هل نشهد نهاية عصر التحكم الأمريكي في النظام الاقتصادي العالمي؟
يوما بعد آخر وبوتيرة متسارعة تضعف وتتآكل أحد أهم أسلحة الولايات المتحدة غير العسكرية المحضة وهي العقوبات الموصوفة بالاقتصادية والمالية في مواجهة خصومها الذين يتزايد عددهم. ومرافقة مع تصاعد عملية تآكل هذا السلاح تتزايد الأصوات المحذرة من أنه ذو حدين وأن الدول التي تفرضه تعاني منه حاليا أكثر فأكثر لأن الأطراف المصنفة كخصم وجدت وتجد سبلا مختلفة للإفلات من آثاره الضارة، وأن التحالف الغربي حول واشنطن سيصل في لحظة ما إلى فرض العزلة على نفسه والتعرض لخطر الانهيار. ولكن هناك في نفس الوقت هؤلاء من المحافظين الجدد المؤثرين على سياسات البيت الأبيض وبعض حلفائه الآخرين الذين وإن اعترفوا بتقلص فعالية العقوبات الاقتصادية فأنهم يشيرون أنها ستبقى تحقق بعض أهدافها ما دامت العملة الأمريكية الدولار هي عماد المعاملات الاقتصادية والتجارية العالمية والعملة الأوروبية اليورو مكملا لها، وكذلك ما دام نظام التبادل بين المؤسسات المالية والبنوك “سويفت” في أيد غربية إضافة إلى الهيمنة بنسبة 90 في المئة على كبرى مؤسسات التأمين.
مع بداية سنة 2023 وعلى مستوى العقوبات تبلغ قائمة الولايات المتحدة 38 دولة ومنظمة في حين تضم قائمة الاتحاد الأوروبي 35 دولة، ويشكل ذلك حوالي ثلث سكان المعمور المقدر عددهم بثمان مليارات نسمة، مقابل أقل من 900 مليون نسمة مجموع سكان دول التحالف الغربي.
هناك خلاف حول فعالية العقوبات الأمريكية الغربية التي طبقت بكثافة خاصة تزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي بداية عقد التسعينات من القرن العشرين. البعض يرى أن النتائج كانت ايجابية في حين يقدر آخرون أنها لم تنفع سوى مع بلدان ضعيفة ومعزولة أو سقطت حكوماتها في فخ الوعود الوردية للغرب وكانت النتائج مأساوية على حد سواء لساستها وشعوبها.
المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية “Giga” وضع تقريرا يمكن متابعته بحذر لأنه صادر من دولة حليفة لواشنطن وبالتالي يحاول إبراز ما يعتبر نجاحات.
يظهر التقرير “أن أقل من نصف العقوبات تنتهي بتنازلات من قبل الأطراف الخاضعة للعقوبات”.
وبحسب معهد “Giga”، كانت هناك “نجاحات واضحة”. مثل إنهاء برنامج الأسلحة النووية الليبي “عقوبات 1978-2006″، وإجراءات مكافحة الفساد ضد بلغاريا “2007-2009” وعقوبات الأمم المتحدة على الحرب الأهلية في ساحل العاج “2003-2016”. كما تعتبر العقوبات المفروضة على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في التسعينيات ناجحة أيضا.
المعهد تغاضى عن ملفات الفشل، الحصار على كوبا منذ 1962 لم ينجح في إسقاط النظام الشيوعي، في 11 سبتمبر سنة 1973 وبعد أشهر طويلة من الحصار الأمريكي ضد حكومة سلفادور أليندي اليسارية في سانتياغو حركت واشنطن وحسب وثائقها القوات المسلحة الشيلية لإسقاط النظام في عملية دامية. في سنة 1990 فرض الغرب حصارا شاملا على العراق استمر 13 سنة ولكنه لم ينجح في إسقاط النظام فلجأت واشنطن للغزو المباشر تحت غطاء أكاذيب.
لائحة الفشل في فرض الإملاءات الغربية تضم الفيتنام وكمبوديا وكوريا الشمالية وأفغانستان وإيران وسوريا والسودان وبورما وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها.
منذ المواجهة الروسية الأولى في أوكرانيا سنة 2014 وإعادة ضم شبه جزيرة القرم لروسيا ثم بعد المعركة الثانية التي انطلقت في 24 فبراير 2022 والعقوبات الغربية تتعاقب على موسكو وبعد 10 أشهر من انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كما يصفها الكرملين، يقر الغربيون أن فعالية العقوبات ستأتي بعد أشهر إن لم يكن سنوات كما يقول الساخرون. الواضح كما يقول الخبراء المحايدون هو أن موسكو عملت طوال ثمان سنوات لجعل العقوبات سلاحا غير فعال.
الأهم هو أن سيف العقوبات الغربية سواء ضد روسيا والصين وكوريا الشمالية أو غيرها ممن تعتبرهم خصومها فرض على تلك الدول ومثيلاتها إتباع سياسات وإن كانت في بعض الأحيان شاقة ومكلفة تضمن تحصين استقلالها الاقتصادي والسياسي وكذلك عودتها إلى مصافي الدول المتفوقة صناعيا وتقنيا واقتصاديا.
خلال فترة حكم يلتسين في الكرملين سقطت روسيا في فخ الخصصة وإهمال الصناعات الأساسية والتركيز على الإنتاج الاستهلاكي الكمالي، التحول جاء بعد ذهاب يلتسين ولكن القفزة الحقيقية بدأت مع سنة 2014.
وإذا كان هناك من يقول تعليقا على مثل هذا التحول، في البرامج الإخبارية شبه الرسمية في الغرب، إن الاعتراف بأوجه القصور يقترب من كونه محاولة لامتصاص غضب الشارع الروسي، فإن هناك ما يشير أيضا إلى اعتباره تراجعا صوب المراجعة الشاملة للواقع الراهن، بحثا عن “إستراتيجية مغايرة”، تقوم في معظم جوانبها على ضرورة الاعتماد على الذات، في دولة تمتلك عمليا ما يزيد على 30 في المئة من ثروات العالم الطبيعية، ومنها النفط والغاز والمعادن، بما فيها اليورانيوم، إلى جانب المياه العذبة والمنتجات الزراعية التي صارت تكفل لروسيا اليوم موقع الصدارة العالمية في مجال إنتاج الحبوب والغلال.
عام 2023
فيما شكلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا فرصة لمواصلة الضغط الأمريكي على الدب الروسي، وفي وقت شهد فيه العام أيضا ضغوطات أمريكية متزايدة على الصين في إطار الحرب التجارية الممتدة منذ 2018، فإن حرارة الصراع بين الولايات المتحدة ومنافسيها على الساحة الدولية من المرجح أن ترتفع، في ضوء تصاعد المخاوف المشتركة بشأن ما يمثله كل طرف من الأطراف من نفوذ.
ويتخذ الصراع أشكالا مختلفة بساحات مترامية الأطراف، إلى جانب الصراع الاقتصادي المباشر، كصراع النفوذ في مناطق مختلفة من العالم، من بينها إفريقيا على سبيل المثال، وجميعها عوامل تضع النظام العالمي على محك تغيرات تعتمل ربما أكثر من أي وقت مضى في ضوء التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، وتتصاعد معها حلقات الصراع في الفترات المقبلة.
الخبير والباحث الروسي في العلاقات الدولية تيمور دويدار، قال في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن الكرملين يعول على الشراكة مع الصين لخلق إدارة جديدة للعالم وتدشين نظام دولي تفاعلي جديد، ليس بمعنى معاداة ومواجهة العالم الغربي، ولكن من باب إحداث توازن وتكافؤ يكفل التأسيس لنظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب.
وتوقع دويدار توسيع منظمات وتجمعات قارية ودولية تضم البلدين مثل شنغهاي وبريكس، وهو ما قد يخلق مناخا لإعادة هيكلة مؤسسات الشرعية الدولية، وتعزيز التنافسية بين التكتلات العالمية ودرء خطر الأحادية القطبية والاستئثار بالقرار الدولي من قبل طرف واحد.
الخبير العسكري والاستراتيجي، مهند العزاوي، أوضح من جانبه، أنه رغم عدم تبلور تحالف استراتيجي أورو – آسيوي بشكل رسمي قطباه الصين وروسيا، إلا أن الحرب الأوكرانية أفرزت واقعا يدفع نحو تعزيز مثل هذا التحالف، وهو الآن في طور التقارب الاستراتيجي المتعاظم.
وأضاف العزاوي أنه على الصعيد الاقتصادي “يرتبط البلدان بطرق تجارة وتبادل برية آخذة في التطور والتوسع، فضلا عن الجسر الذي تم تدشينه بينهما، وفي هذا السياق، يسعيان للاستغناء عن الطرق البحرية، التي يتوقع خلال 5 إلى 10 سنوات أن تتحول لطرق وممرات غير آمنة ولميدان صراعات وحروب”.
وتابع أن التعاون بين بكين وموسكو متشعب ومتعدد الأوجه، اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وأمنيا، وهو الآن على أعلى مستوى، خصوصا على صعيد التعاون والتبادل في مجالات الطاقة التقليدية والمتجددة والتكنولوجيات الحديثة، حتى أن الصين تكاد تصبح المشتري الأكبر للنفط والغاز الروسيين وبأسعار تفضيلية.
واستطرد أن البلدين عملاقان دوليان، وقربهما الجغرافي يفرض عليهما تكريس تعاونهما، خاصة لمواجهة النفوذ الأمريكي في جنوب وشرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وأشار إلى أن هذا التعاون في طور التحول لعلاقة إستراتيجية متينة، الأمر الذي يعززه ما يوصف بالتحرك الأمريكي في ملف تايوان وتقديم المساعدات العسكرية لها.
وبين أن الصين وروسيا تملكان ترسانة نووية وعقيدة قتالية شرقية متشابهة، فضلا عن أسلحة نوعية ومتطورة، لدرجة أنهما تتفوقان حتى على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة الفرط صوتية، وهذا ما يجعل من تحالفهما المرتقب قوة دولية ضاربة.
تشكيل العالم الجديد
جاء في كتاب “نتائج عكسية” للكاتبة أغاثا ديمارايس والذي نشرت فورين أفيرز الامريكية مقتطفات منه في 30 ديسمبر 2022: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد مصالح الولايات المتحدة”. توثق أغاثا ديمارايس الاعتماد المتزايد على العقوبات الاقتصادية والمالية، من قبل الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ردا على ما تعتبره انتهاكات الدول للمعايير الاقتصادية والسياسية والإقليمية ومعايير حقوق الإنسان التي وضعها الغرب ولكن التي يفرضون عليها تسمية المجتمع الدولي.
وتستدعي الكاتبة الدليل التاريخي لدعم تأكيدها بأن العقوبات لا تكون فعالة إلا إذا كانت ذات أغراض محدودة، وتحقق نتائج سريعة، وتستهدف دولة ضعيفة اقتصاديا، وإذا كانت هذه العقوبات منسقة جيدا دوليا – وهي ظروف نادرا ما يتم الحصول عليها من الناحية العملية.
وتسلط الباحثة الضوء على القيود والآثار الجانبية السلبية للعقوبات، والتي كان بعضها مألوفا من الأحداث الأخيرة. تجد البنوك والشركات صعوبة في الامتثال للعقوبات. كما يمكن للعقوبات أن تضر بالدول التي تفرضها، كما يتضح من ارتفاع أسعار الطاقة السائدة في الغرب. فالعقوبات الحالية قد تقوض فعالية العقوبات المستقبلية. وبالتالي، فإن استخدام البنوك والعملات الغربية كسلاح ضد روسيا قد يشجع موسكو وغيرها على زيادة اعتمادها على النظام المالي الصيني.
تفترض ديمارياس أن استخدام واشنطن العقوبات كأداة سياسية قد بلغ ذروته على الأرجح، على الرغم من أنها لا تصف الأدوات والحيل البديلة التي يجب على البلدان استخدامها بدلا من ذلك عند مواجهة حكومة مناهضة لأمريكا.
نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في 28 ديسمبر 2022 مقالا تحدث مطولا عن “نهاية عصر العقوبات، كيف قام أعداء الولايات المتحدة بحماية أنفسهم منها؟”، ويناقش “إفراط الولايات المتحدة في استخدام العقوبات”، ويشرح كيف أدى ذلك إلى فقدان هذا السلاح لقيمته وفعاليته على الصعيد الدولي، متوقعاً أن “الأيام الذهبية للعقوبات الأمريكية قد تنتهي قريبا”.
فمع اعتماد واشنطن بشكل متزايد على العقوبات، بدأ عدد من الدول المخالفة لسياساتها في تحصين اقتصادياتها ضد هذه الإجراءات، وقد ساهمت ثلاثة أحداث بالتحديد، وقعت خلال العقد الخير من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في إقناع هذه الدول بضرورة التصرف ضد أي عقوبات أمريكية محتملة.
يعدد الكاتب أجاث دماريز أبرز ثلاث محطات أثبتت أهمية وجود خطط لمواجهة عقوبات واشنطن، ففي عام 2012، قطعت الولايات المتحدة إيران عن نظام “سويفت” النقدي العالمي، في محاولة لعزل البلاد ماليا، وقد لاحظ أعداء الولايات المتحدة وخصومها الآخرون ذلك، متسائلين عما إذا كان دورهم سيأتي لاحقا.
وفي عام 2014، فرضت الدول الغربية عقوبات على روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، ما دفع موسكو إلى جعل الاستقلال الاقتصادي أولوية.
وفي عام 2017، بدأت واشنطن حربا تجارية مع بكين، والتي سرعان ما امتدت إلى القطاع التكنولوجي، من خلال تقييد تصدير التكنولوجيا الأمريكية المرتبطة بصناعة وتطوير أشباه الموصلات إلى الصين، ما شكل تحذيرا لخصوم واشنطن من إمكانية حظر وصولهم إلى تقنيات التكنولوجيا المهمة.
وقد أدت هذه الحلقات الثلاث إلى ظهور ظاهرة جديدة، أطلقت عليها “فورين أفيرز” ظاهرة “مقاومة العقوبات”.
تنبع سلطة الولايات المتحدة في فرض عقوبات على الدول الأخرى من أولوية الدولار الأمريكي من جهة، ونطاق رقابة الولايات المتحدة على القنوات المالية العالمية من جهة أخرى.
ومن المنطقي إذا، أن يسعى أعداء الولايات المتحدة إلى ابتكارات مالية تقلل من مزايا عقوبات الولايات المتحدة إذا حصلت، وقد وجدت هذه البلدان، على نحو متزايد، الحل في اتفاقيات مبادلة العملات، وفي بدائل لـ SWIFT، وفي العملات الرقمية.
حالة احباط
في تقرير نشرته قناة الحرة الأمريكية يوم 5 يناير 2023 تظهر حالة الإحباط التي تنتشر في واشنطن بشأن تعثر سياسة العقوبات، التقرير الذي صدر تحت عنوان “ناد فظيع” للالتفاف على العقوبات يقول: بعد تعرضهما لعقوبات دولية، لجأت روسيا وإيران إلى بعضهما البعض وفرضتا عقوبات مماثلة على الدول المعادية، وحاولتا تطوير التجارة بطريقة يمكن أن تلتف على الإجراءات العقابية.
ويشير التقرير إلى أنه بعد عزلهما إلى حد كبير عن الأنظمة المصرفية الدولية، وأسواق التصدير، والموارد والتقنيات الأجنبية، عززا البلدان علاقاتهما التجارية الخاصة، مع بناء علاقات اقتصادية مع الدول المعادية لأمريكا والتي تصفها واشنطن “بالمبوذة” مثل كوريا الشمالية، وبيلاروس، وفنزويلا وميانمار “بورما” التي فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عليها عقوبات.
وفي حين أن مثل هذه الدول قد تكون مستعدة للتعامل في جهد مشترك لمواجهة الغرب، فإن المنافسات طويلة الأمد، والصعوبات اللوجستية، وتشابه المنتجات تحد بشكل كبير من فعالية أي نوع من الكتلة الخاضعة للعقوبات، وفق خبراء.
وقال بيتر بياتسكي، المسؤول السابق بوزارة الخزانة الأمريكية والذي يشغل الآن منصب الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات Castellum.AI إنه “ناد فظيع أن أكون فيه”.
ودخلت روسيا وإيران العام الجديد وهما أكثر دولتين تعرضتا للعقوبات الغربية في العالم، وأدت محاولات مساءلتهما عن أفعالهما في عام 2022 إلى تفاقم مشاكلهما.
وجذبت الدول الأخرى التي أظهرت تحديا الغرب انتباه موسكو وطهران للعمل معها.
وأبرمت بيلاروس اتفاقيات جديدة هذا العام مع موسكو وطهران عززت التجارة معهما، وكذلك فعلت فنزويلا، التي تخضع لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بإبرام اتفاقية تعاون مدتها 20 عاما مع طهران. كوريا الشمالية وسوريا وميانمار أيضا لعبت دورا دور في التجارة مع روسيا وإيران.
وتستخدم الدول الخاضعة للعقوبات، التي تواجه عقبات أمام الشحن الدولي والخدمات المالية، عددا من الأساليب المختلفة لإجراء التجارة فيما بينها.
بنيامين تساي، وهو ضابط استخبارات سابق بالحكومة الأمريكية وهو الآن مساعد كبير في شركة استخبارات المخاطر TD International قال: “يمكنها الدخول في عمليات مقايضة أو تجارة غير مقومة بالدولار الأمريكي… على سبيل المثال، زادت العقوبات الغربية من استخدام روسيا لليوان الصيني لإجراء معاملات تجارة ثنائية. وحاولت الكيانات الروسية أيضا التهرب من العقوبات باستخدام العملات المشفرة”.
ومنذ أن خضعت لعقوبات بسبب استيلائها على شبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين الموالين لها في شرق أوكرانيا في عام 2014، حاولت روسيا توسيع استخدام نظامها المصرفي الخاص لتحل محل نظام “سويفت”.
