.
وتأثرت العلاقة مع روسيا لتتناغم مع هذه الحالة، سيما وأن النظام في موسكو كان أيضاً أمنياً عسكرياً مع رتوش مقتبسة من الحياة المدنية والاجتماعية لتزيين النظام إعلامياً وتقديمه على أنه شعبي بامتياز.
والغريب أن طبيعة العلاقات لم تتغير بين روسيا وسورية بل تعمقت بين الأجهزة الأمنية والعسكرية دون أي اعتبار للعلاقات الاجتماعية والثقافية والنقابية. فروسيا أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي دولة شبه رأسمالية هدفها الأعلى هو مصلحتها الاقتصادية والجيوسياسية وتراجعت المبادئ والقيم إلى الوراء وهذا ينسجم إلى حد بعيد مع طبيعة الدولة البوليسية التي بناها حافظ الأسد.
أسباب الدعم الروسي لنظام الأسد
كانت الثورة السورية، التي انطلقت في آذار/مارس 2011، ثورة سياسية اجتماعية شعبية شارك فيها الشباب والطبقات المتوسطة وكل المهمشين في المجتمع بحثا عن الحرية والحياة الكريمة. وفي 2012 أصبح نظام الأسد القمعي الفاسد في مرمى الثوار والمقاتلين وكاد أن يسقط لولا تدخل إيران وميليشياتها الطائفية وخاصة حزب الله اللبناني.
ولكن روسيا اتخذت قرارا استراتيجيا بعدم السماح بسقوط نظام الأسد لكيلا تتكرر تجربة العراق وليبيا، والتي قد تصبح أمرا عاديا في العلاقات الدولية وتصل الى دول أخرى. واعتقد أن هذا القرار اتخذ في الدوائر العالمية. والتنفيذ وقع على روسيا والنظام وايران وقوى اخرى اقليمية، لأن لها مصالح جيوسياسية مشتركة. والدليل أن الاوروبيين والامريكان منذ انطلاقة الثورة السورية كانوا يقولون لنا اذهبوا الى روسيا وبيدها الحل. ولكن ما نشهده اليوم، بالرغم من أن روسيا بالواجهة، إلا أن الحل ليس بيدها بل بيد أمريكا واسرائيل، أما روسيا فتعمل من خلال التنسيق معهم (نذكر القمة الأمنية الثلاثية الامريكية الاسرائيلية الروسية في القدس في صيف 2019).
قبل الثورة كان حجم التبادل التجاري بين موسكو ودمشق لا يزيد عن مليار دولار، وعندما تورّث بشار الأسد الحكم عن ابيه عام 2000 لم يزور موسكو إلا بعد 5 سنوات بينما زار معظم الدول الأوروبية، ما يدل على أن توجهاته كانت غربية بامتياز وهو الذي درس لفترة في بريطانيا وتزوج من أسماء الأخرس، التي ولدت وتربيت في بريطانيا وكانت تعمل في بنك أمريكي معروف في لندن. وقد صرح مسؤولون روس من أعلى المستويات أن الأسد ليس صديقنا ولا حليفنا بل هو أقرب للغرب.
إذا ما السر في السياسة الروسية بالدفاع الشامل عن نظام الأسد بكل المجالات: العسكرية والاقتصادية والأمنية والإعلامية والسياسية؟
السبب بلا شك يكمن في أن روسيا، التي ورثت الاتحاد السوفيتي حافظت على توجهاته الخارجية السياسية والجيوسياسية (والدليل أنها وطدت صداقتها مع الأنظمة الشمولية التي كانت تسمي نفسها “وطنية تقدمية” وكانت صديقة للاتحاد السوفيتي ونموذجا مصغرا عنه)، ولكنها اختلفت عنه في ان سياستها ومواقفها اتسمت بالبراغماتية وهي تنطلق من المصلحة الخاصة أولاً، ولم تعد أيديولوجية (شيوعية). فروسيا المعاصرة دولة تطبق النظام الرأسمالي، وإن كان بشكل مشوه، وليس لها علاقة بالشيوعية.
لم نفهم كسوريين تماماً، ولم نتوقع ان تلتزم موسكو إلى هذه الدرجة المطلقة بالدفاع عن نظام ارتكب جرائم حرب ضد الإنسانية في سورية. ويقول المطلعون إن النظام السوري يشبه الصندوق الأسود، الذي لو فُتِحَ للعالم لكشف الستار عن أسرار وحقائق خطيرة تفضح الدول والحكومات وأجهزتها الأمنية والعسكرية المختلفة، وتكشف تورطها في ملفات كبيرة تصل الى حد الجريمة بحق شعوب المنطقة..
ويرى بعض الخبراء الروس أن نظام الأسد هو “الأكثر وحشية” في الشرق الأوسط، وأنه لا يقبل الحلول السياسية. ويرى آخرون أن النظام غير قادر على إدارة البلاد نتيجة ضعف القيادة وتفشي الفساد، بالإضافة الى الصراعات داخل النخبة الاسدية الحاكمة وتذمر السوريين معارضة وموالاة وشرائح رمادية من تدهور الحياة الاقتصادية والمعيشية.
إقرأ أيضاً: السياسة الروسية في سورية، حيثياتها، نتائجها وآفاقها-الجزء الأول
المصدر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر