الأسد والسيناريوهات المحتملة

[ بقلم د. محمد حاج بكري ]

تعيش سورية اليوم حالة من الضبابية الفكرية مبنية على استحقاقات قادمة خلال فترة قريبة تحدد مصير الصراع وطول أمده ومعاناة الشعب السوري على كامل الجغرافيا السورية وتتباين التحليلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية لكنها بشكل عام لم تعطي تصور حاسم وذلك يعود لكثرة اللاعبين وتباين مواقفهم وتخاذل المجتمع الدولي
على إيقاع التحولات في المنطقة ومجيء إدارة أميركية جديدة والمترافق مع انتخابات رئاسية يعد لها في سورية بسبب نهاية ولاية بشار الأسد اللاشرعية ، بدأ الحراك السياسي في البلد يسير ببطء وبحذر، طابعه الكلي هو: الارتباك وغموض الصورة.. الكل متخوف من نتائج وإفرازات المرحلة ، المتسمة بالتعقيد الشديد وتقاسم المصالح
هل بشار الأسد سيرشح نفسه؟ وإذا كان العكس، من هو البديل وما هي المنزلقات التي ستتدحرج البلاد نحوها؟ هل ستكون محطة للإجهاز على ما تبقى من بنية الدولة، واستكمال لرحلة التحلل البطيء لبلد يعرف هذه الأيام تضادا طائفيا، رعاه النظام الأسدي وخطط له، أو على الأقل لم تشهده البلاد بهذه الصورة
إلا في عهده؟ وبالتالي فنحن مقبلون على مرحلة عنوانها: التغيير أو التغيير المضاد؟
أم أننا مقبلون على تطورات غير مسبوقة، قد تكون مقدمة للعصف النهائي بالتوليفة المتنفذة والمتحكمة اليوم بالبلد؟
كلها احتمالات أضحت مطروحة بقوة، يغذيها وينميها الغموض المستهدف الذي يفرضه النظام بصيغ مختلفة حول بقاء الأسد أو رحيله؟ هل سيخلف نفسه؟ أم أنه سيختار شخصا يريده مجرد ظل له، وصورة يكرر من خلالها نموذجه؟ وهل هذا خيار قابل للنجاح، في ظل رئيس منتهية ولايته وشرعيته وموالاة ليست على قلب رجل واحد، أنهكها استئثار رأس النظام بالتخوين والأمن ودسائسه وإضاعة الوقت بصيغ مختلفة تفاوض ودستور ، وجعل منها مجرد كومبارس يتقن فن الفولكلور السياسي
كلها تساؤلات تزيد من قلق النخبة والمواطنين على حد سواء، بفعل ركاكة وهشاشة الوضع الداخلي وتساقط جدران الصد والممانعة بالبلد.. فلا المعارضة بقادرة على فرض رؤيتها ، بفعل التفكك الداخلي وغياب خطاب فعال ومؤثر، وانعدام إرادة المواجهة لدى قادتها.. ولا النظام لديه جاذبية تمنحه الديمومة والاستمرار، فضلا عن كون رصيده الاجتماعي والمعيشي وأسلوب إدارته للمشهد السياسي، لا يقدمان نموذجا قابلا للاستمرار.. فالكل إذن في الهم سواء

