كان النصف الثاني من القرن العشرين أيديولوجياً بامتياز، فقد استهلك سنواته صراع أيديولوجي محموم أفرز خطاباً سياسياً ما زال إلى الآن متحكِّماً بالخطاب السياسي العربي، متمتِّعاً بقدرة مذهلة على الصمود، على رغم التغيِّرات العاصفة التي وضعت الإنسان المعاصر وجهاً لوجه إزاء واقع جديد مختلف في أنماطه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وتوجهاته النظرية والعقائدية.
وفي كل الحالات يتعامل الخطاب السياسي العربي مع الأيديولوجيا باعتبارها بديلاً عن الواقع، كأنما التاريخ يتحوُّل ويجري وفقاً لتصوراتها. كما أنه خطاب أحادي رافض للآخر والمختلف، مدَّعٍ لامتلاك الحق والحقيقة، قوامه النفي والإقصاء المتبادلين بين العقائد والأيديولوجيات.
هذا الخطاب السياسي المهيمن على الساحة العربية، منذ منتصف القرن الماضي، كان ولا يزال في أساس الصراع المحموم الذي يذهب إلى حدِّ التكفير والتصفية الدموية بين الفصائل والتيارات السياسية والفكرية، وهو يقف وراء أكثر التناقضات حدَّة في المجتمع والسياسة والفكر في العالم العربي.
وعليه، لا بدَّ من تفكيك مقولات هذا الخطاب من أجل إجراء تغيير جذري يقلب الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، تغيير تكون نتيجته التحوُّل إلى خطاب ديمقراطي مع الذات ومع الآخر ومع المجتمع ومع الواقع ومع التاريخ: ديمقراطي مع الذات بصفتها مالكة قرارها ومصيرها ورهاناتها وحقها في التحدِّي والمساءلة. وديمقراطي مع الآخر باعترافه به كآخر وكمختلف، لا من باب التسامح والتعايش وإنما من باب الإيمان بالتعددية للتعاطي المجدي مع الأسئلة والتحديات التي يطرحها الواقع بكل ما فيه من غنى وتعقيد. وديمقراطي مع المجتمع في تعامله معه باعتباره الصورة الحية لنضالات الأفراد والجماعات وتوقها ومخاوفها ورغباتها ودأبها اليومي، وليس كحقل تجارب للأيديولوجيا وأوهامها ومشروعاتها. وديمقراطي مع التاريخ في النظر إليه بصفته حركة وتحوُّلاً وصراعاً، وليس باعتباره مرآة لأفكار ومبادئ وأحكام الخطاب السياسي وبرهاناً على صحتها وتكراراً أبدياً لها.
ومن مستوجبات تفكيك الخطاب السياسي العربي أنّ العلاقات الدولية قد اتسعت مفاهيمها، وبدأت تستوعب في إطارها ما كان في بداية تسعينيات القرن الماضي مجرد أفكار ونظريات حول ” الديبلوماسية الوقائية “، مثل التدخل الإنساني في شؤون الدول الأخرى، وتراجع سيادة الدولة على أراضيها بسبب تشابك عناصر الخطر المشترك على الأمن العالمي، ومحاولة تأكيد المفهوم الجديد القائل بأنّ الشأن الداخلي في مثل هذه الأوضاع لم يعد مجرد شأن داخلي فقط. ولمَّا كانت القوى الخارجية قد وجدت من المنافذ ما جعلها تقتحم الساحة الداخلية بشكل ظاهر، أو مستتر، فإنّ نظرية الفصل بين السياسة الخارجية وبين الأوضاع الداخلية لم تعد تصلح للعمل.
ولا يحتاج المرء إلى أكثر من نظرة سريعة ليكتشف أنّ العراق الجديد مثلاً، كما هو في الدستور، ليس العراق الاتحادي الذي حلم به أهله دائماً، بغض النظر عن ممارسات الحكم فيه، ويفترض أنهم يحلمون به الآن: فيديرالية طوائف ومذاهب وأعراق وعشائر، واستئثار جزء من شعب الدولة الاتحادية بثروات البلاد على حساب أجزائه الأخرى، والأهم من ذلك كله من دون قبول فئات واسعة من الطوائف والمذاهب والأعراق كلها لمثل هذا النوع من نظام الحكم.
