كان يمكن للنظرية الرابعة في السياسة أن تمثّل خطوة متقدمة في مواجهة التفرّد الأمريكي سيء السمعة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد العراق 2003، بحيث تحدّ من تفرّدها العالمي وإدارتها للشرعية الدولية بطريقتها، إذا ما أقامت روسيا تحالفاتها السياسية من خلال تفهم حاجيات شعوب المنطقة وتطلعاتها لبناء نماذج دولها العصرية واحترام تجاربها التاريخية والثورية الراهنة، كما احترام القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان
الجيوبوليتيك الروسي ونظريتها الرابعة لا تمتلك مقومات النظرية، وتخلو من البعد المعرفي الإنساني، ومتناقضة مع فرضياتها، بل وتمارس روسيا ذات الطريقة النازية العنصرية، وتتشابه مع الأسلوب الأمريكي المعولم، ما يجعلها محط نفور عالمي وإقليمي وأوروبي عريض الخطوات مالياً وسياسياً وربما عسكرياً قريباً، خاصة وهي تجتاح أوكرانيا اليوم، ما يثير مخاوف العالم على السلم العالمي
شدة التأزّم الحاد بين الهيمنة الروسية وفرض إرادتها في قلب أوروبا، وبين خشية خسارتها العسكرية في أوكرانيا وتحسب العالم من خطر الزر النووي الذي يهدّد السلم العالمي على سطح الكوكب. فهل يمكنها الاستمرار بهذه السياسة وتفرض حضورها العالمي من خلال سوريا وأوكرانيا حالياً، أم ثمة ما هو مفاجئ وغير متوقع عالمياً بطريقة أو أخرى؟ ما يتطلب دراسات علمية منهجية حديثة للمشهد العالمي وأدواره المتبدلة
الجيوبوليتيك ابتدأ قبل ما يزيد عن قرن من اليوم كعلم نظري، واكتسب قدرته التطبيقية في فترة ألمانيا النازية الهتلرية، الباحثة عن تعويض خسارتها في الحرب العالمية الأولى. شكل تحالفها مع الإمبراطورية اليابانية نموذجاً للتحالفات المسماة بالبحار البعيدة يتجاوز التحالفات البرية القريبة الأوروبية حينها. قادت لحرب عالمية أتت على غالبية المدن الأوروبية واقتصاد العالم، ومن يومها بات هذا العلم يمثل سمّاً فكرياً وسياسياً منبوذاً أكاديمياً
اليوم، وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يعود الجيوبوليتيك لواجهة الصدارة العالمية في السياسة الدولية؛ تحييها روسيا البوتينية القيصرية بحلتها الجديدة، وعبر بوابة الشرق الأوسط وفي قلب أوروبا. فهل ستستعيد روسيا موقعها العالمي بعدما فقدته عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك حلف وارسو الاشتراكي؟ وهل ستكون الجيوبوليتيكا الروسية معادلاً موضوعياً لجيوبوليتيكا العولمة الأمريكية؟ وهل يمكنها تغيير معادلات السياسة الدولية التي حاولت أمريكيا ومن خلفها الناتو الاستفراد بهيمنة مطلقة فيها، على خلفية الترويج للديموقراطية كـ”أرض الميعاد”، حسب منظرها الأول فوكوياما؟
لا تستطيع مقالة وحيدة، أو دراسة منفردة، الإجابة على مجمل هذه الأسئلة، كما لا يمكن التوقع في شكل المستقبل القريب، خاصة أن المعادلات الجيوبوليتيكية تتسم بعدم الثبات والتغير المرحلي. فهي رغم أنها تدعي أنها نظرية رابعة في السياسة ذات استراتيجية عامة، تتمثل بتكوين حلف أوراسالي جيوبوليتيكي، في مقابل العولمة الجيوبوليتيكية الأمريكية، إلا أنها ذات سياسات تتسم بالتغير القصير والمرحلي، تبدل التحالفات الدولية بشكل جزئي، غير قادرة على إنتاج التحالفات الأيديولوجية طويلة الأمد كسابقتها الشيوعية، وأهم أدواتها العمل العسكري الكلاسيكي لفرض الهيمنة السياسية والاقتصادية، ما يثير قلقاً عالمياً حول إدارة السلم العالمي واستقراره وأمان الكوكب بعامة
النظرية الرابعة في السياسة، عنوان الكتاب الذي أصدره ألكسندر دوغين، المنظّر الأكبر للجيوبوليتيك الروسي، ومن خلفه عدد من المنظرين الروس على المستوى الفكري والسياسي، خاصة مركز كاتخيون للدراسات، تقوم على مجموعة من الأسس النظرية السياسية والطرق التطبيقية في معادلات الواقع العالمي. هذه الأسس النظرية تتسم بمجموعة من السمات الرئيسية أهمها
رفض الأيديولوجيات الشمولية الثلاث السابقة: الشيوعية، الليبرالية، النازية، تحت عنوان التحول لسياسة ديناميكية متحركة غير قابلة للجمود، لكنها بذات الوقت تعيد إنتاج العصبية الأيديولوجية، لا بطريقتها الشمولية المغلقة السابقة، بل بطريقتها الوحدانية وإثارة الاستعداء لكل الفكر البشري ومنتجه الحضاري السابق والحالي.
