من التسوية التاريخية إلى الفتنة الدائمة
في المقابل، سار المشرق العربي في الاتجاه المعاكس، فقد قبلت نخبه جميعا الليبرالية والقومية والإسلامية، بنظام الانتداب، ولو على مضض. ووطّنت نفسها على التعايش مع الهزيمة والعمل بنتائجها. وكما راهنت على الوعود البريطانية، واعتقدت بإمكانية التعاون مع لندن، لتحقيق الاستقلال القومي، ارتضت أن تتكيّف مع سياسات الانتداب كأمر واقع. ووجدت نفسها أمام مشروع تجزئة إجبارية حوّلت الدولة الموعودة إلى دويلات، روعي في إنشائها المعيار الطائفي والجهوي، أي نفي الاعتراف بشعبها أمةً أو قوميةً بالمعنى الحديث. وتكيّفت بسرعة قياسية مع جغرافيا سياسية مقطّعة الأوصال، وقبلت بالحكم في دويلاتٍ تابعةٍ ومستتبعة، تعتمد في بقائها واستمرارها على الحماية الخارجية، ولا تملك شروط إعادة إنتاجها، لا على الصعيد الاقتصادي ولا السياسي ولا الأمني بشكل أخص، فانتهى مشروع الدولة العربية القومية إلى طريقٍ مسدود. وبقيت الدويلات التي تأسّست على ركامه في أزمة مزمنة: أزمة نمو أو تنمية، وأزمة هوية، وأزمة أيديولوجية .
لم يساعد مرور الوقت كما أملت النخب الجديدة على تجاوز التناقضات والانقسامات التي رافقت نشوء هذه الدويلات. ولا أثر انتشار الثقافة الحديثة وبعض التقدّم الاجتماعي والاقتصادي على تقارب الجماعات الأهلية داخله، ولكنه عمّق الهوّة التي تفصل بينها، وفجّر مزيدا من النزاعات الداخلية التي استدعتها ضرورات تثبيت هوية الدويلات الجديدة، أو خدعة الحفاظ على “سيادة الدولة” أو هيبتها التي لم تكن تعني شيئا سوى تثبيت سيطرة العصائب التي سطت عليها، وجعلت منها، بالتعاون مع حماتها الخارجيين، ممالك وإقطاعات خاصة، بصرف النظر عن تسمياتها، ملكية أم جمهورية. وبعكس ما حلم به “قوميوها”، لم تنشئ هذه الدويلات أمما أو وطنياتٍ جديدة، لكنها فجّرت حساسياتٍ، وأشعلت نزاعاتٍ دفينة بين القوى الأهلية، من طوائف وعشائر وعوائل، بمقدار ما غابت الفكرة القومية، أي معنى السيادة، عن مفهوم السلطة الجديدة، فأصبحت السيطرة على الدولة بأي ثمن غاية السياسة وموضوعها. ولم يعد للدولة نفسها قيمة ولا وظيفة في نظر الجماعات المتنافسة عليها، إلا بوصفها أداةً لخوض الصراع الداخلي، وآلة إقصاء جبّارة للآخر، وتحيل الموارد العامة إلى غنائم حرب .
من هذه الحقبة، بدأت أزمة الدولة المشرقية. وفي سياق هزيمة القومية هذه وتقويض فكرة الدولة أو تفريغها من مضمونها، جاء انقسام النخبة واستقطابها بين إسلاميين سلفيين وعلمانيين متشدّدين، وتباعدت بينهما الطرق بشكل متزايد بمقدار ما زال الرهان المشترك الذي جمعهما. هكذا ارتدّت الإصلاحية الإسلامية عن المواقف الليبرالية نحو مواقف سلفية محافظة، ونزعت إلى التمترس وراء العقيدة الدينية، أو “العروة الوثقى”، في مواجهة خطر الانحلال أمام الغزو الثقافي، وتحوّل الغرب الذي قال محمد عبده إنه وجد فيه إسلاما مطبقا لكن من غير مسلمين، مثلما كانت الأقطار العربية تزخر بالمسلمين من دون إسلام، إلى شيطان أكبر. وبالمثل، تغيرت مواقف الطرف المقابل، وأصبحت العلمانية تختلط بالعداء للدين الذي أصبح في نظر معظم مريديها سبب التخلف والعقبة التي تحول دون توطين الحداثة والالتحاق بركب المدنية والغرب .