كما أنّ ما ينقسم حوله العراقيون ليس الموقع والخيار السياسي فحسب، بل أيضاً توجُّه العراق المستقبلي، انتماؤه ودوره وموقعه الإقليمي. فليس العراق وطناً هامشياً صغيراً حتى تغيب عن شعبه وقواه المسائل الكبرى للهوية والدور والموقع، فعندما تتحرك قوى سياسية بدوافع التقسيم الإثني والطائفي، بدوافع تقويض انتماء العراق العربي وتجاهل الهوية العربية لأغلبية شعبه، وبدوافع إخراجه من دوره الإقليمي وميراثه القومي، بينما يطالب عراقيون آخرون بالحفاظ على هوية العراق العربية وميراثه القومي، مهما شاب هذا الدور والميراث من شوائب، ويطالبون بالحفاظ على وحدة العراق كوطن ودولة، وبأن يستمر في ممارسة دوره الإقليمي التقليدي، فهناك حالة انقسام عميقة تحتاج إلى تعاطٍ عقلاني معها.
والسؤال الأهم أمام الخطاب السياسي العربي هو: هل يمكن أن تسري تجربة العراق الصعبة في بلدان عربية أخرى؟
لقد ترافق طرح الفيديرالية في المشرق العربي بالحديث عن التكوين الفسيفسائي للتركيب السكاني في المنطقة، وهو تركيب متنوع في بناه القومية والدينية والطائفية، مما يفسح في المجال أمام تأسيس كيانات على تلك الأسس، يمكن جمعها في إطار كيان فيديرالي جامع، يكون محصلة تفاهمات بين الكيانات الداخلة فيه. فبعد أن تغيَّر العالم من حول النخبة الثقافية والسياسية في المجالين العربي والإقليمي، وتغيَّرت الظروف الداخلية والخارجية، وصارت بلدان المشرق في دائرة تحديات جديدة وشديدة التعقيد، فإنها شرعت في إعادة النظر في كثير من مسلَّماتها وأنماط تفكيرها وطرائق عملها وعلاقاتها، وإطلاق أفكار وآليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لبلدانها وللمنطقة، يتجاوز حمَّى الانقسامات والصراعات، وقد تكون الأنظمة اللامركزية، بما فيها النظام الفيديرالي، أحد خيارات المشروع.
ومما يزيد الطين بلَّة أنّ العديد من الدول العربية تشهد عمليات عنف مسلح، لا يمكن اعتبارها بمثابة مؤشر على وجود جماعات مسلحة فقط، بل أنها تمثل سعي الجماعات المسلحة إلى تحقيق أهداف سياسية، من خلال القوة والإرهاب، رغبة في أن يتم بنتيجتها إعادة ترتيب أوضاع البلد المعني بطريقة تختلف عما هو عليه حالياً، وهو أمر يمكن أن يتضمن تفتيتاً أو تقسيماً، حيث لدى معظم البلدان العربية مشاكل في نسيجها السكاني.
لقد أدى ضعف مستوى الأداء، وما ينتج عنه من عدم تبصُّر لطبيعة المرحلة التي يمر بها العالم العربي، إلى غياب المقاييس الموضوعية في العلاقات السياسية الداخلية والخارجية، وهي حال لا يمكن القبول بها وطنياً وقومياً، لأنها أدت إلى انحسار حضور العالم العربي وفعاليته أمام ما يطرح من مشاريع تتصل مباشرة بمصالحه ومستقبله. كما أنها تعرِّض مستقبل هذه المنطقة الحساسة من العالم إلى مخاطر تستفيد منها القوى الدولية الفاعلة التي ترسم المشاريع وتنفِّذ على أرض الواقع ما يتناسب ومصالحها الاستراتيجية.