[بقلم د. محمود الحمزة]
منذ أن استولى حزب البعث بانقلاب عسكري على الحكم في سورية عام 1963 دخلت سورية في دوامة من الأحكام التعسفية بسبب قانون حالة الطوارئ وغياب القانون، ما أدى لانتهاك حقوق السوريين بشكل مستمر لخمسين عاما.
وكان الصراع على السلطة في دمشق هو الشغل الشاغل لقيادة البعث السياسية والعسكرية، وهناك وثائق تاريخية تثبت بأن أول يوم من العدوان الصهيوني على مصر في 5 حزيران 1967 وخسارة الجيش المصري، لم يدعمه الجيش السوري، علما ان القيادة السورية هي التي حرضت عبد الناصر على خوض الحرب بحجة ان هناك حشودا إسرائيلية على الجبهة السورية. والسبب في تأخر الجيش السوري بدخول المعارك ضد الجيش الصهيوني المعتدي هو أن أولوية القادة في دمشق كان الحفاظ على السلطة. وكان حافظ الأسد وزيرا للدفاع حينها وسقطت الجولان بصفقة بينه وبين إسرائيل، وهذا أيضا موثق تاريخيا.
سورية التي كانت مرشحة لأن تصبح إحدى أكثر بلدان المشرق تقدما وحداثة، ابتلت بحكم البعث 1963 وعائلة الأسد لاحقا عام 1970 لتتحول الى سجن كبير مليء بالشعارات والنفاق والفساد والتسلط والقمع والتخلف، فأصبح مساعد في الأمن العسكري يتحكم بمدينة كاملة، وأصبح السوري بلا كرامة ولا حرية ولا حقوق.
وقد استبد النظام البعثي الاسدي بالناس واستخدم ورقة الطوائف والأقليات من اجل توطيد سلطته الفاسدة وليس من أجل تثبيت حقوقهم ليعيشوا بكرامة.
انتهك النظام حقوق كل السوريين وحرمهم من الحريات، وحتى الذين كانوا يجنون الثروات من وراء السرقة والفساد والتسلط على رقاب الناس، تحت جناح القائد الخالد، فقد كانوا بلا كرامة وبلا ضمير.
كل من دعم النظام وساهم في اضطهاد وظلم السوريين، عداك عن تعذيبهم وقتلهم يجب ان يحاسب في يوم ما لأن حقوق الناس لا يمكن أن تُطمس، والعدالة الانتقالية يجب ان تأخذ مجراها.
ويجب أن يعلم السوريون بأن طائفة النظام هي الفاسدين والمصفقين وعديمي الكرامة والأخلاق من مختلف المكونات والطوائف والمذاهب والأقليات. وهم قلة قليلة، بينما أغلبية الشعب الذين لم يقبلوا التورط بالفساد والاستبداد والظلم، كانت محرومة ومهمشة في كل بقاع سورية الحبيبة.
لقد حول النظام سورية إلى مزرعة لعائلة الأسد، ومن قبل أن يكون عبداً فيها فقد تمتع ببعض المزايا، ومن رفض المزرعة فقد كان مصيره إما السجن والتعذيب والتهميش أو التهجير القسري.
علينا أن نعترف بالحقيقة المرّة عن فترة الخمسين سنة السابقة، بأن الأسد الديكتاتور لم يكن ليستمر في تسلطه واستعباده للناس لولا أن الناس كانوا صامتين وقابلين بذلك (على قول المثل: من الذي فرعنك فيرد بأنه صمت الناس وتصفيقها).
ورأينا نتيجة تلك العبودية والخنوع وهو فقدان ابسط الحقوق الإنسانية، وجاءت الثورة السلمية الشعبية لتطلق صرخة المظلومين والمضطهدين والمهمشين مطالبين بحريتهم وكرامتهم التي حرموا منها على ايدي جلاوزة النظام وحاشيته.
إذا أدركنا حقيقة أن هذا البلد الجميل سورية وقع رهينة بيد عائلة فاسدة ونخبة محيطة بها مكونة من أجهزة المخابرات ورجال الأعمال التابعين لهم فإننا نستوعب لماذا انفجرت الثورة بوجه هؤلاء الظالمين. فهي ليست ضد فئات اجتماعية او دينية، بل ضد ذلك النظام الفاسد المستبد الذي كبل سورية ووضعها في قفص كبير.
