المواجهات من وسط أوروبا حتى شرق آسيا… العالم يترنح على حافة هاوية حرب نووية

يختلف كثير من الخبراء العسكريين والسياسيين فيما يخص إمكانية تحول صراع عسكري
بأسلحة تقليدية إلى مواجهة نووية محدودة أو شاملة داخل منطقة إقليمية محددة أو خارجها، ونفس الخلاف واقع بشأن فرضية حرب نووية عالمية بين القوى الكبرى. البعض يرى أن حربا نووية عالمية ستؤدي إلى فناء الجنس البشري ولهذا فإن الإقدام إراديا عليها مستبعد خاصة وأنها لن تفرز منتصرا غير أن آخرين لهم تقديرات مختلفة. ويشار في نفس الوقت إلى أن هناك احتمالا لوقوع المواجهة النووية نتيجة خطأ في التقدير. في 13 يونيو 2022 حذر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، من أن خطر استخدام السلاح النووي بات حقيقيا لأول مرة منذ عقود. وذكر المعهد إن الترسانة النووية العالمية ستسجل أكبر نسبة نمو لها منذ الحرب الباردة، مؤكدا أن الدول النووية تطور ترساناتها وتشحذ خطابها النووي. وأظهر تقرير لمعهد ستوكهولم أن عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل بعد 35 عاما من التراجع، وسط تفاقم التوترات العالمية. وكانت لدى القوى النووية التسع – بريطانيا والصين وفرنسا والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان والولايات المتحدة وروسيا – 12705 رؤوس حربية نووية في أوائل 2022، أي 375 رأسا أقل مما كانت عليه أوائل 2021، وفقا لتقديرات للمعهد. وقد انخفض العدد من أكثر من 70 ألفا في عام 1986، إذ خفضت الولايات المتحدة وروسيا تدريجيا ترساناتهما الهائلتين اللتين تراكمتا خلال الحرب الباردة. لكن باحثين من معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام قالوا إنه يبدو أن عصر نزع الأسلحة يقترب من نهايته وان خطر حدوث تصعيد نووي هو الآن في أعلى مستوياته في فترة ما بعد الحرب الباردة. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في سنة 1945 تم تسجيل أخطر 5 مرات في التاريخ كان العالم قريبا فيها من الحرب النووية. الأولى خلال الحرب الكورية 1950 إلى 1953 فقد حض أحد أهم جنرالات الجيش الأمريكي، دوغلاس ماك آرثر، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هاري ترومان إلى توسيع الحرب إلى الأراضي الصينية نفسها بإستخدام القنبلة النووية. وفي سنة 1956 خلال العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر بعد تأميمها لقناة السويس أبدى الاتحاد السوفيتي تصميمه على استخدام القوة لسحق مهاجمي مصر، واستعادة السلام في الشرق الأوسط، وهدد باستخدام الأسلحة النووية ضد لندن وباريس. بعد ذلك وخلال سنة 1961 اوشكت أزمة الصواريخ في كوبا في إشعال حرب عالمية ثالثة. في عام 1969 أغرقت كوريا الشمالية سفينة حربية لكوريا الجنوبية، وبعدها اسقطت طائرة تجسس أمريكية، عندها بدأ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ومستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنغر، دراسة خيارات الرد العسكري على كوريا الشمالية وتضمن استخدام السلاح النووي. ليست هذه الحالات الوحيدة التي كان العالم فيها على شفا هاوية استخدام الأسلحة النووية، لكنها أبرزها. منتصف سنة 2022 وبعد مرور ستة أشهر تقريبا على نشوب الحرب في وسط شرق أوروبا بين روسيا وحلف الناتو، وتصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة حول جزيرة تايوان تكثر التحذيرات من نشوب نزاع نووي. تقدر مصادر رصد خاصة في برلين أن حرب موسكو العسكرية في أوكرانيا وتعثر جهود الغرب في فرض الحصار على روسيا وتأزيمها اقتصاديا وبالتالي فشله في منع زعزعة النظام العالمي القائم على القطبية الواحدة وهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، تزيد من خطر اللجوء إلى السلاح النووي على أمل تعديل موازين القوى لصالح الغرب.
حرب
صرح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنغر إن الولايات المتحدة تقف “على شفا حرب مع موسكو وبكين بشأن قضايا خلافية نحن مسؤولون جزئيا عن ظهورها”. وقال كيسنغر الذي كان مستشارا للأمن القومي والذي شغل كذلك منصب وزير الخارجية من عام 1973 إلى عام 1977 خلال مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال يوم 13 أغسطس 2022: “نحن على وشك الدخول في حرب مع روسيا والصين بشأن قضايا نحن مسؤولون جزئيا عن ظهورها، دون أي يكون لدينا أية فكرة عن كيفية إنهائها، أو ما الذي ستؤدي إليه”. وأشار كيسنغر إلى أن “كل ما يمكن فعله ليس تصعيد التوتر ومن ثم خلق خيارات، وإنما منذ البداية يجب أن يكون هناك هدف من وراء هذا التصعيد”. وفي حديثه عن أوكرانيا، أشار كيسنغر إلى أنه اعتبر في وقت سابق أن أفضل دور يمكن لهذا البلد أن يلعبه هو “دور شبيه بفنلندا” التي ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي، في حين “أفضل دور” لهذا البلد الآن، وبعد العملية الخاصة التي تنفذها روسيا، أعتقد انه تجب معاملة أوكرانيا كبلد عضو في الناتو، هذا ينبغي أن يتم بطريقة أو بأخرى، سواء بشكل رسمي أم لا”.
خطوة واحدة غير محسوبة
بداية شهر أغسطس 2022 حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، من أن العالم على بعد “خطوة واحدة غير محسوبة من الإبادة النووية”، موقظاً بذلك شبح الحرب الباردة، في وقت دعت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، روسيا إلى التخلي عن “خطابها النووي”. وتحدث غوتيريش عن أزمات “متفاقمة” في الشرق الأوسط، وفي شبه الجزيرة الكورية، وفي أوكرانيا، معرباً عن مخاوفه من حصول تصعيد. وقال في مستهل مؤتمر للدول الـ191 الموقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية: “حالفنا الحظ بشكل استثنائي حتى الآن، لكن الحظ ليس إستراتيجية، ولا يقي من التوترات الجيوسياسية، التي تتفاقم إلى حد النزاع النووي”. وأضاف: “البشرية اليوم على بعد سوء تفاهم واحد، خطوة واحدة غير محسوبة من الإبادة النووية”، معتبرا أن العالم يواجه “خطرا نوويا لا مثيل له منذ ذروة الحرب الباردة”. من جانبه، دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن روسيا والصين للمشاركة في المحادثات الرامية للحد من انتشار الأسلحة النووية، مشيرا إلى أن على موسكو تحديدا التحلي بالمسؤولية، وكرر أن إدارته مستعدة “للتفاوض سريعا” على بديل لمعاهدة “نيو ستارت”، التي تضع حدا للقوة النووية العابرة للقارات في الولايات المتحدة وروسيا، والتي ستنقضي مهلتها عام 2026. بدوره، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يمكن أن يكون هناك “رابحون” في حرب نووية لا ينبغي “إطلاق العنان لها أبدا”، مشددا على أن بلاده بقيت وفية لـ”نص وروح” المعاهدة. أندريه بيلوأوسوف نائب رئيس الوفد الروسي، من جانبه صرح في مؤتمر مراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، إنه يمكن توقع أن تبرر دول الناتو في المستقبل أي استخدام للأسلحة النووية. وأشار بيلوأوسوف إلى أن الناتو بات يتمتع وبشكل نهائي بصفة التكتل السياسي- العسكري النووي، “وهو ما تمت الإشارة إليه بشكل مباشر في الإعلان الختامي لقمة الحلف في مدريد”. وأضاف: “هذا الأمر يجبرنا على النظر بشكل مختلف إلى وضع الأعضاء غير النوويين في الحلف، وخاصة الدول التي تسمح بنشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيها. وفي هذه الحالة يبدو ملحا فعلا سؤال، كيف يتوافق وجود أسلحة نووية أجنبية على أراضي الدول الأوروبية ومشاركتها في تحالف نووي، مع التزاماتها بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”.