حلفاء امريكا يتحايلون
رغم رفض السياسيين في البيت الأبيض الاعتراف علنا بأن أساليبهم لفرض سياستهم على الآخرين تتعثر تكشف العديد من وسائل إعلامهم مدى تعثرهم. سلطت مجلة “إيكونوميست” في تقرير لها يوم 30 ديسمبر 2022 الضوء في تقرير لها على العراقيل التي تواجه الولايات المتحدة في محاولاتها لكبح جماح الصين في صناعة أشباه الموصلات هو أمر يدخل في نطاق صراع القوى الكبرى.
وأشارت المجلة إلى الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد شركة هواوي الصينية، التي كان ينظر إليها باعتبارها وجها للتهديد التكنولوجي الصيني. ومن بين هذه الإجراءات حظر تصدير الرقائق الدقيقة الأساسية لصنع منتجاتها.
ورغم أن هذا القرار أثر سلبا على مبيعات الشركة، فقد شجع “المستثمرين من جميع أنحاء العالم” على سد الفجوة في سلاسل توريد أشباه الموصلات خارج نطاق القانون الأمريكي.
وبدأت الشركات اليابانية، من بين شركات أخرى، في تسويق منتجاتها للصين بطريقة تتفادى لوائح التصدير الأمريكية، وحتى الشركات الأمريكية ذاتها بدأت في البحث عن منطقة محايدة تمكنها من مواصلة التصدير للصين.
وفي غضون ذلك، ضاعفت الشركات الصينية، مدفوعة باستثمارات حكومية بمليارات الدولارات، جهودها لتطوير إصداراتها الخاصة من تكنولوجيا الرقائق التي استوردتها من الولايات المتحدة، “وبدا الأمر كما لو أن الحكومة الأمريكية تفقد سيطرتها بثبات على سلسلة توريد الرقائق”، مما دفع إدارة الرئيس جو بايدن إلى اتخاذ خطوات لإقناع الحلفاء بتبني سياسة متشددة ضد الصين.
ومنذ أن تولى بايدن منصبه في يناير 2021، أثار مسؤولو إدارته مسألة ضبط سوق الرقائق كلما تحدثوا إلى حلفاء أجانب.
وذكر عضو في جماعة ضغط بواشنطن إنه خلال 25 عاما لم ير أبدا تصدر مسألة أشباه الموصلات لجدول الأعمال الدبلوماسي مثلما يحدث الآن.
ومن ضمن جهود كبح جماح الصين، أنشأت الحكومات والشركات الغربية منتديات خاصة لموائمة السياسات مع تجارة الرقائق والمعدات والمواد المستخدمة في صنعها.
وتمثل المنتديات الجديدة “الخطوات الأولى نحو التحكم في تصدير أشباه الموصلات، على أمل الاحتفاظ بالتفوق التكنولوجي على الصين”.
ويشير التقرير إلى أن المنتدى الأكثر رسمية هو مجلس التجارة والتكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي، الذي نص بيان مشترك بعد الاجتماع الأول له في بيتسبرغ في سبتمبر 2022 عن نيته التعاون في “إعادة التوازن” لسلاسل توريد الرقائق العالمية.
ويشير نص “قانون أمريكا تنافس” الذي تجري مناقشته في مجلس النواب إلى منح 52 مليار دولار لتنشيط صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
وتستعد المفوضية الأوروبية للكشف عن خطتها لزيادة الإنتاج الأوروبي للرقائق الإلكترونية بأربعة أضعاف بحلول عام 2030، “وهي مبادرة رئيسية لصناعتنا وحاسمة من وجهة نظر جيوسياسية”، وفقا لمفوض السوق الداخلية، تيري بريتون.
لكن دبلوماسية الرقائق العالمية “لا تزال ضعيفة”، وتعتقد واشنطن أن قدرتها على الرد بسرعة على التهديد الصيني سوف يتم وقفها، والعقبة، وفق مسؤول تجارة سابق في فريق الرئيس الأسبق، باراك أوباما، هي أنه كلما أرادت واشنطن الرد بقوة على الصين، كان من الصعب إقناع حلفائها الغربيين والآسيويين بالمشاركة.
ويشير التقرير إلى عدم اتخاذ الأوروبيين نهجا متشددا تجاه الصين، كما أنه يمكن توجيه الاستثمار إلى أماكن بعيدة عن متناول الولايات المتحدة وتناسب صانعي الرقائق الصينيين.
وفي ظل هذا الوضع، أصبحت الولايات المتحدة “عالقة بين اختيار مجموعة من الضوابط أكثر ليونة قد تعمل بشكل أفضل على المدى الطويل، أو خيارات أكثر صرامة قد تضر بالتكنولوجيا الصينية على المدى القصير لكنها قد تضر بالصناعة الأمريكية بشكل عام. والأسوأ من ذلك أنه قد يفسد احتمال انتعاش تجارة الرقائق الأمريكية الصينية في حالة استئناف العلاقات الأفضل بينهما يوما ما”.
التأمين البحري.. سلاح
جاء في تقرير نشر يوم 3 يناير 2023 على موقع ناشينال انترست الامريكية أن فرض حظر مشروط على السفن النفطية الغربية والوصول إلى شركات التأمين على تسعير الشحنات النفطية الروسية المفروض من قبل دول G7 يعتبر العمود الفقري لهذا السقف، وفقا لمقال الباحث كريستوفر فاسالو على موقع ناشينال انترست.
ويحظر على الشركات داخل الاتحاد الأوروبي ومجموعة G7 توفير التأمين لموردي الخام الروسي المباع فوق الحد الأقصى للسعر بعتبة 60 دولارا، ويقول الكاتب إن إثبات جدوى حظر التأمين كأداة وآلية للعقوبات هو أكثر أهمية لمستقبل الحكم الجيواقتصادي من سقف الأسعار نفسه.
وحتى الآن، أثبت حظر التأمين أنه وسيلة فعالة لفرض الامتثال للحد الأقصى، مما أدى إلى تثبيت فرق السعر بين خام الأورال السيبيري الروسي وخام برنت بحر الشمال، المعيار العالمي.
وتسيطر الشركات في دول G7 على 90 في المائة من التأمين البحري ولا يزال مالكو السفن الصينيون، الذين يستوردون حصة مرتفعة من الخام الروسي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يعتمدون على شركات التأمين الغربية لحماية سفنهم.
وفي حين أن سقف الأسعار سيساعد الصين على تأمين النفط الروسي بأسعار مواتية على المدى القصير، فإن احتمال فرض حظر تأمين غربي، موجه إلى الصين بدلا من روسيا في مواجهة مستقبلية بشأن تايوان، من المرجح أن يزعج بكين.
ويقول فاسالو: “يبدو أن بعض التحركات التي اتخذتها بكين هذا العام تهدف فعليا إلى الحد من تعرض الصين لخطر حظر شركات التأمين الغربية”.
الحظر المفروض على توفير التأمين له تاريخ طويل. وخلال الحرب الإسبانية في القرن الثامن عشر، كانت بريطانيا قوة بحرية مهيمنة وأيضا مالكة شركة التأمين البحري الأولى في العالم.
لكن وضع بريطانيا هذا أدى في بعض الأحيان إلى نتائج ضارة، حيث وجدت شركات التأمين البريطانية نفسها تغطي الأضرار التي ألحقتها الفرقاطات البريطانية بسفن العدو.
بعد الحرب، بدأ صانعو السياسة البريطانيون يتساءلون عما إذا كان بإمكانهم منع الشركات في لندن من تأمين البضائع التجارية للعدو وبالتالي الجمع بين قوتهم البحرية وصناعة التأمين القوية.
وفي حين حذر المعارضون من أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تعرض مكانة لندن كشركة تأمين رائدة في العالم للخطر، سرعان ما أصبح من الواضح أنه لا يمكن لأي مزود أجنبي أن يضاهي الموثوقية والسمعة الصادقة والمعدلات المنخفضة للشركات البريطانية.
وصمم صانعو السياسة البريطانيون قيودا على التأمين استهدفت التجارة الفرنسية والأمريكية في الحروب المستقبلية.
وفي حرب عام 1812، على سبيل المثال، كان الحظر فعالا لدرجة أن تكاليف التأمين تجاوزت 80 في المائة من قيمة الشحنة نفسها.
وسمح توحيد القوة البحرية والقوة المالية لبريطانيا بفرض حصار استراتيجي بثمن بخس.
ويقول الكاتب إن حظر التأمين يمكن أن يساعد عمليا في فرض حصار كامل على السلع الاستراتيجية في أوقات الأزمات.
وينضم “سلاح التأمين” إلى مجموعة من العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي يجب أن تكون بكين مستعدة لتجنبها في حالة المواجهة بشأن تايوان، وفقا للكاتب الذي يضيف أنه لطالما شعرت بكين بالقلق من قدرة البحرية الأمريكية على فرض حصار على الواردات المنقولة بحرا في مضيق ملقا “بما في ذلك 80 في المائة من النفط الصيني المستورد”.
ويذكر إنه يجب على بكين الآن أن تفترض استعداد G7 لزيادة الحصار المستقبلي بقيود مالية مثل حظر التأمين.
ومع ذلك، مثل العديد من العقوبات الأمريكية، بدأت الإجراءات المضادة الصينية في تخفيف قوة سلاح التأمين في المستقبل.
واتخذت بكين خطوتين هذا العام لتأمين شحنات القمح والطاقة الروسية المنقولة بحرا، هما البحث عن تأمين بديل غير تابع لمجموعة السبع والحصول على أسطول أكبر من الناقلات.
وفي حين أن هاتين المناورات مفيدة للتهرب من متطلبات الإبلاغ المرتبطة بالعقوبات التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا فإنهما تعملان أيضا على دعم دفاعات بكين بشكل استباقي ضد سلاح التأمين.
وإذا كان سلاح التأمين موجها إلى الصين، فسيتعين على بكين تركيز مخاطر شحن النفط في شركات إعادة التأمين الأصغر غير الغربية، والتي يوجد منها عدد قليل من الحجم المناسب. وتوجد ثلاث شركات فقط من أكبر عشرين شركة إعادة تأمين في العالم خارج دول G7.
وتمثل شركة “تشاينا ري”، أكبر شركة لإعادة التأمين من خارج مجموعة G7، حوالي خمس حجم شركة “ميونيخ ري”، الأكبر في العالم.
كما سرعت بكين سعيها منذ فترة طويلة لأسطول ناقلات محلي يمكن للمخططين الصينيين التحكم في حركته وحمولته.
وفي الآونة الأخيرة، نشرت الشركات الصينية تكتيكات غامضة لزيادة حجم هذا الأسطول.
وفي أغسطس 2022، ذكرت لويدز ليست، وهي مجلة صناعية، أن أحد مالكي السفن الصينيين المجهولين أنفق 376 مليون دولار لشراء ناقلات لا تحمل علامات، والتي استخدمت منذ ذلك الحين لإخفاء الأصول الحقيقية للبضائع الخاضعة للعقوبات عبر “عمليات النقل من سفينة إلى سفينة” في وسط المحيط الأطلسي. ومن خلال دمج البضائع الروسية بهذه الطريقة، تمكنت السفن الصينية من تأمين التأمين والخدمات البحرية الأخرى دون التعرض للعقوبات.
وتقول لويدز أن هذه الممارسة يمكن أن تتوسع إلى 480 ناقلة.
حلم قوة صناعية عظمى
العالم يتبدل الإمبراطوريات لا تدوم ومن يسير عكس التيار يتلاشى. نشرت مجلة فورين أفيرز يوم 5 يناير 2023 تحليلا يلقي الضوء على أهمية عودة الولايات المتحدة لتصبح “قوة صناعية عظمى مرة أخرى”، خاصة وأنها لم تعد “ورشة العمل العالمية” منذ 1998، بعد أن أصبحت تعتمد بشكل أكبر على استيراد البضائع من الخارج.
ويوضح التحليل أن الإدارة الأمريكية الحالية اتخذت “خطوات هامة في تشجع عودة الوظائف من الخارج للولايات المتحدة، ودعم المصانع الأمريكية، والسعي لحرمان الصين من الوصول إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات”، ولكن هذه الجهود بحاجة إلى “تعزيز الأجندة باستراتيجيات محددة.. لتنشيط الأجزاء المتعثرة من البلاد، وتقوية الشراكات بين القطاعين العام والخاص”.
وأكد على أهمية “تبني روح وطنية اقتصادية تدعو إلى زيادة الإنتاج المحلي، وإعادة الوظائف، وتعزيز الصادرات”، من خلال التركيز على “إحياء الصناعات المهمة، والحفاظ على العلاقات التجارية الرئيسية، وتشجيع الديناميكية والابتكار”.
وفي ستبمبر 2022، أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خلال افتتاحه موقع مصنع لأشباه الموصلات في ولاية أوهايو أن تصنيع هذه المكونات الإلكترونية هو مسألة “أمن قومي” لا سيما في مواجهة الطموحات الصينية.
وذكر بايدن في الموقع الذي تنوي فيه شركة إنتل استثمار مبلغ ضخم قدره 20 مليار دولار “كل هذا في مصلحة اقتصادنا، كما أنه من مصلحة أمننا القومي”، بحسب تقرير نشرته وكالة فرانس برس.
وخلال ما يتجاوز العقدين الماضيين كلف العجز التجاري الأمريكي المتزايد الولايات المتحدة ما يزيد عن خمسة ملايين وظيفة صناعية ذات رواتب جيدة، ناهيك عن إغلاق ما يقرب من 70 ألف مصنع، حيث أصبحت المدن الصناعية خاوية بعد التخلي عنها، ولتتركز الثروات في المدن الساحلية.
ويشير التحليل إلى أن خسارة الولايات المتحدة بسبب تراجع الصناعات لم يؤثر على الاقتصاد فقط، بل أضر بـ”الديمقراطية الأمريكية أيضا”، فيما لعبت بكين “دورا هاما” في التأثير على تراجع الصناعات الأمريكية.
وبعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، ارتفع العجز التجاري الأمريكي لنحو 309 مليارات دولار، وذلك بعدما قوضت بكين الصناعة الأمريكية باستخدام “عمالة مستغلة” وتقديم “مساعدات حكومية للشركات الصينية”، وهو ما دفع بانتقال عدد من الصناعات من المدن الأمريكية إلى المكسيك، ما تسبب في تصاعد الكراهية تجاه المهاجرين خاصة ضد القادمين من آسيا، ناهيك عن تعزيزه للتوجهات “اليمينية والتطرف والعنف” في الداخل الأمريكي.
ويشرح التحليل أن “الضرورات الاقتصادية” تجاه الصين، يجب أن تدفع للازدهار داخل الولايات المتحدة، إذ يجب على صانعي السياسة الأمريكيين تحديد أهداف سنوية لتقليل العجز التجاري مع الصين، ووضع إجراءات للحد من تأثير المساعدات الحكومية التي تقدمها الصين لشركاتها.
وأقر الكونغرس خلال عام 2022 تشريعا يسمح بتخصيص 52 مليار دولار من الإعانات لإحياء إنتاج أشباه الموصلات، وأشار بايدن إلى أن هذا الإجراء يأتي في إطار التنافس الكبير بين الصين والولايات المتحدة.
وذكر بايدن في أكتوبر 2022 “لا عجب… أن الحزب الشيوعي الصيني حاول بقوة حشد مجتمع الأعمال الأمريكي ضد هذا القانون”.
وأكد أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى مكونات إلكترونية متقدمة “لأنظمة أسلحة المستقبل التي ستعتمد بشكل متزايد على الرقائق الإلكترونية”، مضيفا “للأسف، نحن لا ننتج حاليا أيا من أشباه الموصلات المتطورة هذه في أمريكا”.
الأسهم الأمريكية في خطر
قالت جورجيفا المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي إن الاقتصاد الأمريكي يقف على مسافة أبعد وقد يتجنب الانكماش المطلق الذي من المحتمل أن يصيب ما يصل إلى ثلث اقتصاديات العالم.
وأضافت “الولايات المتحدة هي الأكثر متانة، وربما تتجنب الركود. نرى أن سوق العمل “هناك” لا تزال قوية جدا”.
لكن هذه الحقيقة في حد ذاتها تمثل خطرا لأنها ربما تعرقل التقدم الذي يحتاج مجلس الاحتياطي الاتحادي لإحرازه في إعادة التضخم في الولايات المتحدة إلى مستواه المستهدف من أعلى مستوياته في أربعة عقود والتي لامسها عام 2022. وأظهر التضخم مؤشرات على تخطي ذروته مع نهاية عام 2022، ولكن وفقا للإجراء المفضل للبنك المركزي، فإنه لا يزال عند ما يقرب من ثلاثة أمثال هدفه البالغ اثنين بالمئة.
وقالت جورجيفا “هذه… نعمة مختلطة لأنه إذا كانت سوق العمل قوية جدا، فقد يضطر البنك المركزي الأمريكي إلى إبقاء أسعار الفائدة أعلى لفترة أطول من أجل خفض التضخم”.
وفي أكبر تشديد للسياسة النقدية منذ أوائل الثمانينيات، رفع المركزي الأمريكي عام 2022 سعر الفائدة القياسي من ما يقرب من الصفر في مارس إلى النطاق الحالي بين 4.25 بالمئة و4.50 بالمئة، وتوقع مسؤولو البنك في ديسمبر 2022 أنه سيتجاوز حاجز الخمسة بالمئة في عام 2023، وهو مستوى لم يصل إليه منذ عام 2007.
وستكون سوق العمل في الولايات المتحدة في الواقع محور تركيز لمسؤولي البنك المركزي الأمريكي الذين يرغبون في رؤية الطلب على العمالة يتباطأ للمساعدة في تقليل ضغوط الأسعار.
نهاية عهد وبداية آخر هذا حكم التاريخ والتطور البشري.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سلاح العقوبات مراحل التقلب البداية والنهاية…
هل نشهد نهاية عصر التحكم الأمريكي في النظام الاقتصادي العالمي؟
شبكة البصرة
عمر نجيب
يوما بعد آخر وبتويرة متسارعة تضعف وتتآكل أحد أهم أسلحة الولايات المتحدة غير العسكرية المحضة وهي العقوبات الموصوفة بالاقتصادية والمالية في مواجهة خصومها الذين يتزايد عددهم. ومرافقة مع تصاعد عملية تآكل هذا السلاح تتزايد الأصوات المحذرة من أنه ذو حدين وأن الدول التي تفرضه تعاني منه حاليا أكثر فأكثر لأن الأطراف المصنفة كخصم وجدت وتجد سبلا مختلفة للإفلات من آثاره الضارة، وأن التحالف الغربي حول واشنطن سيصل في لحظة ما إلى فرض العزلة على نفسه والتعرض لخطر الانهيار. ولكن هناك في نفس الوقت هؤلاء من المحافظين الجدد المؤثرين على سياسات البيت الأبيض وبعض حلفائه الآخرين الذين وإن اعترفوا بتقلص فعالية العقوبات الاقتصادية فأنهم يشيرون أنها ستبقى تحقق بعض أهدافها ما دامت العملة الأمريكية الدولار هي عماد المعاملات الاقتصادية والتجارية العالمية والعملة الأوروبية اليورو مكملا لها، وكذلك ما دام نظام التبادل بين المؤسسات المالية والبنوك “سويفت” في أيد غربية إضافة إلى الهيمنة بنسبة 90 في المئة على كبرى مؤسسات التأمين.
مع بداية سنة 2023 وعلى مستوى العقوبات تبلغ قائمة الولايات المتحدة 38 دولة ومنظمة في حين تضم قائمة الاتحاد الأوروبي 35 دولة، ويشكل ذلك حوالي ثلث سكان المعمور المقدر عددهم بثمان مليارات نسمة، مقابل أقل من 900 مليون نسمة مجموع سكان دول التحالف الغربي.
هناك خلاف حول فعالية العقوبات الأمريكية الغربية التي طبقت بكثافة خاصة تزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي بداية عقد التسعينات من القرن العشرين. البعض يرى أن النتائج كانت ايجابية في حين يقدر آخرون أنها لم تنفع سوى مع بلدان ضعيفة ومعزولة أو سقطت حكوماتها في فخ الوعود الوردية للغرب وكانت النتائج مأساوية على حد سواء لساستها وشعوبها.
المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية “Giga” وضع تقريرا يمكن متابعته بحذر لأنه صادر من دولة حليفة لواشنطن وبالتالي يحاول إبراز ما يعتبر نجاحات.
يظهر التقرير “أن أقل من نصف العقوبات تنتهي بتنازلات من قبل الأطراف الخاضعة للعقوبات”.
وبحسب معهد “Giga”، كانت هناك “نجاحات واضحة”. مثل إنهاء برنامج الأسلحة النووية الليبي “عقوبات 1978-2006″، وإجراءات مكافحة الفساد ضد بلغاريا “2007-2009” وعقوبات الأمم المتحدة على الحرب الأهلية في ساحل العاج “2003-2016”. كما تعتبر العقوبات المفروضة على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في التسعينيات ناجحة أيضا.
المعهد تغاضى عن ملفات الفشل، الحصار على كوبا منذ 1962 لم ينجح في إسقاط النظام الشيوعي، في 11 سبتمبر سنة 1973 وبعد أشهر طويلة من الحصار الأمريكي ضد حكومة سلفادور أليندي اليسارية في سانتياغو حركت واشنطن وحسب وثائقها القوات المسلحة الشيلية لإسقاط النظام في عملية دامية. في سنة 1990 فرض الغرب حصارا شاملا على العراق استمر 13 سنة ولكنه لم ينجح في إسقاط النظام فلجأت واشنطن للغزو المباشر تحت غطاء أكاذيب.
لائحة الفشل في فرض الإملاءات الغربية تضم الفيتنام وكمبوديا وكوريا الشمالية وأفغانستان وإيران وسوريا والسودان وبورما وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها.
منذ المواجهة الروسية الأولى في أوكرانيا سنة 2014 وإعادة ضم شبه جزيرة القرم لروسيا ثم بعد المعركة الثانية التي انطلقت في 24 فبراير 2022 والعقوبات الغربية تتعاقب على موسكو وبعد 10 أشهر من انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كما يصفها الكرملين، يقر الغربيون أن فعالية العقوبات ستأتي بعد أشهر إن لم يكن سنوات كما يقول الساخرون. الواضح كما يقول الخبراء المحايدون هو أن موسكو عملت طوال ثمان سنوات لجعل العقوبات سلاحا غير فعال.
الأهم هو أن سيف العقوبات الغربية سواء ضد روسيا والصين وكوريا الشمالية أو غيرها ممن تعتبرهم خصومها فرض على تلك الدول ومثيلاتها إتباع سياسات وإن كانت في بعض الأحيان شاقة ومكلفة تضمن تحصين استقلالها الاقتصادي والسياسي وكذلك عودتها إلى مصافي الدول المتفوقة صناعيا وتقنيا واقتصاديا.
خلال فترة حكم يلتسين في الكرملين سقطت روسيا في فخ الخصصة وإهمال الصناعات الأساسية والتركيز على الإنتاج الاستهلاكي الكمالي، التحول جاء بعد ذهاب يلتسين ولكن القفزة الحقيقية بدأت مع سنة 2014.
وإذا كان هناك من يقول تعليقا على مثل هذا التحول، في البرامج الإخبارية شبه الرسمية في الغرب، إن الاعتراف بأوجه القصور يقترب من كونه محاولة لامتصاص غضب الشارع الروسي، فإن هناك ما يشير أيضا إلى اعتباره تراجعا صوب المراجعة الشاملة للواقع الراهن، بحثا عن “إستراتيجية مغايرة”، تقوم في معظم جوانبها على ضرورة الاعتماد على الذات، في دولة تمتلك عمليا ما يزيد على 30 في المئة من ثروات العالم الطبيعية، ومنها النفط والغاز والمعادن، بما فيها اليورانيوم، إلى جانب المياه العذبة والمنتجات الزراعية التي صارت تكفل لروسيا اليوم موقع الصدارة العالمية في مجال إنتاج الحبوب والغلال.
عام 2023
فيما شكلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا فرصة لمواصلة الضغط الأمريكي على الدب الروسي، وفي وقت شهد فيه العام أيضا ضغوطات أمريكية متزايدة على الصين في إطار الحرب التجارية الممتدة منذ 2018، فإن حرارة الصراع بين الولايات المتحدة ومنافسيها على الساحة الدولية من المرجح أن ترتفع، في ضوء تصاعد المخاوف المشتركة بشأن ما يمثله كل طرف من الأطراف من نفوذ.
ويتخذ الصراع أشكالا مختلفة بساحات مترامية الأطراف، إلى جانب الصراع الاقتصادي المباشر، كصراع النفوذ في مناطق مختلفة من العالم، من بينها إفريقيا على سبيل المثال، وجميعها عوامل تضع النظام العالمي على محك تغيرات تعتمل ربما أكثر من أي وقت مضى في ضوء التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، وتتصاعد معها حلقات الصراع في الفترات المقبلة.
الخبير والباحث الروسي في العلاقات الدولية تيمور دويدار، قال في حديث لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن الكرملين يعول على الشراكة مع الصين لخلق إدارة جديدة للعالم وتدشين نظام دولي تفاعلي جديد، ليس بمعنى معاداة ومواجهة العالم الغربي، ولكن من باب إحداث توازن وتكافؤ يكفل التأسيس لنظام عالمي عادل ومتعدد الأقطاب.
وتوقع دويدار توسيع منظمات وتجمعات قارية ودولية تضم البلدين مثل شنغهاي وبريكس، وهو ما قد يخلق مناخا لإعادة هيكلة مؤسسات الشرعية الدولية، وتعزيز التنافسية بين التكتلات العالمية ودرء خطر الأحادية القطبية والاستئثار بالقرار الدولي من قبل طرف واحد.
الخبير العسكري والاستراتيجي، مهند العزاوي، أوضح من جانبه، أنه رغم عدم تبلور تحالف استراتيجي أورو – آسيوي بشكل رسمي قطباه الصين وروسيا، إلا أن الحرب الأوكرانية أفرزت واقعا يدفع نحو تعزيز مثل هذا التحالف، وهو الآن في طور التقارب الاستراتيجي المتعاظم.
وأضاف العزاوي أنه على الصعيد الاقتصادي “يرتبط البلدان بطرق تجارة وتبادل برية آخذة في التطور والتوسع، فضلا عن الجسر الذي تم تدشينه بينهما، وفي هذا السياق، يسعيان للاستغناء عن الطرق البحرية، التي يتوقع خلال 5 إلى 10 سنوات أن تتحول لطرق وممرات غير آمنة ولميدان صراعات وحروب”.
وتابع أن التعاون بين بكين وموسكو متشعب ومتعدد الأوجه، اقتصاديا وعسكريا وثقافيا وأمنيا، وهو الآن على أعلى مستوى، خصوصا على صعيد التعاون والتبادل في مجالات الطاقة التقليدية والمتجددة والتكنولوجيات الحديثة، حتى أن الصين تكاد تصبح المشتري الأكبر للنفط والغاز الروسيين وبأسعار تفضيلية.
واستطرد أن البلدين عملاقان دوليان، وقربهما الجغرافي يفرض عليهما تكريس تعاونهما، خاصة لمواجهة النفوذ الأمريكي في جنوب وشرق آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وأشار إلى أن هذا التعاون في طور التحول لعلاقة إستراتيجية متينة، الأمر الذي يعززه ما يوصف بالتحرك الأمريكي في ملف تايوان وتقديم المساعدات العسكرية لها.
وبين أن الصين وروسيا تملكان ترسانة نووية وعقيدة قتالية شرقية متشابهة، فضلا عن أسلحة نوعية ومتطورة، لدرجة أنهما تتفوقان حتى على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة الفرط صوتية، وهذا ما يجعل من تحالفهما المرتقب قوة دولية ضاربة.
تشكيل العالم الجديد
جاء في كتاب “نتائج عكسية” للكاتبة أغاثا ديمارايس والذي نشرت فورين أفيرز الامريكية مقتطفات منه في 30 ديسمبر 2022: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد مصالح الولايات المتحدة”. توثق أغاثا ديمارايس الاعتماد المتزايد على العقوبات الاقتصادية والمالية، من قبل الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ردا على ما تعتبره انتهاكات الدول للمعايير الاقتصادية والسياسية والإقليمية ومعايير حقوق الإنسان التي وضعها الغرب ولكن التي يفرضون عليها تسمية المجتمع الدولي.
وتستدعي الكاتبة الدليل التاريخي لدعم تأكيدها بأن العقوبات لا تكون فعالة إلا إذا كانت ذات أغراض محدودة، وتحقق نتائج سريعة، وتستهدف دولة ضعيفة اقتصاديا، وإذا كانت هذه العقوبات منسقة جيدا دوليا – وهي ظروف نادرا ما يتم الحصول عليها من الناحية العملية.
وتسلط الباحثة الضوء على القيود والآثار الجانبية السلبية للعقوبات، والتي كان بعضها مألوفا من الأحداث الأخيرة. تجد البنوك والشركات صعوبة في الامتثال للعقوبات. كما يمكن للعقوبات أن تضر بالدول التي تفرضها، كما يتضح من ارتفاع أسعار الطاقة السائدة في الغرب. فالعقوبات الحالية قد تقوض فعالية العقوبات المستقبلية. وبالتالي، فإن استخدام البنوك والعملات الغربية كسلاح ضد روسيا قد يشجع موسكو وغيرها على زيادة اعتمادها على النظام المالي الصيني.
تفترض ديمارياس أن استخدام واشنطن العقوبات كأداة سياسية قد بلغ ذروته على الأرجح، على الرغم من أنها لا تصف الأدوات والحيل البديلة التي يجب على البلدان استخدامها بدلا من ذلك عند مواجهة حكومة مناهضة لأمريكا.
نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في 28 ديسمبر 2022 مقالا تحدث مطولا عن “نهاية عصر العقوبات، كيف قام أعداء الولايات المتحدة بحماية أنفسهم منها؟”، ويناقش “إفراط الولايات المتحدة في استخدام العقوبات”، ويشرح كيف أدى ذلك إلى فقدان هذا السلاح لقيمته وفعاليته على الصعيد الدولي، متوقعاً أن “الأيام الذهبية للعقوبات الأمريكية قد تنتهي قريبا”.
فمع اعتماد واشنطن بشكل متزايد على العقوبات، بدأ عدد من الدول المخالفة لسياساتها في تحصين اقتصادياتها ضد هذه الإجراءات، وقد ساهمت ثلاثة أحداث بالتحديد، وقعت خلال العقد الخير من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في إقناع هذه الدول بضرورة التصرف ضد أي عقوبات أمريكية محتملة.
يعدد الكاتب أجاث دماريز أبرز ثلاث محطات أثبتت أهمية وجود خطط لمواجهة عقوبات واشنطن، ففي عام 2012، قطعت الولايات المتحدة إيران عن نظام “سويفت” النقدي العالمي، في محاولة لعزل البلاد ماليا، وقد لاحظ أعداء الولايات المتحدة وخصومها الآخرون ذلك، متسائلين عما إذا كان دورهم سيأتي لاحقا.
وفي عام 2014، فرضت الدول الغربية عقوبات على روسيا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، ما دفع موسكو إلى جعل الاستقلال الاقتصادي أولوية.
وفي عام 2017، بدأت واشنطن حربا تجارية مع بكين، والتي سرعان ما امتدت إلى القطاع التكنولوجي، من خلال تقييد تصدير التكنولوجيا الأمريكية المرتبطة بصناعة وتطوير أشباه الموصلات إلى الصين، ما شكل تحذيرا لخصوم واشنطن من إمكانية حظر وصولهم إلى تقنيات التكنولوجيا المهمة.
وقد أدت هذه الحلقات الثلاث إلى ظهور ظاهرة جديدة، أطلقت عليها “فورين أفيرز” ظاهرة “مقاومة العقوبات”.
تنبع سلطة الولايات المتحدة في فرض عقوبات على الدول الأخرى من أولوية الدولار الأمريكي من جهة، ونطاق رقابة الولايات المتحدة على القنوات المالية العالمية من جهة أخرى.
ومن المنطقي إذا، أن يسعى أعداء الولايات المتحدة إلى ابتكارات مالية تقلل من مزايا عقوبات الولايات المتحدة إذا حصلت، وقد وجدت هذه البلدان، على نحو متزايد، الحل في اتفاقيات مبادلة العملات، وفي بدائل لـ SWIFT، وفي العملات الرقمية.
حالة احباط
في تقرير نشرته قناة الحرة الأمريكية يوم 5 يناير 2023 تظهر حالة الإحباط التي تنتشر في واشنطن بشأن تعثر سياسة العقوبات، التقرير الذي صدر تحت عنوان “ناد فظيع” للالتفاف على العقوبات يقول: بعد تعرضهما لعقوبات دولية، لجأت روسيا وإيران إلى بعضهما البعض وفرضتا عقوبات مماثلة على الدول المعادية، وحاولتا تطوير التجارة بطريقة يمكن أن تلتف على الإجراءات العقابية.
ويشير التقرير إلى أنه بعد عزلهما إلى حد كبير عن الأنظمة المصرفية الدولية، وأسواق التصدير، والموارد والتقنيات الأجنبية، عززا البلدان علاقاتهما التجارية الخاصة، مع بناء علاقات اقتصادية مع الدول المعادية لأمريكا والتي تصفها واشنطن “بالمبوذة” مثل كوريا الشمالية، وبيلاروس، وفنزويلا وميانمار “بورما” التي فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عليها عقوبات.
وفي حين أن مثل هذه الدول قد تكون مستعدة للتعامل في جهد مشترك لمواجهة الغرب، فإن المنافسات طويلة الأمد، والصعوبات اللوجستية، وتشابه المنتجات تحد بشكل كبير من فعالية أي نوع من الكتلة الخاضعة للعقوبات، وفق خبراء.
وقال بيتر بياتسكي، المسؤول السابق بوزارة الخزانة الأمريكية والذي يشغل الآن منصب الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات Castellum.AI إنه “ناد فظيع أن أكون فيه”.
ودخلت روسيا وإيران العام الجديد وهما أكثر دولتين تعرضتا للعقوبات الغربية في العالم، وأدت محاولات مساءلتهما عن أفعالهما في عام 2022 إلى تفاقم مشاكلهما.
وجذبت الدول الأخرى التي أظهرت تحديا الغرب انتباه موسكو وطهران للعمل معها.
وأبرمت بيلاروس اتفاقيات جديدة هذا العام مع موسكو وطهران عززت التجارة معهما، وكذلك فعلت فنزويلا، التي تخضع لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بإبرام اتفاقية تعاون مدتها 20 عاما مع طهران. كوريا الشمالية وسوريا وميانمار أيضا لعبت دورا دور في التجارة مع روسيا وإيران.
وتستخدم الدول الخاضعة للعقوبات، التي تواجه عقبات أمام الشحن الدولي والخدمات المالية، عددا من الأساليب المختلفة لإجراء التجارة فيما بينها.
بنيامين تساي، وهو ضابط استخبارات سابق بالحكومة الأمريكية وهو الآن مساعد كبير في شركة استخبارات المخاطر TD International قال: “يمكنها الدخول في عمليات مقايضة أو تجارة غير مقومة بالدولار الأمريكي… على سبيل المثال، زادت العقوبات الغربية من استخدام روسيا لليوان الصيني لإجراء معاملات تجارة ثنائية. وحاولت الكيانات الروسية أيضا التهرب من العقوبات باستخدام العملات المشفرة”.
ومنذ أن خضعت لعقوبات بسبب استيلائها على شبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين الموالين لها في شرق أوكرانيا في عام 2014، حاولت روسيا توسيع استخدام نظامها المصرفي الخاص لتحل محل نظام “سويفت”.