ومن يريد اللعب بمشاعر الناس ويشوه الحقيقة، زاعماً أن الثورة هي ثورة شريحة دينية او قومية ضد الأقليات الدينية والقومية فهذا كلام مزيف لا أساس له، وهو صادر عن النظام وابواقه لتشويه صورة الشباب السوري الذي خرج مطالبا بالحرية والكرامة لكل السوريين. هذه هي الحقيقة.
والذي حصل أن قوى دولية وإقليمية ومحلية (النظام في مقدمتها) جلبت لنا ميليشيات طائفية ودينية وقومية إرهابية قتلت السوريين وخاصة الناشطين الشباب المدنيين، وحولت تلك القوى بمشاركة النظام البلاد الى مستعمرة لدول وميليشيات فأصبحت سورية محتلة بمساعدة النظام الذي يدعي أنه حاميها وبمساعدة قوى أخرى تعمل لأجنداتها الخاصة بعيدا عن السوريين وطموحاتهم المشروعة. يكفي ان يعرف السوريون بأن طاغية دمشق يسيطر فقط على 15 % من الحدود البرية السورية، بينما يتبجح بالسيادة. وانه لا يمتلك قراره المستقل حتى داخل قصره لأن الروس والإيرانيين متغلغلين في حاشيته وحراسه عداك عن الميدان. وأن الطاغية لا يسيطر على 80 % من ثروات البلاد.
الميليشيات الجهادية الدينية (الشيعية منها والسنية) ومعها قسد الانفصالية ترتكب الجرائم بحق الشعب السوري من مختلف المكونات وبالتالي فهي عدوة الشعب السوري.
وكل الدول التي تورطت في المشهد السوري جاءت لتحقيق اغراضها الخاصة وليس لعيون السوريين، أو حتى لعيون طاغية دمشق، الذي يريدونه أداة وغطاء شكليا لاحتلال سورية لعقود طويلة.
ويتساءل السوريون ما العمل للخلاص من الوضع الكارثي الذي وصلنا اليه؟
لا مخرج إلا بعودة السوريين الى بعضهم البعض بعيدا عن أجهزة السلطة الفاسدة المستبدة، فهي أصل البلاء.
يجب علينا أن نتخلص من أي تلوث في الفكر من قبيل التعصب الديني او القومي او الطائفي. فالدين والقومية يستخدمان كورقة للمتاجرة من قبل البعض ويجب فصلهما عن السياسة.
ان لم تتكاتف القوى العقلانية الوطنية في سورية لترفع صوتها الوطني المستقل (بعيدا عن التصنيف الخادع من قبيل الموالاة والمعارضة، حيث هناك شرائح كبيرة ممن يطلق عليهم الموالاة هم في الحقيقة ليسوا موالاة بل يتمنون تغيير النظام، وكذلك بالنسبة للمعارضة التي جرت فيها تغيرات وتكشفت حقائق اثبتت ان جزء غير قليل منها هم ضد الثورة وضد الحرية وضد الديمقراطية)
لم نستنفذ كل الفرص لإنقاذ سورية. سورية التي نحبها ونفتخر بانتمائنا اليها. سورية امام مخاطر كبيرة منها التقسيم والتشرذم، فنحن جميعا في سفينة واحدة وان غرقت لن ينجو منها أحد. وما علينا إلا أن نتخلص ممن قادوها الى الوضع الكارثي وهم الطغاة والبغاة والغزاة.
ولا يمكن ان تكون سورية المستقبل إلا دولة مواطنة ودولة قانون يعيش فيها كل السوريين بحرية وكرامة، ونعمل سورية لبناء سورية الجديدة العصرية التي ستثبت تفوقها على الدول المتطورة مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها.
شعبنا قادر على صنع الحضارة فهو وريث حضارات وثقافات وديانات سماوية، ولا يوجد أدنى شك بقدرتنا على النهوض واعمار سورية – وطن التاريخ والقيم الإنسانية.