وشدد الدبلوماسي الروسي على أن موسكو تطرح منذ فترة طويلة كذلك سؤالا حول “المهمات النووية المشتركة” التي ينفذها الناتو في مجال اختبار استخدام الأسلحة النووية، والتي يشارك فيها أعضاء غير نوويين في الحلف بشكل نشط.
مشاركة مباشرة
يوم 21 أغسطس كتب غيفورغ ميرزايان، في “فزغلياد”، أنه من المرجح دخول الولايات المتحدة والناتو بشكل مباشر في الحرب في أوكرانيا. واشنطن التي تزود أوكرانيا بأحدث أنظمة الأسلحة، تغطي “أو حتى تشجع” تهديد كييف النووي، وتدفع تايوان نحو الاستقلال وبالنتيجة، وجدت واشنطن نفسها على شفا حرب مع روسيا والصين. لسوء الحظ، الأمر لا يتوقف على الاتجاه الذي يتطور فيه الوضع في أوكرانيا. هذا ما حذر كيسنغر إدارة بايدن منه. وفي الصدد، كتبت “وول ستريت جورنال”: “تخشى الولايات المتحدة من الانجرار إلى الحرب من خلال رهانها على أوكرانيا وخسارة أوكرانيا، بل وحتى إذا انتصرت أوكرانيا. في أي سيناريو ناجح تقريبا، سيكون تدخل الناتو مطلوبا لتأمين النتيجة النهائية، أي رسم خط أحمر لمنع بوتين من اتخاذ أي إجراء”. بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة على وشك الدخول في مواجهة حقيقية مع روسيا. علاوة على ذلك، فهم يقودون حلفاءهم الأوروبيين في الناتو إلى حافة الهاوية. أولئك الذين اقترحوا على موسكو مؤخرا حل مشكلة القصف الأوكراني لمحطة الطاقة النووية في زابوروجيه، ليس بمعاقبة المسؤولين في كييف، إنما بوضع محطة الطاقة النووية هذه تحت سيطرة هؤلاء. وكانت القوات الروسية قد سيطرت على المحطة النووية في شهر مارس 2022 مع بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. يذكر أن موسكو وبعد سيطرتها على محطة زابوروجيه أعلنت العثور على حوالي 40 طنا من اليورانيوم عالي التخصيب وحوالي 40 كيلوغراما من البلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة وطلبت من الوكالة الدولية للطاقة الذرية التحقيق في الأمر. وأفاد الكرملين أن هذه المواد لا ينبغي أن تكون لدى أوكرانيا، وفق بنود مذكرة بودابست الخاصة بالانسحاب من عضوية النادي النووي. زيادة على ذلك فتلك الاحتياطيات لا يمكن أن تكون قد صنعت في هذه المحطة على الإطلاق فإنتاجها يتم وفقا لتكنولوجيا فائقة في مؤسسات منفصلة. وهذا يعني أن اليورانيوم عالي التخصيب والبلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة الذي تم العثور عليه ربما تم استيرادهما من إحدى القوى النووية الغربية وهذا ما يرجح أنه كانت هناك مخططات لتصنيع قنبلة نووية من نوع ما.