السيناريوهات القادمة المحتملة؟

السيناريو الأول والمتداول شعبيا في مناطق سيطرة النظام هو: بقاء الأسد في السلطة من خلال عملية انتخابية صورية .. خيار يعززه بدء الأسد بخطوات، توحي بأنه باق إلى ما شاء الله، متربعا على كرسي السلطة وليست لديه أجندة للتناوب السلمي عليها، بدأها بتعيين رجالاته في مجلس الشعب ويعمل اليوم من أجل لملمة موالاته، المهزوزة داخليا والمنخورة سياسيا، والمتناحرة عمليا، والمدمرة اقتصاديا ولا ندري إلى أين ستنتهي خطواته القادمة
البعض يرى أن هذه الخطوات، ما هي إلا نزع لعنصر المبادرة من أي قوة وتضييع للوقت على الطيف المضاد وإرباكا له، وملهاة يحتاجها شعب تابع و متخلف لا ينصاع إلا لرئيس يؤمل فيه مزايا ذاتية خارقة ، وباق معه في ميدان القتل والإجرام والنهب والفساد .. وبالتالي فالعملية برمتها ما هي إلا تسيير للفراغ وإشغال للشعب عن جوعه وفقره ، حتى يرتب الأسد أوراق خروجه بأمان، دون حصول هزات قد تخرجه من اللعبة وهو لا زال على كرسي الرئاسة
والبعض الآخر يرى فيها خيارا عمليا للبقاء في السلطة، وما على الجميع سوى التعامل مع الرجل على أنه غير مكتف بما حصل.. وإنما هو راغب في البقاء في السلطة، معتقدا أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.. فهو يؤكد أنه الرئيس الوحيد الذي أتى بما لم يستطعه الأوائل، وبالتالي فإن بقاءه في السلطة، هو ضمانة لنجاح “النهج” الحالي واستمرار للإنجازات، وتكريس لصيانة الثروة الوطنية، ووضع حد لجيوش الفاسدين والمفسدين.. ترسيخا لواقع سياسي مضمونه: ” أنا موجود معتقدا أن انخراطه وتماهيه مع الثورة المضادة في المنطقة العربية، ثمنا لكسب رضي الغرب، الذي خبره لحظة استلامه الحكم بطريقة غير شرعية لكنه غير مدرك ومتفهم أن الغرب إنما يريد مستبدا لديه نظام مستقر، قادر على لعب دوره بذكاء، لا يضطره لأن يتحول إلى جهة لإطفاء الحرائق.. لذا فإن الرهان عليه ببضاعة النظام الحالية، هو رهان خاسر، خاصة وأن العلاقة بين قطبيه (أمريكا وأوروبا) ليست في أفضل مراحلها، وبالتالي فقد تكون هناك أولويات أخرى لدى هذا الغرب غير إطفاء الحرائق في هذا البلد المنكوب
ولعل أخطر مشكلة يواجهها النظام الأسدي هي: أنه يعتقد أن لديه مكانة لدى الشعب السوري ، يعول عليها لكنها صورة قد لا تكون بالضرورة معبرة عن الواقع، بل هي نقيض له: فهو يرى أنه قد حقق لسورية وللموالين تحديدا ما لم يحلموا به وله فضل كبير عليهم ، وبالتالي فإن الموالين سيصبحون أكبر “حارس” لهذه الإنجازات مهما قتل منهم .. في مقابل صورة أخرى رائجة عنه لدى الغالبية العظمى من الشعب السوري ، ترى أنه النظام الذي عانى الجميع دون استثناء في ظله صنوفا من الذل والإرهاب على يد المخابرات والفقر والحرمان والبطالة وتداعيات كثيرة لامجال لذكرها الان ، نظام استأثر رأسه بكل شيء، فمنحهم الشعارات وأخذ هو الثروة و”الغنائم
معادلة يبدو أنها يحكمها منطق متناقض، يغني فيه كل طرف على ليلاه
فالطرف المعارض يعول على قانون التغيير وما وصل إليه حال النظام، فالثمرة بالنسبة له شبه يانعة وبالتالي فإن الانتظار كفيل بقطفها وجني محصولها
أما الأسد ، فيرى أنه ما دامت قافلته حتى الآن تسير دون عائق وبدعم روسي وإيراني ، وما دام غيره لم ينجز سوى الصراخ، فإن الأمور تعتبر بألف خير، فليحيى هو وليمت غيره- إن لم يكن كمدا، فعلى الأقل جوعا وعطشا
لكن المعضلة تكمن في أن سوريا في هذه المعادلة لا بواكي لها عمليا، فإذا كانت المعارضة مستكينة ومستسلمة للواقع وتتنازع على مناصب هامشية ، مكتفية بتنظيم مؤتمرات واجتماعات موسمية وإصدار بيانات غاضبة وظهورات إعلامية باتت مستهجنة لسذاجتها وتكرارها ، فإن النظام كثيرا ما نعتها بالخيانة، غير مكترث، أو لربما غير واع بخطورة تماهيه مع الوطن، بحيث حول- في خطابه ونهجه العملي- معارضته إلى معارضة للوطن، معتقدا أن من حقه أن يتملك كل شيء في هذا البلد- بما فيها قناعات الشعب وخياراته الانتخابية من خلال تجفيف جميع المصادر الممكنة وتلك المحتملة، وتفقير الأغنياء محليا ومحاربتهم في استثماراتهم ، حتى لا تقوم لهم قائمة ولا يشكلون قوة وازنة قادرة على التغيير

