[ بقلم: د. محمد حاج بكري ]
السوري اليوم يبذل كامل جهده ليخرج من أزماته المركبة والمتلاحقة ولكنه يقع دائما في معضلات جديدة، فكلما اندفع المجتمع باتجاه بناء مؤسساته لتلبية احتياجاته تتعاظم الصراعات عليها وتزداد حالات التمرد والعصيان
وتفقد المؤسسات الشبه موجودة هيبتها لتصبح كتلة هلامية في ظل ضعف الهوية الوطنية وسيطرة مراكز القوى وخاصة الفصائلية ليصبح قانون القوة الذي تفرضه التكوينات الاجتماعية والسياسية المهيمنة بحكم الأمر الواقع لها القول الفصل في تحديد خيارات القرارات الرسمية والغير رسمية.
ومن يتابع واقع الحال سيجد ان كامل الأحزاب والتكتلات السياسية بلا مشاريع واضحة ومراكز القوى المتمكنة تريد إنتاج الماضي وبإصرار غريب وباسم ثورة والطامحين الجدد لا همّ لهم إلا التعمية والتضليل وتحصيل الغنائم وبكل الوسائل المتاحة بما في ذلك تفجير المجتمع بتناقضات عجائبية ، وشباب بين الحين والآخر يخترعوا لهم قضية وحولها يدندنون بالكلام المبجل بلا نتيجة تذكر.
والمؤسسات تفقد قيمتها ويجتاحها الفساد بلا رحمة وهي بلا هيبة أصلا وحركات تنمو هنا وهناك وكل طموحها تقسيم الأرض في بلد لم يمتلك هوية وطنية متماسكة، وعشائر تعيد ترتيب أوراقها لتحديد مسار اندفاعها بما يعظم من مصالحها والتي تناضل باسم ثورة وباسم شرعية ودورهم مازال يصاغ لحسم المعركة وقت اشتعال الحرب، وتجار صالحون وفاسدون يستغلون الأوضاع ويعقدون الصفقات وبعضهم يهربون السلاح والأموال والمخدرات ، وقوانين لا تطبق ودجالين يسوقون الخراب بالتنظيرات الثورية الميتة في فراغ قاتل من أي قانون .
ولا يخلو الوضع من فنتازيا شعاراتية فكل الأطراف تتحدث عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة إلا ان الواقع وتطوراته والبنى الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية المتحكمة تعيق الامل في تأسيس العدالة والحرية واحداث تحول ديمقراطي متقدم ولو بالحد الأدنى، والأخطر ان أشخاص و مؤسسات مدنية وحزبية ورسمية كانت في بداية الثورة حجاب للفساد تتصدر واجهة التغيير المنشود.
ربما يزداد الامر سوء في ظل تحولات أضعفت الاجماع العام الذي كان مشتتا ومشوها، والنزاعات المتنوعة ان لم تضبط فقد تهدد وجود أي مؤسسة وطنية حاليا ومستقبلا ، والعجيب أنه مع الاحتجاجات أصبحت الحرية مخنوقة بفوضى عارمة واصبح التمرد طريقا معبدا لا يحكمه قانون أو اخلاق باستثناء رغبات جامحة مصاغة بأحلام محاصرة بمصالح طائفية او جغرافية او حزبية أو حتى ذاتية وفصائلية
وما يعقد الامر أكثر تراكم إشكاليات النزاعات المتلاحقة التي شتت القوة ومزقت لحمة المجتمع وأهدافه وصار الانقسام حادا ومتشعبا وينتظر صاعق الانفجار ليعبر عن نفسه بكل قوة وعنف
من الواضح ان أي قوة لن تتمكن حتى من بناء حتى ديكتاتورية وطنية عادلة بنكهات ديمقراطية متحكم بها، فإرادة المؤسسات موزعة على الأطراف ومحاصرة بحراك اجتماعي تنتجه تكوينات متنازعة والخصام بينها شديد ودموي وهذا الامر قد يخلق توازن إيجابي لتحول ديمقراطي إلا ان صراع الهويات لن يصل بالتحول إلى المآل الذي يخرج الجميع من معضلة تاريخية مكررة وموروثة
سنظل نعاني من انقسامات حادة ودائمة ولن يتجاوز المجتمع الحالة المائعة والمفترسة وصراعات التكوينات الفصائلية إلا بفرض هيبة الدولة بقوة المؤسسة الأمنية والعسكرية المدعومة بكتلة تاريخية من القوى المدنية الأكثر نضجا ومعرفة للواقع ، والحوار الوطني المرتجى لم يعدّ مطلوبا منه فتح الملفات المعقدة وانما تحديدها وتعريفها ووضع آليات المعالجة لأنها تحتاج الى وقت طويل، والاهم هو البدء بتخليق تقنيات صارمة ومتلائمة مع واقع سوريا وحاجاتها بحيث تكون قادرة على توزيع القوة وتشتيتها في لحمة متكاملة تأسس لتحول ديمقراطي، ولن تكون القواعد طاقة منتجة للتقدم مالم تكون محمية بأدوات قسر صارمة لا ترحم أي عابث.
كل ما يحيط بنا في ظل صراع محكوم بتجلياته المختلفة يجعل المتابع يعاني من القلق والخوف على مستقبل سوريا ، فالواقع يغلي بأنانية مقيتة أفرزتها المشاريع التائهة في عبودية السلطة الخاضعة للمصالح وبالذات التي سيطرت على الفعل الثوري وخنقته واصبح لديها ايقونة لشرعنة قوتها وإعادة صياغة نفسها بقناع اكثر جاذبية، وغالبا ما ترفع شعارات من قبل الأطراف المتنازعة ولا اجمل منها إلا انها على مستوى الواقع غارقة في قيم التخلف والتبعية التي أنتجتها الأوهام والعواطف الغاضبة والعقول المكبلة بالعادات والتقاليد وبالتاريخ الذي أنتجته قوى الظلام التي زيفت العقائد والقيم المدنية لتحقيق مصالحها وتعميد السيطرة وفرض اجندتها.
الحوار الوطني المطلوب بوابة كبرى لانجاز التغيير والخيار الوحيد أمام السوريين لتأمين مستقبلهم هو خوض الحوار من اجل المستقبل الضامن للجميع وتبني استراتيجية للحفاظ على الوحدة الوطنية قائمة على العدالة في توزيع السلطة والثروة والتركيز على بناء قيم التضامن والتعايش، واذا تمكن الحوار من بناء المعايير والآليات التي تؤسس لدولة القانون فإن ذلك يشكل نقلة نوعية للتحول.
ومن المهم التركيز على بناء مؤسسة عسكرية وأمنية محترفة لا تتدخل في السياسة وتكون في الوقت نفسه ضامنة وقوة محترفة ومستقلة هما الأول هو حماية المصالح الوطن وبناء عقيدة عسكرية تحررها من مراكز قوى دينية او قبلية او مناطقية.
وحاكما فعليا ومدخلا لإدارة للتناقضات ويجعل من الشعب قوة قادرة على التمييز بين مع حاجاته ومتطلباته ومن ضدهما فمتى يدرك المشحونين بحلم العقائد ووعي الشخصنة والأجندات الغريبة عن مجتمعنا لابسي قناع الثورة المخنوقة براثن نقائضها ان الديمقراطية ولو بحدها الأدنى لا الزائفة هي الخطوة الاولى لإنقاذ سوريا من معضلاتها المستعصية.
إقرأ أيضا : حديث مع علي مملوك !
ملاحظة : يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر