[بقلم د. بسمة قضماني]
لقد ذكر يوماً مسؤول روسي أمام مجموعة من السوريين المعارضين أن سورية بحاجة الى دستور جديد ومجلس عسكري وقد يظهر من داخل هذا المجلس شخصية تصلح أن تكون البديل عن بشار الأسد. طبعاً لم يروق للمعارضين السياسيين كلامٌ بدى ناتجاً عن رؤية عسكرية محضة لا اعتبار لدور السياسيين فيها. لم يكن المسؤول الروسي على استعداد لشرح فكرته بشكل أكثر تفصيلاً وذلك لأنها لم تكن تحظى على الأغلب بتوافق داخل أروقة السلطة في موسكو. أما اليوم فلا توجد لدينا مؤشرات حول الموقف الروسي الحالي من هذه الفكرة.
أذكر أنه عند بدء المفاوضات في جينيف عام ٢٠١٦ إقترح المبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي مستورا هيكلة المفاوضات على أربع محاور. لم يكن هذا الطرح يهدف الى إعطاء مجال للأطراف كي تختار أحد ههذه المسارات وتتجاهل المسارات الأخرى بل لأنه اعتبر أن هذه المسارات الأربع تعكس الوضع السوري المعقد وأن العملية السياسية تحتاج الى مناقشة هذه الأوجه الأربع. في الواقع كان السيد دي مستورا قد اقترح في البداية ثلاث محاور، تم وصفها بالسلل نقلاً عن هيكلية ماسمي بالمؤتمر حول الأمن والتعاون في أوروبا في منتصف سبعينات القرن الماضي وكان عبارة عن حوار معمّق بين قادة أوروبا الشرقية والغربية. كان الحوار مقسم الى ثلاث سلل وأدى الى بناء الثقة وعودة اللحمة بين دول القارة الأوروبية المنقسمة أديولوجياً بين الرأسمالية والشيوعية.
حدد دي مستورا مضمون السلل الثلاث لتعالج السلة الأولى هيئة الحكم النتقالي والثانية الدستور والثالثة الانتخابات. بعد أن طرح هذا التصور واجه إصراراً من قبل وفد النظام من أجل إضافة محور رابع مخصص لمكافحة الإرهاب. لم يخفى على أحد أن النظام كان يسعى إلى اختزال العملية التفاوضية بأكملها بقضية مكافحة الإرهاب ونسفها برمتها بوصف أطفال درعا ودوما ونساء إدلب وشباب داريا وجميع أطراف المعارضة بما فيهم وفد هيئة التفاوض على أنهم ارهابيين، إلا أن المبعوث الخاص حوّل اقتراح النظام الى محور أطلق عليه مسمى حوكمة الأمن ومكافحة الإرهاب آملاً بإقناع هيئة التفاوض به. تمنّعت الهيئة في البداية وحاولت أن تقاوم إحداث هذه السلة الرابعة وشددت على أولوية سلة الانتقال السياسي ثم قبلت على مضض بالسلة الرابعة طبقاً لتعريفها بالمسمى الذي اقترحه المبعوث الخاص وهكذا تم تحديد المحاور التفاوضية الأربع.
لا داعي للتذكير بأن العملية السياسية لم تنطلق يوماً وبقيت السلال الأربع مشلولة الى أن تم فتح مسار التفاوض على الدستور بعد أكثر من سنتين على اطلاق مسار جينيف وقبل النظام أن يجلس وفده مع وفد المعارضة في قاعة واحدة ويدخل في نقاش ولو بقي شكلي وعقيم الى هذا اليوم.
أما قبل تشكيل اللجنة الدستورية فلم يكن هناك أي لقاء مباشر بين وفدي النظام والمعارضة في جينيف رغم كل جهود المبعوث الخاص وذلك بسبب رفض النظام مجرد القبول بهيئة التفاوض كندّ له إلا أن دي مستورا كان يجري جلسات مع المعارضة ثم مع وفد النظام حول كل من السلل الأربع كي تبقى العملية التفاوضية حيّة وكي لا يشكل رفض النظام للتفاوض نوع من الفيتو على العملية السياسية. كان دي مستورا ومستشاريه يأتون الى هذه الجلسات ويقدموا خبراتهم وتجارب دول أخرى والخيارات الممكنة في الحالة السورية فكان محور الأمن ومكافحة الإرهاب غنياً جداً طُرحت فيه كيفية معالجة التحديات الأمنية ومعايير وآليات إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية بما في ذلك القوانين التي تنظم عملها وتضبط ممارساتها.
