مغارات من عتمة حاضرنا

ليس وهماً أن نقول إننا نعيش في مغارة. مغارة معتمة رطبة تفوح منها روائح العفن والطفح المأفون عصرياً وكل صنوف التقادم بالزمن تقنياً وقيمياً، وترنحات العصر السحيق. وهنا لا أقصد انقطاع الكهرباء الطويل في ديارنا بمعدل خمس ساعات عتمة لساعة متقطعة من النور، فقد اعتدنا الحال وبتنا نتآلف معه، ففيه بعض حنية حيث باتت الأسرة تلتم في غرفة واحدة وتمارس هواية الحديث الأسروي، بعد أن سلبته منها هواتف العصر الذكية؛ بل الحديث هنا عن مغارات من نوع مختلف من العتمة، يتم اختيارها بملء الإرادة الحرة والذهاب طوعاً لعتمتها.

معاش هذه المغارات متعدد الظلمات، فإن كان أشدها ظلمة سوء العصر وهيمنة السياسات البليدة والماكرة في حياتنا. واستعصاء التغيير السياسي المحكوم بالتوازنات والمتغيرات الدولية والإقليمية ظلمة كبرى. والأيديولوجيات المتباينة، والنزق والطفح الشعوري الفوضوي ظلمة مضافة، فالكل يريد أن يكون هو وفقط وحده والباقي إلى الجحيم، أو لا وجود لهم. فيما تردي الواقع المعاشي مدقع الويلات وظلمة فوق ظلمات. ومع هذا أجيز لنفسي القول حتى لا أصادر على الآخرين رأيهم، شخصياً وخلال أحد عشر عام مرت، اعتدت هذه الظلمات وباتت لا تعنيني وأستطيع البصر من خلالها جيداً. أما تلك الكهوف والمغارات التي تذهب للعتمة عمداً فلا يمكنني التعايش معها فهي التي باتت مصدر استفزاز دائم، وإثارة محفزة.

في مغارة أولى تكرار الاحتفال بالنصر بالتصحيح بعد هذا الخراب المدقع الذي يعم سوريا ويلفها بالظلام. تكرار العودة للمغالطات التاريخية وأن البعث الحاكم انتصر على قوى الإرهاب والشر العالمية جميعها. فرضية يعلم جيداً قيادة البعث والسلطة الحاكمة في سوريا مدى زيف نصرهم، فقد وقعوا في مأزق التوازنات الدولية التي باتت تخنقهم سياسياً، كما الشعب السوري، وإن كان بأدوات أخرى. أما أولئك المطبلون والمزمرون، المصفقون والمهلهلون، الدبيكة والرزيخة فماذا يجنون في زهوتهم هذه؟ فلا أعلم، سوى أنهم يشحذون في آخر يومهم أجرة الطريق للعودة لمنازلهم فرواتبهم لا تكفي أيام. هؤلاء من اختاروا مغارة الموت وهم على قيد التنفس، مغارة الاستعراض الفج بكم استعبادهم، مغارة عتمة الذل والهوان حين يأتمرون عقائدياً وأمنياً بقرار ينفذه عنصر في جهاز أمني ليس إلا.

وفي مغارة ثانية تلك التي تفصح عن وهم الحوار والتغيير السياسي من داخل السلطة القائمة. أولئك الذين أفلسوا من إمكانية التغيير العام وسقطوا في موقع التناقض بين التغيير وربطه بحرية التعبير. وقد يكونوا صادقين إن امتلكوا القدرة على حرية التعبير أن التغير قائم حتى وإن كان على مستواهم الشخصي وحسب، وليكن لا ضير فلهم حقهم فيما يرون. لكن حين التمعن في هذا نجد نوع المغارة التي يذهبون اليها: ففي فيديو يتم تناقله على مواقع التواصل الاجتماعي رأيته صدقة، لمقابلة على الفضائية السورية، استضيف بها معارضون سوريون مع عدد من شخوص السلطة الإعلاميين، وبعد تقطع من رمي السهام ومحاولة إبراز أن المعارضة هي التي لا ترغب بالحوار والظهور على الإعلام السوري والمعارض يقول ويثبت العكس، تسأل المذيعة أحد جهابذة السلطة المتملقين: وهل باتت المعارضة مهيئة وطنياً للظهور على الاعلام؟ والإجابة البسيطة تكون: لا. فيما يحتج المعارض بأن هذا سؤال خاطئ منهجياً وأخلاقياً. وأحسده كيف استمر في هذا اللقاء لآخره! فقد عبر المعارض الثاني أن البلد بكامله بأزمة كبرى وعلى السلطة أن تسمع رأي المعارضة على مبدأ أن حصوة تسند صخرة. فترد المذيعة: وهل كنت حصوة وطنية صغيرة أم صخرة! وحقيقة أن عنوان المقابلة كما يتم تداوله بـ”أغبى مذيعة” على الإطلاق خطأ كبير، فهي مذيعة مهنية وتتقن دورها الأمني بامتياز، فيما المغارة المظلمة التي يذهب اليها بعض المعتقدين أنه يمكن تغيير شيء في بنية هذا النظام بالحوار هو العتمة التي يصرون على المضي اليها بأقدامهم حباً وطواعية، أو وهماً وطفحاً وجدانياً وشعورياً لا يمت للسياسة والواقع بصلة! ليتهما انسحباً من المقابلة علناً وقالا: لا نحاور من هم في عتمة من التاريخ، كانا أضاءا مساحة مختلفة للمشاهدين.