حلفاء امريكا يتحايلون
رغم رفض السياسيين في البيت الأبيض الاعتراف علنا بأن أساليبهم لفرض سياستهم على الآخرين تتعثر تكشف العديد من وسائل إعلامهم مدى تعثرهم. سلطت مجلة “إيكونوميست” في تقرير لها يوم 30 ديسمبر 2022 الضوء في تقرير لها على العراقيل التي تواجه الولايات المتحدة في محاولاتها لكبح جماح الصين في صناعة أشباه الموصلات هو أمر يدخل في نطاق صراع القوى الكبرى.
وأشارت المجلة إلى الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة ضد شركة هواوي الصينية، التي كان ينظر إليها باعتبارها وجها للتهديد التكنولوجي الصيني. ومن بين هذه الإجراءات حظر تصدير الرقائق الدقيقة الأساسية لصنع منتجاتها.
ورغم أن هذا القرار أثر سلبا على مبيعات الشركة، فقد شجع “المستثمرين من جميع أنحاء العالم” على سد الفجوة في سلاسل توريد أشباه الموصلات خارج نطاق القانون الأمريكي.
وبدأت الشركات اليابانية، من بين شركات أخرى، في تسويق منتجاتها للصين بطريقة تتفادى لوائح التصدير الأمريكية، وحتى الشركات الأمريكية ذاتها بدأت في البحث عن منطقة محايدة تمكنها من مواصلة التصدير للصين.
وفي غضون ذلك، ضاعفت الشركات الصينية، مدفوعة باستثمارات حكومية بمليارات الدولارات، جهودها لتطوير إصداراتها الخاصة من تكنولوجيا الرقائق التي استوردتها من الولايات المتحدة، “وبدا الأمر كما لو أن الحكومة الأمريكية تفقد سيطرتها بثبات على سلسلة توريد الرقائق”، مما دفع إدارة الرئيس جو بايدن إلى اتخاذ خطوات لإقناع الحلفاء بتبني سياسة متشددة ضد الصين.
ومنذ أن تولى بايدن منصبه في يناير 2021، أثار مسؤولو إدارته مسألة ضبط سوق الرقائق كلما تحدثوا إلى حلفاء أجانب.
وذكر عضو في جماعة ضغط بواشنطن إنه خلال 25 عاما لم ير أبدا تصدر مسألة أشباه الموصلات لجدول الأعمال الدبلوماسي مثلما يحدث الآن.
ومن ضمن جهود كبح جماح الصين، أنشأت الحكومات والشركات الغربية منتديات خاصة لموائمة السياسات مع تجارة الرقائق والمعدات والمواد المستخدمة في صنعها.
وتمثل المنتديات الجديدة “الخطوات الأولى نحو التحكم في تصدير أشباه الموصلات، على أمل الاحتفاظ بالتفوق التكنولوجي على الصين”.
ويشير التقرير إلى أن المنتدى الأكثر رسمية هو مجلس التجارة والتكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي، الذي نص بيان مشترك بعد الاجتماع الأول له في بيتسبرغ في سبتمبر 2022 عن نيته التعاون في “إعادة التوازن” لسلاسل توريد الرقائق العالمية.
ويشير نص “قانون أمريكا تنافس” الذي تجري مناقشته في مجلس النواب إلى منح 52 مليار دولار لتنشيط صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
وتستعد المفوضية الأوروبية للكشف عن خطتها لزيادة الإنتاج الأوروبي للرقائق الإلكترونية بأربعة أضعاف بحلول عام 2030، “وهي مبادرة رئيسية لصناعتنا وحاسمة من وجهة نظر جيوسياسية”، وفقا لمفوض السوق الداخلية، تيري بريتون.
لكن دبلوماسية الرقائق العالمية “لا تزال ضعيفة”، وتعتقد واشنطن أن قدرتها على الرد بسرعة على التهديد الصيني سوف يتم وقفها، والعقبة، وفق مسؤول تجارة سابق في فريق الرئيس الأسبق، باراك أوباما، هي أنه كلما أرادت واشنطن الرد بقوة على الصين، كان من الصعب إقناع حلفائها الغربيين والآسيويين بالمشاركة.
ويشير التقرير إلى عدم اتخاذ الأوروبيين نهجا متشددا تجاه الصين، كما أنه يمكن توجيه الاستثمار إلى أماكن بعيدة عن متناول الولايات المتحدة وتناسب صانعي الرقائق الصينيين.
وفي ظل هذا الوضع، أصبحت الولايات المتحدة “عالقة بين اختيار مجموعة من الضوابط أكثر ليونة قد تعمل بشكل أفضل على المدى الطويل، أو خيارات أكثر صرامة قد تضر بالتكنولوجيا الصينية على المدى القصير لكنها قد تضر بالصناعة الأمريكية بشكل عام. والأسوأ من ذلك أنه قد يفسد احتمال انتعاش تجارة الرقائق الأمريكية الصينية في حالة استئناف العلاقات الأفضل بينهما يوما ما”.
التأمين البحري.. سلاح
جاء في تقرير نشر يوم 3 يناير 2023 على موقع ناشينال انترست الامريكية أن فرض حظر مشروط على السفن النفطية الغربية والوصول إلى شركات التأمين على تسعير الشحنات النفطية الروسية المفروض من قبل دول G7 يعتبر العمود الفقري لهذا السقف، وفقا لمقال الباحث كريستوفر فاسالو على موقع ناشينال انترست.
ويحظر على الشركات داخل الاتحاد الأوروبي ومجموعة G7 توفير التأمين لموردي الخام الروسي المباع فوق الحد الأقصى للسعر بعتبة 60 دولارا، ويقول الكاتب إن إثبات جدوى حظر التأمين كأداة وآلية للعقوبات هو أكثر أهمية لمستقبل الحكم الجيواقتصادي من سقف الأسعار نفسه.
وحتى الآن، أثبت حظر التأمين أنه وسيلة فعالة لفرض الامتثال للحد الأقصى، مما أدى إلى تثبيت فرق السعر بين خام الأورال السيبيري الروسي وخام برنت بحر الشمال، المعيار العالمي.
وتسيطر الشركات في دول G7 على 90 في المائة من التأمين البحري ولا يزال مالكو السفن الصينيون، الذين يستوردون حصة مرتفعة من الخام الروسي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يعتمدون على شركات التأمين الغربية لحماية سفنهم.
وفي حين أن سقف الأسعار سيساعد الصين على تأمين النفط الروسي بأسعار مواتية على المدى القصير، فإن احتمال فرض حظر تأمين غربي، موجه إلى الصين بدلا من روسيا في مواجهة مستقبلية بشأن تايوان، من المرجح أن يزعج بكين.
ويقول فاسالو: “يبدو أن بعض التحركات التي اتخذتها بكين هذا العام تهدف فعليا إلى الحد من تعرض الصين لخطر حظر شركات التأمين الغربية”.
الحظر المفروض على توفير التأمين له تاريخ طويل. وخلال الحرب الإسبانية في القرن الثامن عشر، كانت بريطانيا قوة بحرية مهيمنة وأيضا مالكة شركة التأمين البحري الأولى في العالم.
لكن وضع بريطانيا هذا أدى في بعض الأحيان إلى نتائج ضارة، حيث وجدت شركات التأمين البريطانية نفسها تغطي الأضرار التي ألحقتها الفرقاطات البريطانية بسفن العدو.
بعد الحرب، بدأ صانعو السياسة البريطانيون يتساءلون عما إذا كان بإمكانهم منع الشركات في لندن من تأمين البضائع التجارية للعدو وبالتالي الجمع بين قوتهم البحرية وصناعة التأمين القوية.
وفي حين حذر المعارضون من أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تعرض مكانة لندن كشركة تأمين رائدة في العالم للخطر، سرعان ما أصبح من الواضح أنه لا يمكن لأي مزود أجنبي أن يضاهي الموثوقية والسمعة الصادقة والمعدلات المنخفضة للشركات البريطانية.
وصمم صانعو السياسة البريطانيون قيودا على التأمين استهدفت التجارة الفرنسية والأمريكية في الحروب المستقبلية.
وفي حرب عام 1812، على سبيل المثال، كان الحظر فعالا لدرجة أن تكاليف التأمين تجاوزت 80 في المائة من قيمة الشحنة نفسها.
وسمح توحيد القوة البحرية والقوة المالية لبريطانيا بفرض حصار استراتيجي بثمن بخس.
ويقول الكاتب إن حظر التأمين يمكن أن يساعد عمليا في فرض حصار كامل على السلع الاستراتيجية في أوقات الأزمات.
وينضم “سلاح التأمين” إلى مجموعة من العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي يجب أن تكون بكين مستعدة لتجنبها في حالة المواجهة بشأن تايوان، وفقا للكاتب الذي يضيف أنه لطالما شعرت بكين بالقلق من قدرة البحرية الأمريكية على فرض حصار على الواردات المنقولة بحرا في مضيق ملقا “بما في ذلك 80 في المائة من النفط الصيني المستورد”.