بغض النظرعن سلوك النظام أو موقف المعارضة من هذه السلّة فإن محور الأمن بما في ذلك محاربة الإرهاب كان ولا يزال يشكل برأيي محور بمنتهى الأهمية بل يكاد يكون أهم محور من بين المحاورالأربع وذلك لعدة أسباب، أولهم أن أي اتفاق حول هيئة الحكم الانتقالي أو الدستور أو الانتخابات لن يكن قابلاً للتطبيق أساساً ما لم يتم ضبط الأمن وضمان حد أدنى من الاستقرار. وخير مثال على ذلك ما جرى في ليبيا عام ٢٠١٢ حيث أجريت انتخابات بمستوى معقول من الشفافية واعترف الليبيون بشرعية الحكومة المنتخبة إلا أنه تم خطف هذه الحكومة برئيسها علي زيدان وكافة أعضائها بعد أيام من بدء أعمالها من قبل مجموعات مسلحة وهكذا تم تدمير عملية الانتقال السياسي تلاها عقد من الفوضى الأمنية والسياسية سمحت بشتى أشكال التدخّل الخارجي وأدت الى فتح شهية الدول للاستيلاء على موارد البلاد ومرافئها واستغلال موقعها الاستراتيجي ولم يستطع الليبيون أن يتمتعوا يوماً بحد أدنى من الاستقرار.
خلال العقد الأخير من المآسي المتواصلة في سورية أتيحت لنا الفرصة نحن السوريون لنراقب دول أخرى ونستفيد من تجاربها ورغم تطلعاتنا الى إرثاء ثقافة مدنية وبناء مؤسسات حكم شرعية ناتجة عن انتخابات نزيهة لا بد أن نقرّ بأن السلطة المدنية السياسية قد تبقى سلطة صورية ما لم يتم ضبط الأمن على كامل التراب الوطني من خلال مكافحة التطرّف وضبط السلاح ومواجهة شبكات الاجرام وإنهاء اقتصاد الحرب والقائمين عليه.
وبناءً عليه كان يتوجب علينا نحن المفاوضين في المعارضة ليس القبول بسلّة حوكمة الأمن ومكافحة الإرهاب فحسب بل أن نتلقّف هذا المطلب للنظام ونصرّ على إطلاق العمل على هذا المحور ونسعى الى جرّ النظام للخوض في مناقشته ونستعين بالأمم المتحدة والدول الراعية لنضع خارطة طريق أمنية عسكرية من أجل معالجة كافة الأوجه العسكرية والأمنية للنزاع، وفي هذا الإطار كانت ستظهر حتماً من تلقاء نفسها أهمية تشكيل مجلس عسكري-أمني للقيام بهذه المهام.
ولكن وبعد خمسة أعوام من جمود العملية السياسية نتيجة غياب أي جدية من قبل النظام، توصول المعارضة الى قناعة بأنها تفتقد لشريك لتتفاوض معه ، ظهرت فكرة انشاء المجلس العسكري في ظل هذا الفراغ السياسي والدبلوماسي فأثار اهتمام السوريين ومخاوفهم في آن واحد.
إن المجلس العسكري من شأنه أن يطمئن السوريين المترددين أمام مجرد فكرة التغيير لأنهم يخشون المجهول وكذلك دول الجوار التي تتذرع في أغلب الأحيان بضرورة حماية أمنها القومي كي تتدخل عسكرياً وأمنياً في سورية، والدول الكبرى وخاصة الدول الأوروبية التي اكتشفت خلال السنوات العشر الماضية مدى قرب سورية منها وأهمية حل النزاع فيها بالنسبة لأمنها واستقرارها. لقد بات جلياً أن المجتمع الدولي بما في ذلك الدول الديمقراطية أصبح يرى في سورية قضية أمنية أولاً وحينما تتحدث الدول عن البديل لنظام الأسد باتت تقصد في المرتبة الأولى دولة آمنة ثم تأتي حقوق مواطنيها وحرياتهم في المرتبة الثانية. لا بد أن نعي هذا الواقع حتى إذا كان لا يروق لنا، ونعمل على تشكيل البديل عن نظام الأسد من خلال طرح تصوّر واقعي لحل التحديات الأمنية من شأنه أن يطمئن كافة أطراف الشعب السوري والدول المعنية بقضيتنا.