بمقدار ما أغلق تقويض الدولة أفق التقدّم والتحديث الاجتماعيين الفعليين، دفعها الشعور الطاغي بالأزمة إلى الهرب نحو معارك فكرية فارغة
هكذا انقسمت النخبة الاجتماعية على أرضية مواجهة المسألة الاستعمارية بين استراتيجيتين وأجندتين، لا مجال للتقريب بينهما: الحفاظ على التراث، والدين خصوصا، بصفته الحافظ للهوية من خطر التغريب من جهة، والدفاع عن أفكار الحداثة وقيمها وإرثها الإنساني بوصفها الحامل لأسرار التقدّم العلمي والتقني من جهة ثانية. وفي هذا الاستقطاب السياسي والفكري الذي أدار فيه كل فريقٍ ظهره للآخر، انتفت أي إمكانية للحوار والنقاش، وأهملت الخيارات الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بتسيير المجتمع ومصيره، فلا حل ممكنا في نظر السلفي لأي مشكلةٍ من دون تغيير النظام الكلي وإقامة حكم الشريعة، كما يقول شعار “الإسلام هو الحل”، ولا يتصوّر العلماني تقدّما ممكنا ما دامت السيطرة للخرافة على العقل، والدين على العلم، والظلام على النور.
هكذا التقى الفريقان في موقف “جهادي” في سبيل الفوز بمعركة المرجعية، فلا مجال للتعايش، كما يقول بعضهم، بين العقل أو العقلية الدينية السحرية والعقل أو العقلية العلمية. ومن الصعب أن لا نعترف بأنه كان لهذه المنازعة، وبالأحرى الفتنة، أكبر الأثر في التشويش على ثورات الربيع العربي، وطمس الجوهر التحرّري الذي ألهمها وقاد خطى شبابها، وحرف بعض جمهورها نحو مواقف طائفية وبعضه الآخر إلى تأييد حرب الإبادة الجماعية أو تبريرها .
من الواضح، إذن، أنه، كما عزّز الأمل بالدولة القومية المستقلة، أي السيدة، روح التعاون بين النخب المختلفة المشارب الفكرية والأصول الدينية والمذهبية، في حقبة ما نسميها النهضة العربية أواخر القرن التاسع عشر، أحدث الإخصاء الاستعماري لهذه الدولة والقومية التي ارتبطت بها، منذ بدايات القرن العشرين، شرخا لا يلتئم داخل صفوفها، حرمها من إمكانية بناء أجندةٍ وطنيةٍ جامعة، والانخراط في العمل لتغيير شروط حياة شعبها وتحرير إرادته وتوحيد قواه. وبالمثل، بمقدار ما أغلق تقويض الدولة أفق التقدّم والتحديث الاجتماعيين الفعليين، دفعها الشعور الطاغي بالأزمة إلى الهرب نحو معارك فكرية فارغة، للتغطية على إخفاقها التاريخي، وتأمين قسطها من المصالح الخاصة والآنية، فيما بقي لها من موارد، بالتعاون، إذا لزم الأمر، مع أصحاب النفوذ، من القوى والعصبيات الداخلية والدول الأجنبية، فما عرفته المجتمعات العربية في نصف القرن الماضي من أيديولوجيات مأزومة، وما رافقها من تناحر واقتتال أهليين هو الانعكاس المباشر لأزمة الدولة القومية البنيوية ذاتها ووسيلة إعادة إنتاجها في الوقت نفسه. وليست النظم الطفيلية الاستبدادية التي عرفتها هذه المجتمعات في تلك الحقبة الوليد الشرعي لهذه الأزمة والاقتتال، فحين تخفق النخب الاجتماعية في التفاهم على أجندةٍ وطنيةٍ تتجاوز الصراع على المصالح الخاصة، وتغرق في حرب المرجعيات المتنافية التي لا مخرج منها، تحكُم على نفسها بالموت السياسي، ومن ورائها تحييد المجتمع المدني بأكمله، تنهك لا محالة نفسها، فهي لا تحيّد نفسها في الصراع على السلطة فحسب، ولكنها تحيّد المجتمع المدني برمته، وتقدّم للمغامرين، من عسكريين وغير عسكريين، السلطة على طبقٍ من ذهب، فهي فرصتهم الفريدة للانقضاض على السلطة/ الفريسة، بذريعة إنقاذ البلاد أو من دونها. ولن يجدوا، حينئذٍ، صعوبة في تحويل الدولة التي تحوّلت إلى قوقعة فارغة، بعد أن فصلت عن شعبها، إلى مستعمرة، وإعلان سيادتهم المطلقة عليها إلى الأبد. وليس لديهم وسيلة لتأكيد هذه السيادة إلا بنفي سيادة الشعب وتقويض أسسها وتحويل أفراده إلى اتباع وزجهم في حربها ضد النخب ذاتها التي كان من المفروض أن تنظمه وتقوده وتحتمي به. ولا وسيلة للإبقاء على هذه الحرب وتحقيق أهدافها سوى بإشعال حرب دينية أو أيديولوجية موازية، أي حرب هويةٍ لا مخرج منها إلا بإبادة مستحيلة لأحد الطرفين. وهي ما كان أسلافنا يسمّونها الفتنة التي لا يمكن لاستبداد أن يعيش من دونها، فهي لا تموت، ولكنها تظل نائمة في انتظار من يشعلها .