تشترط العلمية في إحداث المعادلات السياسية وكأنها قوانين فيزيائية، ولكنها بذات الوقت تفترض حتمية تحققها كما في الغائية الشيوعية سابقتها التي أثبتت فشلها. فإن كانت الشيوعية يوتوبيا فكرية، فالجيوبوليتيك ذاته يقع في مأزق الكلاسيكية العلمية التي تثبت الحقائق العلمية العصرية احتماليتها لا حتميتها الوضعية المستقبلية.
التخطيط والتنفيذ المحكم وفق حزم متكاملة من الإدارة: السياسية، والعسكرية، والدولية القانونية، والاقتصادية، وإبرام التحالفات قصيرة المدى. كما وتمارس سياسة الأمر الواقع عسكرياً المسماة سياسة “حافة الهاوية”، مستفيدة من توازن الرعب العالمي النووي
أساس هذه النظرية إقامة التحالفات العسكرية في محيطها الحيوي وفق دوائر ثلاث مركزها روسيا، لكنها بذات الوقت تقوم بإنجاز هذه التحالفات لا على أساس إنجاز الاتفاقات الندية بقدر اتخاذها أحد أسلوبين: إما الأخذ بالقوة العسكرية المباشرة للآماد الصغرى، حسبما أسماها دوغين، وسوريا مثال واضح، وأوكرانيا حالياً، أو الرشوة الجيوعسكرية مع الدول ذات القدرات المالية الأعلى والاقتصاد الأقوى كدول الخليج العربي
تدعي النظرية هذه إيجاد المحيط الأوراسالي بإحداث صلة الوصل بين أوروبا وآسيا. فمن خلال البوابة السورية وعلى حساب شعبها وكارثتها المحدثة اليوم، تمكنت روسيا من فرض تلك المعادلة عبر البوابتين التركية والإيرانية في معاهدات أستانا بدءاً من العام 2017. لكنها بذات الوقت تقيم كل أطر الاستعداء مع الاتحاد الأوروبي من خلال مسألتي القرم وأوكرانيا اليوم عسكرياً، وممارسة الضغط والابتزاز السياسي من خلال موضوع الطاقة والغاز الذي تحتاجه أوروبا، إضافة للغطرسة العسكرية اليوم. ما يجعل تحقيق الدائرة الأوراسية الأوسع ذات نفور أوروبي واسع
تفترض النظرية الاعتماد على العلاقات الإنتروبولوجية التي تشير دراساتها، إلى قبول روسيا العام من قبل سكان الشرق الأوسط وآسيا، ونسبياً في أوروبا، ولكنها بذات الوقت تمارس كل صنوف الاستعداء والغطرسة العسكرية في المواقع التي دخلت إليها، خاصة سوريا وأوكرانيا حالياً، ما يجعلها محط نفور عالمي واسع النطاق
لم تنجح روسيا لليوم بكسب شرعية دولية لخطواتها الجيوبوليتيكية هذه. فإن كان الاستثناء الذي حصلت عليه من خلال المسألة السورية المتجلي بدخولها الحرب على الإرهاب لأول مرة في تاريخها من بوابة مجلس الأمن وفق القرار 2254/ 2015 في فقرته الثامنة، لكن ذات القرار في فقراته الأولى يشير الى ضرورة تحقيق الانتقال والتغيير السياسي في سوريا، وعلى روسيا أن تلتزم بتنفيذه
اليوم روسيا في موقع حاد عالمياً، وعرضة للحصار العالمي، مالياً واقتصادياً وسياسياً، وغالبية تحالفاتها الأوراسية قابلة للانفكاك والتغير، وسياستها الجيوبوليتيكية ونظريتها الرابعة تثبت عنصريتها وغطرستها السياسية والعسكرية ومهددة للسلم العالمي
العالم اليوم يقف على فوهة بركان قابل للانفجار بكل الاتجاهات ووقوده الشعوب التي حاولت أن تكون حرة ومستقلة ولكن سياسات الهيمنة والغطرسة تريد عكس هذا، وباتت قابلة لتفجير الكوكب برمته، ما يستوجب على البشرية بفكرها ومدنيتها إعادة رؤيتها في مسارات السلم العالمي ونبذ سياسات العنف جميعها، سواء الروسية أو المعولمة، وهذا سؤال العصر، وسؤال أوروبا المبدئي