فيما المغارة الكبرى، الظلام الدامس الذي يصر عليه بعض أيديولوجي العلمانية المتعلمنين “العلمناجوية”، أن تاريخ الإسلام تاريخ قتل وسحل وغزوات، معللين هذا بالأرقام التي ارتكب مجازرها أبطال الإسلام التاريخين من خالد بن الوليد وصلاح الدين… وقد يجوز القول هنا بعض هذا صحيح، لكن لا أعلم كيف أن أمريكيا وروسيا بريئة لهذه الدرجة، وكيف يمكن تبرير مقولة أن أمريكيا وجدت مبكراً أن البديل المرشح لحكم سوريا هو الإسلام وحسب، فلم تسعَ للتغيير، وأظن هذا ذهاب لمغارة موغلة في العتمة.

تاريخياً حرب البسوس دامت أربعين عاماً، وأن صلاح الدين قتل وشرد كل المتنورين في مصر، وأن غالبية أمراء وخلفاء الإسلام ماتوا قتلاً، فهذا فيه من الصح الكثير، لكن أن يكون الإسلام وحده موصوف بهذا وحسب فلا أعلم أي تواريخ وأرقام نحفظ. فحرب فرنسا وبريطانيا دامت أربعين عاماً، ستالين الشيوعي نفى لسيبيريا وقتل ما يصل لـ 20 مليون روسي. وأن الحربين العالميتين الأولى والثانية قتل فيها زهاء 40 مليوناً، وقامت بين دول الغرب والحضارة! في العقدين الأخيرين فقط، قتل في العراق ما لا يقل عن مليوني عراقي بيد الأمريكان، وفي سوريا قتل مليون وشرد 13 مليوناً ونصف على يد الروس والسلطة السورية المتعلمنة! واليوم في أوكرانيا روسيا تقتل الأوكران وتهدد السلام العالمي وكل من هو سطح الكوكب بالنووي، والناتو يدعم الضد في مقتلة قد تدخل كامل أوروبا فيها وتعم الكرة الأرضية. ويكفي أن نتذكر قنبلتي هيروشيما وناكزاكي الأمريكيتين، فقد قتلت ما لا يقل عن 100 ألف ياباني في كل مدينة بأقل من ثانية، تخيل بأقل من ثانية! ومات مثلهم بعد أيام بالأثر الإشعاعي، وهذا قعل عصري علمي وحضاري أيضاً! ويصح القول أن نهراً من الموت المشع قد جرى، كما يوصف نهر الموت الذي قام بها قادة الإسلامَ! ويصح القول أيضاً، وللتدقيق لا للمحاباة لطرف دون آخر، أن تاريخ الكرة الأرضية لليوم تاريخ حرب ودمار سمته الأكثر ظلمة هو شهوة السلطات في الاستحواذ المطلق سواء كانت إسلاموية أو علمانوية أو مسيحيوية أو شيوعوية، وكل صنوف الفكر البشري، والعلمانيون والمتنورون والمؤمنون بالخير والسلام فكراً وديناً، براء من دنس سياسات القتل تلك!

فهل من مغارة أشد ظلمة من مغارة لا ترى من التاريخ إلا حسب رغباتها؟

أما قول أينشتاين حين وصف إمكانية صناعة القنبلة النووية بالمستحيل: كمن يخرج الخفافيش للعيش في النور! فقد بات واقعاً، ويبدو أن خفافيش وهمنا باتت تحتل مساحات رؤيتنا وبتنا ننعدي منها بالعماء المعرفي والسياسي. وهذا ليس تعميم جزافي، بل محاولة إضاءة في مكان يشتد عتمة ويوغل في عتمة الكهوف، علني أكون قد أخطأت، لكني لليوم أرفص أن أدخل أي مغارة بقدمي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.