السيناريو الثاني: أن يختار الأسد مرشحا لخلافته، ويسعى إلى فرضه بالإكراه أو ب”الحسنى”، معتمدا على موالاة، جاهزة للتصفيق والتسابق نحو كل ذي مكانة – ولا سيما إذا كان مشروع رئيس جديد للبلاد، الذي يعول عليه عادة في توزيع المناصب والامتيازات والفرص، وبالتالي فالتقرب منه مصلحة لا تعوض، وضمانة لنيل المآرب الشخصية
لكن كثرة الطامحين من داخل الموالاة لخلافة الأسد ، ستربك مشهد “جوقة التزلف” التي قد تعميها الطموحات الشخصية، وتعصف بها الخلافات، فيأخذ كل طرف منها وجهته الخاصة ويبني تحالفاته المصلحية.. خيار قد يذكيه ترشيح الأسد لشخص يشبهه ، ماضيه غير ناصع، لا يستجيب للتوازنات وليست له كاريزما شخصية! غير مطمئن للنافذين بالبلد وليس مقبولا محليا، ولا هو قابل للتسويق في الخارج .. كما أنه قد يصبح مقدمة لتشتيت الولاءات وتبعثر في الموالاة.. وهو خيار لا يساهم في التغيير المنشود، وقد يبقى الأمور على ما كانت عليه، أو لربما سيدفع بها نحو الأسوأ، الشيء الذي قد يؤدي إلى موجة من التململ الداخلي، قد تفضي إلى تغييرات تتسم بالجذرية والإلغاء، إذا هي تزامنت مع موجة جديدة من التحركات الشعبية تلوح في الأفق في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور ، كرد فعل على الثورة المضادة ، التي تفاعل معها النظام الأسدي وكرسها في نهجه المحلي وتحالفاته الخارجية، بشكل جعل منه شريكا عضويا فيها وجزءا أصيلا من المنظومة العسكرية الساعية إلى القضاء على حلم السوريين في الحرية والحياة الكريمة
لذا فإن خطوة كهذه لن تكون سوى مسكن وأداة لاستمرار الجوقة المتنفذة للبقاء في السلطة، والتي نمت كالطفيليات في ظل أنظمة عسكرية أمنية مستبدة، كرست الإلغاء وعمقت الشرخ بين فئات الشعب ودمرت المعايير الصحيحة لتسيير أجهزة الدولة، تكريسا لواقع خدمهم في الماضي، وسيجعلهم فرسان مرحلة هي على الأبواب واعدة يسيل لها لعابهم.. مرحلة ستصبح فيها البلاد مصدرا هاما للغاز ولربما النفط، أيضا، وفضاء لتصدير مختلف الثروات المعدنية الإستراتيجية والمهمة بالنسبة للدول الصناعية بسبب الموقع الجغرافي المميز

السيناريو الثالث: في حال عدم ترشح الأسد أن تتوحد قوى المعارضة مع تلك الراغبة في التغيير والمتكدسة اليوم في الموالاة، والتي سئمت من الفساد والزبونية وصارت مقتنعة بخطورة النظام الأسدي على حاضر ومستقبل البلاد
نجاح سيناريو كهذا، سيعتمد حتما على توحد تيار التغيير حول مرشح واحد ذي جاذبية شعبية ومطمئن إلى حد ما للقوى المتنفذة، مشهود له بمستوى من الاستقامة الشخصية، وقابل لأن يقود السفينة لهدف واحد يضع خلالها قاطرة البلاد على الطريق السليم، ويرسخ آليات فعالة للتناوب السلمي على السلطة
لكن الشكوك تحوم حول نجاح سيناريو كهذا، لصعوبة اتحاد المعارضة حول مرشح واحد- رغم عدم استحالة التوحد والاتفاق- ولكون القوى المتنفذة لن تترك خيارا كهذا يقف على رجليه، فستواصل ليلها بنهارها من أجل أن لا يرى النور.. لكن انتهاء مدة ولاية الأسد ، سيخفف من قبضة المتنفذين والهيئات الأمنية والعسكرية على الخيارات الشعبية وقد تربكها، ويمكن أن تخلق حالة من “الفوضى في الولاءات”، ستسمح بانقسام الناس إلى قسمين : داعم للتغيير وآخر مناوئ له