ويذكر إنه يجب على بكين الآن أن تفترض استعداد G7 لزيادة الحصار المستقبلي بقيود مالية مثل حظر التأمين.
ومع ذلك، مثل العديد من العقوبات الأمريكية، بدأت الإجراءات المضادة الصينية في تخفيف قوة سلاح التأمين في المستقبل.
واتخذت بكين خطوتين هذا العام لتأمين شحنات القمح والطاقة الروسية المنقولة بحرا، هما البحث عن تأمين بديل غير تابع لمجموعة السبع والحصول على أسطول أكبر من الناقلات.
وفي حين أن هاتين المناورات مفيدة للتهرب من متطلبات الإبلاغ المرتبطة بالعقوبات التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا فإنهما تعملان أيضا على دعم دفاعات بكين بشكل استباقي ضد سلاح التأمين.
وإذا كان سلاح التأمين موجها إلى الصين، فسيتعين على بكين تركيز مخاطر شحن النفط في شركات إعادة التأمين الأصغر غير الغربية، والتي يوجد منها عدد قليل من الحجم المناسب. وتوجد ثلاث شركات فقط من أكبر عشرين شركة إعادة تأمين في العالم خارج دول G7.
وتمثل شركة “تشاينا ري”، أكبر شركة لإعادة التأمين من خارج مجموعة G7، حوالي خمس حجم شركة “ميونيخ ري”، الأكبر في العالم.
كما سرعت بكين سعيها منذ فترة طويلة لأسطول ناقلات محلي يمكن للمخططين الصينيين التحكم في حركته وحمولته.
وفي الآونة الأخيرة، نشرت الشركات الصينية تكتيكات غامضة لزيادة حجم هذا الأسطول.
وفي أغسطس 2022، ذكرت لويدز ليست، وهي مجلة صناعية، أن أحد مالكي السفن الصينيين المجهولين أنفق 376 مليون دولار لشراء ناقلات لا تحمل علامات، والتي استخدمت منذ ذلك الحين لإخفاء الأصول الحقيقية للبضائع الخاضعة للعقوبات عبر “عمليات النقل من سفينة إلى سفينة” في وسط المحيط الأطلسي. ومن خلال دمج البضائع الروسية بهذه الطريقة، تمكنت السفن الصينية من تأمين التأمين والخدمات البحرية الأخرى دون التعرض للعقوبات.
وتقول لويدز أن هذه الممارسة يمكن أن تتوسع إلى 480 ناقلة.
حلم قوة صناعية عظمى
العالم يتبدل الإمبراطوريات لا تدوم ومن يسير عكس التيار يتلاشى. نشرت مجلة فورين أفيرز يوم 5 يناير 2023 تحليلا يلقي الضوء على أهمية عودة الولايات المتحدة لتصبح “قوة صناعية عظمى مرة أخرى”، خاصة وأنها لم تعد “ورشة العمل العالمية” منذ 1998، بعد أن أصبحت تعتمد بشكل أكبر على استيراد البضائع من الخارج.
ويوضح التحليل أن الإدارة الأمريكية الحالية اتخذت “خطوات هامة في تشجع عودة الوظائف من الخارج للولايات المتحدة، ودعم المصانع الأمريكية، والسعي لحرمان الصين من الوصول إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات”، ولكن هذه الجهود بحاجة إلى “تعزيز الأجندة باستراتيجيات محددة.. لتنشيط الأجزاء المتعثرة من البلاد، وتقوية الشراكات بين القطاعين العام والخاص”.
وأكد على أهمية “تبني روح وطنية اقتصادية تدعو إلى زيادة الإنتاج المحلي، وإعادة الوظائف، وتعزيز الصادرات”، من خلال التركيز على “إحياء الصناعات المهمة، والحفاظ على العلاقات التجارية الرئيسية، وتشجيع الديناميكية والابتكار”.
وفي ستبمبر 2022، أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خلال افتتاحه موقع مصنع لأشباه الموصلات في ولاية أوهايو أن تصنيع هذه المكونات الإلكترونية هو مسألة “أمن قومي” لا سيما في مواجهة الطموحات الصينية.
وذكر بايدن في الموقع الذي تنوي فيه شركة إنتل استثمار مبلغ ضخم قدره 20 مليار دولار “كل هذا في مصلحة اقتصادنا، كما أنه من مصلحة أمننا القومي”، بحسب تقرير نشرته وكالة فرانس برس.
وخلال ما يتجاوز العقدين الماضيين كلف العجز التجاري الأمريكي المتزايد الولايات المتحدة ما يزيد عن خمسة ملايين وظيفة صناعية ذات رواتب جيدة، ناهيك عن إغلاق ما يقرب من 70 ألف مصنع، حيث أصبحت المدن الصناعية خاوية بعد التخلي عنها، ولتتركز الثروات في المدن الساحلية.
ويشير التحليل إلى أن خسارة الولايات المتحدة بسبب تراجع الصناعات لم يؤثر على الاقتصاد فقط، بل أضر بـ”الديمقراطية الأمريكية أيضا”، فيما لعبت بكين “دورا هاما” في التأثير على تراجع الصناعات الأمريكية.
وبعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، ارتفع العجز التجاري الأمريكي لنحو 309 مليارات دولار، وذلك بعدما قوضت بكين الصناعة الأمريكية باستخدام “عمالة مستغلة” وتقديم “مساعدات حكومية للشركات الصينية”، وهو ما دفع بانتقال عدد من الصناعات من المدن الأمريكية إلى المكسيك، ما تسبب في تصاعد الكراهية تجاه المهاجرين خاصة ضد القادمين من آسيا، ناهيك عن تعزيزه للتوجهات “اليمينية والتطرف والعنف” في الداخل الأمريكي.
ويشرح التحليل أن “الضرورات الاقتصادية” تجاه الصين، يجب أن تدفع للازدهار داخل الولايات المتحدة، إذ يجب على صانعي السياسة الأمريكيين تحديد أهداف سنوية لتقليل العجز التجاري مع الصين، ووضع إجراءات للحد من تأثير المساعدات الحكومية التي تقدمها الصين لشركاتها.
وأقر الكونغرس خلال عام 2022 تشريعا يسمح بتخصيص 52 مليار دولار من الإعانات لإحياء إنتاج أشباه الموصلات، وأشار بايدن إلى أن هذا الإجراء يأتي في إطار التنافس الكبير بين الصين والولايات المتحدة.
وذكر بايدن في أكتوبر 2022 “لا عجب… أن الحزب الشيوعي الصيني حاول بقوة حشد مجتمع الأعمال الأمريكي ضد هذا القانون”.
وأكد أن الولايات المتحدة ستحتاج إلى مكونات إلكترونية متقدمة “لأنظمة أسلحة المستقبل التي ستعتمد بشكل متزايد على الرقائق الإلكترونية”، مضيفا “للأسف، نحن لا ننتج حاليا أيا من أشباه الموصلات المتطورة هذه في أمريكا”.
الأسهم الأمريكية في خطر
قالت جورجيفا المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي إن الاقتصاد الأمريكي يقف على مسافة أبعد وقد يتجنب الانكماش المطلق الذي من المحتمل أن يصيب ما يصل إلى ثلث اقتصاديات العالم.
وأضافت “الولايات المتحدة هي الأكثر متانة، وربما تتجنب الركود. نرى أن سوق العمل “هناك” لا تزال قوية جدا”.
لكن هذه الحقيقة في حد ذاتها تمثل خطرا لأنها ربما تعرقل التقدم الذي يحتاج مجلس الاحتياطي الاتحادي لإحرازه في إعادة التضخم في الولايات المتحدة إلى مستواه المستهدف من أعلى مستوياته في أربعة عقود والتي لامسها عام 2022. وأظهر التضخم مؤشرات على تخطي ذروته مع نهاية عام 2022، ولكن وفقا للإجراء المفضل للبنك المركزي، فإنه لا يزال عند ما يقرب من ثلاثة أمثال هدفه البالغ اثنين بالمئة.
وقالت جورجيفا “هذه… نعمة مختلطة لأنه إذا كانت سوق العمل قوية جدا، فقد يضطر البنك المركزي الأمريكي إلى إبقاء أسعار الفائدة أعلى لفترة أطول من أجل خفض التضخم”.
وفي أكبر تشديد للسياسة النقدية منذ أوائل الثمانينيات، رفع المركزي الأمريكي عام 2022 سعر الفائدة القياسي من ما يقرب من الصفر في مارس إلى النطاق الحالي بين 4.25 بالمئة و4.50 بالمئة، وتوقع مسؤولو البنك في ديسمبر 2022 أنه سيتجاوز حاجز الخمسة بالمئة في عام 2023، وهو مستوى لم يصل إليه منذ عام 2007.
وستكون سوق العمل في الولايات المتحدة في الواقع محور تركيز لمسؤولي البنك المركزي الأمريكي الذين يرغبون في رؤية الطلب على العمالة يتباطأ للمساعدة في تقليل ضغوط الأسعار.
نهاية عهد وبداية آخر هذا حكم التاريخ والتطور البشري.