السوريون يتوجسون من فكرة مجلس يقوده العسكروحدهم ويكونوا هؤلاء في موقع يسمح لهم أن يهيمنوا منه على الحياة المدنية ويختظفوا الحقل السياسي كما هو الوضع منذ أكثر من خمسة عقود لكن الخطر الأكبر في هذه المرحلة الحساسة والحاسمة من تاريخ سورية قد ينتج عن محاولات الدول الى التدخل لشراء ولاءات العسكر وممارسة ضغوطات عليهم وتوظيف عمل المجلس العسكري لخدمة مصالحها وصراعاتها. فلا بد للمجلس العسكري أن يتضمن سياسيين يكون دورهم الأساسي هو التفاوض مع الدول حول شتى الأمور العملية ، منها إخراج القوى المحتلة والميليشسات لتخفيف الحاجة الى مواجهتها عسكرياً وكذلك من أجل تأمين المساعدات من جهات مانحة لا تملي شروط سياسية على العسكر مقابل دعمها، فالعسكر سيحتاجون في بعض الأحيان الى دعم في المجال الاقتصادي على سبيل المثال في منطقة معينة أو مع فئة معينة من الشعب لضمان نجاح عملهم لأن الأمور متداخلة وإعادة الأمن يتطلب أحياناً أدوات أخرى بالإضافة الى الأدوات العسكرية. هنا تكمن أهمية وجود سياسيين الى جانب ضباط من الجيش والأمن.
إن الضباط الواعين نفسهم يرون ضرورة وجود سياسيين معهم ليشكلوا غطاءً سياسياً يحميهم من هذه التدخلات ويفسح لهم المجال للعمل باستقلالية على إعداد خارطة طريق أمنية ثم الى تطبيقها حسب المصلحة الوطنية السورية وليس مصالح هذه الدولة أو تلك. أما السياسيون المشاركون فسيكونوا في موقع قوة أمام جميع الأطراف الداخلية والخارجية مجرد أنهم مدعومين بالقدرات العسكرية للمجلس.
إن عملية التغيير في سورية ستنطلق من الواقع الحالي المفعم بالمخاطر ذات الطابع الأمني، شئنا أم أبينا، وإن كنا نحلم بتغيير ثوري عميق يقتلع ركائز الأمنقراطية السائدة من جذورها، ذلك لأن عملية الاقتلاع هذه ستسبب دمار وأضرار ومخاطر إضافية على المجتمع بكل أطيافه لا أحد يستطيع تنبؤها بشكل مفصل لكننا نعي جميعاً كم هي شاقة.
لن يعيد الى سورية سيادتها إلا مجلس مشكّل من ضباط أمن وجيش ومعهم عدد من الشخصيات السياسية يجمعهم حرصهم على استعادة القرار السوري المستقل وتكون مهمته إعادة الأمن الى كامل التراب الوطني وإنشاء البيئة المؤاتية للتغيير السياسي نحو ديمقراطية آمنة لكل السوريين.
شكرا دكتورة بسمة على التحليل السياسي الرزين
واتفق معك في التحليل. واضيف ان يسمى هذا المجلس بالمجلس الانتقالي ويضم نخب عسكرية وسياسية ومدنية وكفاءات اقتصادية وعلمية. على ان يكون رئيسه عسكريا بالفعل لكي يضبط الأمن والأمان
[…] أدناه رابط المقالة http://sy-alaml.com/%d9%87%d9%84-%d8%aa%d8%ad%d8%aa%d8%a7%d8%ac-%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%… […]
مقال بمنتهى الموضوعية مدعم بالشواهد والأدلة وبسرد يستند لخبرة تفاوض امتدت لسبع سنوات … ما تفضلت به السيدة بسمة هي ضرورة أفرزتها عثرات لاحقت كل الخيارات العسكرية والسياسية الأخرى التي أضاعت سنوات وزادت المأساة السورية سنوات من القتل والدمار والتشرد, وبرز الفشل على كافة المسارات إضافة لحقيقة قلناها سابقاً وأكدتها اليوم د.بسمة بقولها أن أي حل ومهما تكن طبيعته يحتاج لقوة أمنية وعسكرية لتفرض تطبيقه عدا عن مهمة حتمية ومتلازمة أخرى وهي أجبار أو إخراج الرافضين للحلول السياسية من ميليشيات وتنظيمات وحتى دول وكل ذلك يفرض ضرورة تشكيل المجلس العسكري الذي يعمل تحت كنف السياسيين وبالتنسيق معهم … شكراً دكتورة بسمة