ثم ما ذا بعد؟

ستعتمد جوقة الأسد على شعارات، مثل: “سوريا أولا”، وستلوح بالتهديدات المحتملة وستخوف من التغيير ومن القوى الداعمة له، بمقدمة حتمية تنتظر البلاد إن نجحت المعارضة في انتزاع السلطة واستلام مقاليد الأمور. وستماهي هذه الجوقة نفسها مع الوطن، لتصبح هي الوطن وغيرها مجرد أعداء ألداء له، لا هم لهم سوى تخريب البلاد، وأنهم سيفعلون بكم الأفاعيل.. مبشرة بأنها هي بلسم التنمية وأداة للاستقرار والتعايش وخلق الأمن والأمان ، وستخلق ضجيجا لتغطي على ماضيها في الجرائم وتصفية الحسابات الشخصية واحتضانها للقبيلة والفئة والعائلة على حساب الوطن والصالح العام
أما الطرف المعارض، فسيركز قطعا على الماضي “غير المشرف” للأسد وداعميه ونظامه ، و بأنه مجرد دمية ةفاقد للشرعية وصورة طبق الأصل لنظام التجويع والفاسد وووووو…إلخ.. وقد ينجح النظام في جرهم إلى مربعات جانبية ومهاترات كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.. وستأخذ الأبعاد الشخصية حيزا من الخطاب المتداول
لكن النقطة الجوهرية الغائبة عن الخطاب السياسي بالبلد والحاضرة في أحاديث بعض النخب، ليست غياب الشفافية والعدالة والمساواة ومرجعية أسبقية الولاء، على حساب الكفاءة وعدم احترام المال العام، وضرورة التخلص من النظام وآثاره المدمرة على جميع الأصعدة فحسب.. وإنما الجزم بأن كل ما يجري في البلد إنما هو نتاج لهدر جميع الفرص التي كانت ستؤدي إلى الديمقراطية وتغييب الوطنية في الخطاب السياسي وفي وعي النخبة، وبالتالي فلا مستقبل للبلد، ما لم تصبح الوطنية عقيدة واحترام القانون نهجا، والكفاءة وسيلة للصعود، وعندها فقط، ستتوارى المحسوبية والرشوة والو لاءات الضيقة، المبنية على علاقات ما قبل الدولة، التي شكلت معول هدم لها وكابحا للتنمية والتطوير .. وبالتالي لا يمكن للبلد أن ينطلق ما لم يعش التناوب السلمي على السلطة نهجا وتصبح المعرفة معيارا وخيارا متفردا، ويصبح الانتماء للوطن مقدما على الاعتبارات الإثنية والفئوية والجهوية والعائلية فالوطنية السورية أفضل دليل على كون الوطنية تشكل أنجع دواء

إنه واقع مقلق، تبدو خلاله السيناريوهات المحتملة حتى الآن على خط متواز، بفعل الضبابية التي فرضها النظام على المشهد السياسي بالبلد- لحاجة في نفسه، جعلت الوقت يسير ببطء- رغم محدودية الفاصل الزمني.. فلا أحد بقادر على تكوين صورة مكتملة عن سيناريوهات المرحلة المقبلة، كما أن أغلب القراءات ليست بقابلة للتصديق.. ذلك أن آليات النظام قد صدئت، وتهاوت شعاراته الراديكالية أمام الحصيلة الثقيلة لإرثه في أغلب المجالات وخاصة على المستويين السياسي والاجتماعي ، حيث كرس الفقر والعوز والقتل والإجرام وغابت في ظله الفرص.. لذا فإنه ليس له إنجاز مقبول لا في النهج و لا في المسار
كما أن ارتباك المشهد المعارض وغياب إرادة جامعة جادة وصعوبة التوحد كلها أمور تخدم أجندة النظام الأسدي ، وقد رسمت صورة سلبية للمعارضة، تجعل منها أضحوكة ومجال تندر واستهزاء
إن تماهي النظام بالوطن واختزال كل شيء فيه بشخص الحاكم- أيا كان-، وتهميش الكفاءات الوطنية المخلصة، وتشديد القبضة الحديدية على بطون وأفواه وفرص الشعب في التعبير وتغيير واقعه، لهو أكبر عدو للنظام وللبلد معا، فهو واقع قد يدفع بكثير من المواطنين اليائسين من الحصول على عدالة ومساواة، إلى تمني زوال وطنهم الذي لم يتجرعوا فيه غير الظلم والتهميش، فيصبحوا معول هدم لا أداة بناء.. وعندها يصبح النظام غير المتمتع بالشرعية ولا المشروعية ، لقمة سائغة لابتزاز الخارج أكثر مما هو عليه
ثنائية ضحيتها الأولى- للأسف- هو: الوطن، الذي يعتبر خاسرا في جميع الأحوال وعلى كافة الصعد.. فلا بديل إذن في الخطاب والممارسة عن تبني الوطنية والولاء للوطن ، لخلق وعي مغاير، يكشف الوجه الحقيقي لنظام الفساد لعل الصورة تتضح لشعب أنهكه الفقر و العوز، وأعمته حجب الإعلام الرسمي، المرتكز على آليتي الترغيب والترهيب.. وعلها تكون كلمة سواء بين كافة نخب البلد، بغية انتشال وطننا الذي خبر طويلا صنوف البطش بماضيه و حاضره ومستقبله.. فشعبنا اليوم متعطش إلى نموذج مغاير، يرفع الظلم عن المظلوم، ويحول الوطن إلى حاضن أمين، لا فضل فيه لمواطن على آخر، إلا بالكفاءة والوطنية .

إقرأ المزيد : الأغلبية السياسية الوطنية

ملاحظة : يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر

تعليق 1
  1. […] “محمد حاج بكري” في مقال مطول نشره على موقع “سوريا الأمل“، عن السيناريوهات القادمة المحتملة بشأن انتخابات […]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.