عندما يتحدث الكثيرون عن الدولة في الأدبيات السياسية المعاصرة، فإنما يدور بأذهانهم ظاهرة الدولة الوطنية، كما تبلورت وتطورت خلال التاريخين الحديث والمعاصر، وكما نظّر لها مفكرون روّادٌ. لقد ظلت طبيعة الدولة ووظائفها ودورها في المجتمع وعلاقاتها بالدول الأخرى محل جدل كبير في الفكر السياسي. فقد أكد أصحاب الفكر الليبرالي على علاقة مفهوم الدولة بفكرة السيادة وبحقوق المواطنة، واستكمل روّادُ الفكر الديمقراطي الحديث هذا التوجه بالتركيز على أهمية فكرة المسؤولية السياسية. بينما اتجه الفكر الماركسي إلى إبراز صلة الدولة بالهيكل الطبقي وعلاقاته، ودورها كأداة للضبط الاجتماعي والقهر السياسي(1).
تتبلور الدولة في فكر هيغل كتعبير عن انتصار الروح على المادة وانتصار الوحدة على التشتت، وكتجسيد لأرقى القيم المعنوية العامة. أما ماركس فقد رأى أنّ هذا المفهوم يمثل فكرة الدولة (البيروقراطية) عن نفسها والتي تحاول ترويجها بين بقية فئات المجتمع، مدّعية أنّ البيروقراطية هي الغاية النهائية للدولة لأنها التعبير عن فكرة المصلحة العامة. وعنده أيضاً أنّ جهاز الدولة هو بالفعل مصدر مستقلٌّ للعمل السياسي، ولكنه في جوهره جهاز طفيلي منعزل عن المجتمع المدني. ولكنّ ماركس، في كتابات لاحقة، أظهر الدولة كانعكاس، يكاد يكون مباشراً، لقاعدة العلاقات الاقتصادية في المجتمع. وقد أدى هذا التناقض إلى إثارة جدال خصب في الأوساط الماركسية حول طبيعة الدولة وعلاقاتها بالمجتمع المدني.
فقد رأى أنطونيو غرامشي أنه على حين تنتظم الدولة ويتجدد هيكلها بالاستناد إلى القوى الاقتصادية، فإنّ الدولة ليست مجرد انعكاس فوقي لهذه القوى والضرورات، بل هي أكثر من ذلك أداة للترشيد والعقلنة الاقتصادية. وقد ثار الجدل الماركسي، من جديد، حول طبيعة الدولة، حين قام رالف ميليباند بنشر كتابه الهام حول” الدولة في المجتمع الرأسمالي ” في نهاية ستينيات القرن الماضي. حيث شكك فيما إذا كانت الدولة بالفعل، وكما يعبّر عنها الفكر الليبرالي، هي الحكم بين المصالح المتنافسة في المجتمع وأداة محايدة إزاء الصراعات فيه.
لقد انتقد نيكولاس بولانتزاس هذا التشكيك، وبدأ جدالاً حامياً، حيث رأى أنّ الانتماء الطبقي للقائمين على جهاز الدولة ليس ذا أهمية كبيرة بالنسبة للعمل الملموس لهذا الجهاز، وإنما الأهم هو المكوّنات الهيكلية للدولة الرأسمالية. فالدولة، عند بولانتزاس، هي العنصر التوحيدي في النظام الرأسمالي، وعلى هذه الدولة أن توفّر التنظيم السياسي للطبقات المسيطرة. كذلك فإنّ على الدولة القيام بـ” التنظيم السياسي ” للطبقات العاملة لكي لا تسمح لها، في ظروف تركيز الإنتاج، بتهديد سيادة الطبقات المسيطرة. وخلص بولانتزاس الى أنّ حماية الدولة ضرورة أساسية للحفاظ على مصالح جميع الطبقات. ولا تستطيع الدولة أن تقوم بهذه المهمة ما لم تتمتع بدرجة من “الاستقلال النسبي” عن المصالح الخاصة للشرائح الطبقية المختلفة. أما درجة الاستقلال الفعلي، الذي تتمتع به دولة معينة، فيعتمد على العلاقات بين الطبقات وشرائح الطبقات وعلى وحدة الصراعات الاجتماعية فيها.
إنّ الدولة الوطنية الحديثة هي نتاج ضروري لفوضى التنافس القائم في المجتمع، ولكنها أيضا قوة رئيسية في المحافظة على هذا التنافس والانقسام وإعادة إنتاجه من أجل عقلنته.
وهكذا، هناك أربع توجهات نظرية رئيسية تعالج موضوع الدولة والسلوك السياسي في المجتمع هي(2):
أ – المدرسة ذات التوجه المكيافيللي، وهي تعتبر أنّ الدولة و(النظام السياسي) تقوم على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين، وتركّز على أهمية القهر في علاقات القوة، وتعتبر سيطرة النخبة (المكونة من الأقوى أو الأفضل) أمراً مسلّماً به مهما كان نوع النظام السياسي.
ب – المدرسة ذات التوجه الماركسي، التي تعتبر إما أنّ الدولة أداة في يد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، وإما أنّ الدولة متغيّر بنائي في الصراع الطبقي تخدم، من خلال القيام بوظائفها، الطبقة المسيطرة في النظام الرأسمالي.
ج – المدرسة ذات التوجه الفيبري، وتركّز على استقلالية الدولة (فيما عرف بالفصل بين الطبقة والمكانة والقوة) التي تجسّدها مؤسسات ذات طبيعة عقلانية، بحيث تكون ممارسة القوة نتاجاً للتنظيم البيروقراطي.