مقال بمنتهى الموضوعية مدعم بالشواهد والأدلة وبسرد يستند لخبرة تفاوض امتدت لسبع سنوات … ما تفضلت به السيدة بسمة هي ضرورة أفرزتها عثرات لاحقت كل الخيارات العسكرية والسياسية الأخرى التي أضاعت سنوات وزادت المأساة السورية سنوات من القتل والدمار والتشرد, وبرز الفشل على كافة المسارات إضافة لحقيقة قلناها سابقاً وأكدتها اليوم د.بسمة بقولها أن أي حل ومهما تكن طبيعته يحتاج لقوة أمنية وعسكرية لتفرض تطبيقه عدا عن مهمة حتمية ومتلازمة أخرى وهي أجبار أو إخراج الرافضين للحلول السياسية من ميليشيات وتنظيمات وحتى دول وكل ذلك يفرض ضرورة تشكيل المجلس العسكري الذي يعمل تحت كنف السياسيين وبالتنسيق معهم … شكراً دكتورة بسمة
مقال بمنتهى الموضوعية مدعم بالشواهد والأدلة وبسرد يستند لخبرة تفاوض امتدت لسبع سنوات … ما تفضلت به السيدة بسمة هي ضرورة أفرزتها عثرات لاحقت كل الخيارات العسكرية والسياسية الأخرى التي أضاعت سنوات وزادت المأساة السورية سنوات من القتل والدمار والتشرد, وبرز الفشل على كافة المسارات إضافة لحقيقة قلناها سابقاً وأكدتها اليوم د.بسمة بقولها أن أي حل ومهما تكن طبيعته يحتاج لقوة أمنية وعسكرية لتفرض تطبيقه عدا عن مهمة حتمية ومتلازمة أخرى وهي أجبار أو إخراج الرافضين للحلول السياسية من ميليشيات وتنظيمات وحتى دول وكل ذلك يفرض ضرورة تشكيل المجلس العسكري الذي يعمل تحت كنف السياسيين وبالتنسيق معهم … شكراً دكتورة بسمة
تشكيل مثل هذا المجلس العسكري هو من مهمات
هيئة الحكم الانتقالي إذا رأت لذلك ضرورة
والأحداث تؤكد أهمية مثل هذا المجلس العسكري …
وربما تكون على رأس مهامه ..
تحيي اليوم فكرة المجلس العسكري آمالاً بإزالة حقبة الاسد وعودة الصيرورة الى الانفتاح مجدداً، وربما الانفكاك من قانون قيصر العقوبات الغربية والانفتاح على عودة الاعمار بعد وقف الحرب. وتلقى الفكرة مشروعيتها برغم المخاوف من سيطرة العسكر التي أدمت السوريّين عقوداً من الزمن، ولكن اذا ما ضُبط اداء هذا المجلس بضوابط قانونيّة وسياسيّة وتحديد سقوف لمدة حكمه وتحضيره لعودة الحياة المدنية والانتخابات مع ضمان تحييد العسكر عن السياسة والارتقاء بالمؤسسة العسكرية الى تمثل دورها في المجتمعات الديمقراطية كحامٍ للدستور وحدود البلاد وضمانة لحيادية الدولة وتمنع تغوّل واستبداد اي طرف سياسي أو النكوص الى دول اديولوجية اقصائية خارج الممارسات الديمقراطية المعاصرة.
على مروجي هذا المشروع تقديم وثيقة وضمانة صريحة يتعهدون فيها أمام الشعب والعالم، بأنهم لن يتدخلوا في الشأن السياسي، وسيكتفوا بدورهم الوظيفي الانتقالي دون الترشح الى المناصب السياسية القادمة وأن لا يعودوا كسلطة عسكرية بديلة عن السلطة المدنية والسياسية المنتخبة وفق انتخابات مراقبة ونزيهة وربما بضمانة حازمة من مجلس الأمن والدول الكبرى.
ملحوظة لغوية:
السطر ٢: لم يروق= لم يرُق. الفعل مجزوم ب لم.
السطر ٣: كلامٌ بدى ناتجاً= بدا، بحرف الألف.
السطر ٧: أربع محاور= أربعة محاور. من ٣ إلى ٩ يخالف المعدود.
السطر ٩: الأوجه الأربع= الوجوه الأربعة، جمع وجه: وجوه.
السطر ٩: ثلاث محاور= ثلاثة محاور.
السطر ١١: حوار مُعمّق=حوار عميق. ثلاث سِلل= ثلاث سلّات أو سِلال.
السطر ١٤: لم يخفى=لم يخْفَ. الفعل مجزوم و يستوجب حذف حرف العِلّة من آخره.
السطر ٢٠: المحاور التفاوضية الأربع=المحاور التفاوضية الأربعة. من ٣إلى٩ يخالف المعدود في التذكير و التأنيث.
السطر ٣٣: لن يكن قابلاً=لن يكون قابلاً.
السطر ٤٠: إرثاء ثقافة مدنية=إرساء ثقافة مدنية. من الرسو للسفن و غيرها في الموانئ.
السطر ٤٥: كافة الأوجه=كافة الوجوه.
السطر ٦٩: إن الضباط الواعين نفسهم= أنفسهم، لأنها جمع.
السطر ٧٤: أضرار و مخاطر=أضرارً و مخاطراً. لأنها منصوبة.
مع فائق الاحترام والتقدير للأستاذة قضماني.