[بقلم أ. حسن النيفي]
قبل إحدى وعشرين سنة، في مثل هذا اليوم – العاشر من حزيران – وفي الساعة الخامسة مساءً، تجدّدت الآمال وانتعشت النفوس لدى معتقلي سجن تدمر الصحراوي، بعد سنين طويلة، من الإحباط المتراكم في النفوس إلى درجة التكلّس، وكذلك بعد تآكل الاحلام التي تحوّلت إلى رماد أغلق مسامات الروح، وأودى سعيره دخانه بكل نسمة أمل من شأنها أن ترشق القلب بحفنة من حياة.
وحده موت حافظ الأسد، من شأنه أن يقنع المعتقلين باشتمام حياة خارج السجن، وها هو اليوم قد مات، وما كان الأمر قابلاً للتصديق، لولا الأصوات العالية المنبعثة من مآذن مساجد مدينة تدمر: ( إيها الأخوة المواطنون، يتوجب على جميع العسكريين في مدينة تدمر، التوجّه إلى الساحة العامة، للمشاركة بمسيرة حداد على فقيد الوطن والأمة، الرئيس حافظ الأسد)، كان هذا الصوت الذي دفعته الرياح الغربية الشديدة إلى فضاء السجن الواقع في الجنوب الشرقي من تدمر، كفيلاً كفيلاً بإعادة الروح إلى آلاف المعتقلين، بل كان ناهضاً للنفوس كي تستعيد معدنها البشري بعد أن كانت مجرّد أرقام بين براثن التوحّش الأسدي.
لعله من الصحيح أنه لم يتغيّر أيّ شيء في السجن من الناحية الحسية والمادية، فالسجن هو ذاته، الجدران – الأبواب – الأقفال – الكرباج – الدولاب – صياح السجانين وبذاءة ألفاظهم زعيقهم وعدوانيتهم اللامحدودة حيال السجناء) إلّا أن الشيء الوحيد الذي تغيّر في ذلك المساء، هو إحساس جديد لدى السجناء بأن هذا الجحيم المعاش قابل للزوال، بل إن موعد زواله ربما بات وشيكاً.
كان يوم السابع عشر من حزيران من العام ذاته نذيراً مفجعاً لجميع السجناء، إذ أكّد لهم أن الأسبوع الممتد منذ يوم موت الأسد إلى يوم إبلاغ السجناء بمجيء الوريث بشار، كان هذا الأسبوع كافياً لتعزيز القناعة بفداحة مأساة السوريين الذين يتحكّم بمصيرهم حاكمٌ، هو فرد من سلالة برعت بتوريث الموت لشعب بأكمله. حينها كان وقع الإحباط كبيراً، وكانت صدمة الانتكاسة باعثة على حزن يحرق القلوب، إلى درجة تمنّى فيها معظم السجناء لو أنهم لم يعلموا بموت الأب، حتى لا يُفجعوا بمجيء الإبن، ذلك أن التصالح مع الفواجع القديمة ربما تستمرئه النفوس شيئاً فشيئاً، ويصبح مع مرور الزمن جزءاً من الحياة المفروضة على المرء، وعليه أن يعيشها مُرغماً لا مختاراً، أما الفواجع الجديدة فهي تنكأ الجراح المترمّدة، فتتجدّد نزفاً ربما يكون أكثر حدّةً من ذي قبل.
ليلة السابع عشر من حزيران، أي بعد موت الرئيس بأسبوع، جاءت لجنة أمنية رفيعة الرتب إلى سجن تدمر، كان من أعضائها آنذاك، اللواء هشام الاختيار، اللواء حسن خليل، واللواء محمد سيفو، حيث قامت تلك اللجنة بمقابلة خاطفة لمعظم السجناء، مقابلة فردية لم تستغرق الواحدة منها أكثر من دقيقتين لكل سجين، أرادت اللجنة الأمنية أن توحي للسجناء بأن سورية الأسد باقية وتتمدّد، وإن أردتم أن يكون لكم نصيب من هذه الحياة، فعليكم أن تعززوا القناعة في ذواتكم جميعاً بأنكم مجرمون بحق الوطن، ولكن رحمة الرئيس الجديد وحدها هي التي ستكون بوابة الغفران، وأن هذا الرئيس الجديد مستعد للصفح ، بحكم رجاحة عقله وطيب قلبه، وفيوضات رحمته وتسامحه، فهيا هيّئوا أنفسكم لفرج قريب.
كلام اللجنة الأمنية ووعودهم بعفو منتظر عن السجناء لم يمح آثار الانتكاسة والإحباط من نفوس المعتقلين، ولم يلج إلى صميم قناعاتهم، ربما بسبب سوء الثقة التي باتت سمة عامة للسجناء حيال حكم الأسد، إلى درجة بات فيها لسان حال الجميع يقول: لن أصدّق ما يقوله رجال الأمن حتى اجد قدميَّ تدبّان على الأرض السورية بعيداً عن مقرّات وأفرع المخابرات. وبالفعل كان سوء الثقة في محلّه، حيث لم يُفرج الأسد الجديد سوى عن ( 600 معتقلا) وذلك صبيحة السادس عشر من تشرين الثاني عام 2000 ) بمناسبة ذكرى الحركة التصحيحية. وبقي الآلاف الآخرون من المعتقلين حيث هم في سراديب سجن تدمر.
شاءت الأقدار ألّا يغادر السجناء سجن تدمر وهم يحلمون بالحرية، بل غادروه وهم يؤمّلون النفس بحياة أقل شقاء وجحيماً مما في تدمر. ففي يوم السابع والعشرين من تموز عام 2001 ، أصدرت السلطات الأمنية العليا قراراً بإفراغ سجنين سوريين هما الأسوأ في التاريخ الحديث( سجن تدمر العسكري – وسجن المزة العسكري)، كما أمرت بجمع السجناء جميعاً وحصرهم في سجن صيدنايا، ويالها من انفراجة عظيمة باغتت الجميع، فإذا كان السجن مدى الحياة قدراً أسدياً على معتقلي تدمر، فليكن هذا الاعتقال أقل عذاباً و شقاءً، وذلك على مبدأ قول القائل:
رضيتُ ببعض الشر خوفَ جميعه كذلك بعضُ الشر أهونُ من بعضِ
لقد استمر شحن السجناء من تدمر إلى صيدنايا من 27 تموز إلى 11 آب عام 2001 ، حيث حل الجميع في سجن صيدنايا، الفندق ذي النجوم العشر قياساً إلى سجن تدمر آنذاك.
حين وطأتْ قدمايَ سجن صيدنايا، كان قد تبقى ثلاثة أشهر فقط حتى أتمم خمسة عشر عاماً في السجن، وهي فترة الحكم الذي أصدرته بحقي محكمة أمن الدولة العليا، لوكيلها الشهير فايز النوري، وطيلة الأشهر الثلاثة لم تكن يشغلني انتظار انقضائها لأخرج من السجن، بقدر ما كنت مشغولاً باستثمار كل لحظة أنظر فيها إلى السماء، وأتحدث مع الآخرين، وأدخل إلى الحمام، وأدخن وأشرب الماء، دون إحساس بالخوف من صفعة مباغتة للسجان، ودون أن تنغرس في قلبي أصوات المعذبين من زملائي، كنتُ أنتظر أن يحلّ المساء، لأمارس شغفي الشديد بالشرود دون حديث مع الآخرين، وبالتدخين المصاحب لاحتساء ما توفر حولي من القهوة والشاي، وحين يحل الصباح، أحاول الإسراع في النوم ما استطعت، لأتحاشى سماع قرقعة مفاتيح السجان، تلك القرقعة التي كانت كفيلة بأن تجعل القلوب تبلغ الحناجر في سجن تدمر.