د – المدرسة ذات التوجه التعددي، ونقطة الانطلاق في هذه المدرسة هي تبرير الدولة الدستورية في ظل الليبرالية، مدّعية أنّ القوة الاجتماعية موزعة بشكل واسع في المجتمع بين فئات وتنظيمات متفاوتة الأنصبة من القوة الاجتماعية.
على أنّ الدولة الوطنية الحديثة تبقى أهم شكل من أشكال التنظيم السياسي، باعتبارها دولة حقٍّ وقانون. كما أنها ضرورية لبقاء المجتمعات التعددية، التي تتميــــّز بأشكال متنوعة من الإدارة والمعايير الاجتماعية. إنّ دور الدولة كمصدر لـ “التنظيم الدستوري، الذي يحدُّ من سلطانها ومن سلطان الآخرين، وكموجّه للنشاط من خلال الحقوق والقواعد، هو دور أساسي لحكم القانون”(3).
وقد تكون سلطة الدولة استبدادية مبنية على تسيّد الدولة على المجتمع، من خلال توسيع إشرافها على البنى الاقتصادية، بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتداداً لسلطتها، وتحقق بذلك الاحتكار الفعّال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع، وهذا هو الحكم التسلطي.
إنّ الدولة البيروقراطية التسلطية هي “تشويه للدولة البيروقراطية الليبرالية الحديثة، من حيث افتقارها إلى القيود والضوابط الدستورية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإنّ النظام الاقتصادي للدولة البيروقراطية التسلطية وهو رأسمالية الدولة التابعة هو تشويه لنمط الإنتاج الرأسمالي”(4).
وفي حين أنّ الدولة التسلطية تحتكر مصادر السلطة والقوة، فإنّ المجتمع المدني هو “تحويل الاختلاف والتناقض الحقيقيين إلى عنصر فاعل في إنتاج ما هو أرقى في علاقة المجتمع بالدولة. أي القيام بعملية تنظيم التناقضات الطبقية والأيديولوجية والمهنية، بإعطائها شخصية فاعلة في طرح أهدافها وتحديد مصيرها. بحيث تغدو الدولة ثمرة فعل هذه التناقضات وخلق حقل للاختلاف يقوم على فكرة الحرية”(5). وهذه الشخصية، في فاعليتها الحرة، هي التي تنتج نمط الدولة “المطابقة للعقل”. وعندها يغدو المجتمع المدني أكبر ضمان لكبح فوضى إكراه الدولة التسلطية، ولجم نزعتها نحو الهيمنة الشاملة. مما يخلق إمكانية تجاوز الدولة لذاتها على نحو دائم، فيحررها من صنميتها.
ومن جهة أخرى، ثمة خلط بين الجوانب السياسية للفكرة القومية ودور الدولة كعامل تكوين للأمة، فالتصوّر السياسي للأمة لا يدور على سياسة الأمة أو على النتائج السياسية المحلية والعالمية لتكوين الأمة أو لفعاليتها بعد تكوينها، وإنما يدور على قضية تكوين الأمة بالذات، ويجعل من عامل الدولة العامل الرئيسي الأول لتكوين الأمة، ففي هذا التصوّر لا توجد الأمة قبل الدولة أو بدون الدولة.
وفي العالم العربي يبدو أنّ الخطوة الأولى الضرورية، لتجاوز الخلط السابق ذكره، هي إدراك الوعي السياسي العربي حقيقة إشكالية بناء الدولة الحديثة، بما تنطوي عليه من الآليات المجتمعية اللازمة لتجاوزها. وفي هذا السياق، نسأل مع الأستاذ الياس مرقص أولئك الداعين إلى “موت الدولة القطرية.. أنتم ضد قطرية الدولة أم أنتم ضد فكرة الدولة من أساسها؟ إنّ الوحدة العربية لن تكون في يوم من الأيام اتحاد قبائل أو لنقل جماهير قبائل وأمصار وبلدان، ولا إمبراطورية أرياف”(6).
إنّ الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر طرحت نفسها بديلاً عن مؤسسات المجتمع المدني، وسعت كي تصبح الرابطة الوحيدة بين بنى المجتمع التقليدي، بين العشائر والملل والعائلات، كتنظيمات لرعايا مفتتين إلى ذرات تحكمهم المصلحة الآنية وغريزة النجاة بالذات، إزاء استشراء عنف سلطة الدولة. وقد وصلت الدولة إلى هذا المستوى من التسلط بفعل مجموعة إجراءات وتدابير، في الاقتصاد والمجتمع.
الهوامش
1- الأيوبي، نزيه ناصيف: العرب ومشكلة الدولة، الطبعة الأولى – بيروت، دار الساقي 1992، ص ص7 -15.
2- د. النقيب، خلدون حسن: الدولة التسلّطية في المشرق العربي المعاصر /دراسة بنائية مقارنة، الطبعة الاولى ـ بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية ـ مايو/أيار 1991، ص 29-30.
3- هيرست، بول وتومبسون، غراهام: (العولمة ومستقبل الدولة القومية)- عن كتاب : ما بعد الماركسية، إعداد : فالح عبد الجبار، الطبعة الأولى-دمشق، دار المدى للثقافة والنشر-1998، ص296.
4- د. النقيب، خلدون حسن: الدولة التسلطية…، المرجع السابق، ص 31و32.
5- د. برقاوي، أحمد: مقدمة في التنوير/العلمانية – الدولة – الحرية/، الطبعةالأولى – دمشق، دار معد للطباعة والنشر-1996، ص23.
6- مرقص، الياس: نقد العقلانية العربية، الطبعة الأولى ـ دمشق، دار الحصاد للنشر والتوزيع ـ 1997، ص217.