استخدام السلاح النووي
يوم 18 أغسطس أفاد خبر لوكالة رويترز أن وزارة الخارجية الروسية، أكدت، أن استخدامها للسلاح النووي مرهون “فقط” بالرد وفي الظروف الطارئة. وذكرت الوزارة أنه ” لا مصلحة لنا في مواجهة مباشرة مع الناتو والولايات المتحدة”. وفي إفادة صحفية، الخميس، قال المتحدث باسم الخارجية الروسية، إيفان نيتاشيف، إن “الأسس العسكرية الروسي تتيح الاستخدام النووي فقط للاستجابة لتهديد بدمار شامل أو لدى تعرض تواجد الدولة نفسها للتهديد”. وأضاف “هذا هو الاحتمال الذي قد يتيح استخدام السلاح النووي كجزء من استجابة لهجوم دفاعا عن النفس أو عندما يتم تهديد تواجد الدولة”. وكان وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، قد قال يوم الثلاثاء 16 أغسطس، إنه لن “تكون هناك حاجة” لاستخدام الأسلحة النووية في الحملة التي تشنها روسيا على أوكرانيا، وفي رد على تقارير إعلامية رجحت لجوء موسكو إلى استخدام السلاح النووي أو الكيماوي، قال: “إنها محض أكاذيب”.
يوم 16 أغسطس 2022 نشر الكاتب، ماثيو دولي، من صحيفة “ديلي ميل” البريطانية مقالا يتحدث عن تحذير “خطير” وجهه الرئيس الروسي، إلى الغرب. ويتناول المقال كسر محاولات الغرب منع دول مثل إيران وكوريا الشمالية من الحصول على أسلحة متطورة وقوية، حيث أعرب الرئيس بوتين، خلال خطابه يوم 15 أغسطس، أثناء افتتاح معرض “الجيش 2022″، عن استعداد موسكو لتزويد هذه الدول، من بين دول أخرى تشكل تهديدا للغرب بأسلحة متطورة وحديثة. وتابع الكاتب من “ديلي ميل” أن ممثلين عن أكثر من 70 دولة حضروا في الفعالية الروسية، رغبة من بعضها في إجراء عمليات شراء محتملة للأسلحة الروسية. وأشار الكاتب إلى أن من بين الحلفاء لروسيا فنزويلا، وكوبا التي تبعد عن ساحل مدينة ميامي الأمريكية 90 ميلا فقط، وهو ما يجعل من إمداد روسيا لهذه الدول المعادية للغرب بالأسلحة المتطورة للغاية بمثابة استفزاز للغرب. وتعد روسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وتبيع أسلحتها إلى الصين وفيتنام والهند وإيران ودول أخرى.
الهدف الحقيقي
صرح المؤرخ والفيلسوف الأمريكي، نعوم شومسكي، أن الولايات المتحدة التي تدعم كييف وتسعى لإنشاء تحالف للدول الغربية ضد موسكو، تحاول بهذه الصورة إضعاف مواقع روسيا لأقصى حد ممكن. وذكر شومسكي إن واشنطن تريد أن تمنع موسكو من إمكانية تسوية الأزمة الأوكرانية بطريقة دبلوماسية، الأمر الذي يمكن أن يزيد حدة التوتر في العالم إلى أقصى حد ممكن، مذكرا أن هذا القرار اتخذه الناتو أثناء قمته في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا. وأوضح: “في تلك القمة وافق الحلف، على الموقف الرسمي للولايات المتحدة الذي ينص على أنه من الضروري تحقيق إضعاف روسيا لأكبر حد ممكن، لكي لا يكون بإمكانها القيام بالمزيد من الأعمال العسكرية المعادية الواسعة النطاق. وإذا فكرنا في ذلك بشكل جيد فيعني ذلك أنه من الضروري إضعاف روسيا بشكل أكثر مما عملته اتفاقية فيرسال لعام 1919 بألمانيا. إنها تحتاج إلى تقويض قوة روسيا إلى حد لن يسمح لها بإجراء مفاوضات والقيام بعمل دبلوماسي”. كما عبر الباحث عن خيبة أمله من استعداد الدول الأوروبية للخضوع لقرارات البيت الأبيض لتجنب وصفها بـ “الخائن” للقيم الغربية. وأضاف: “تدعم أوروبا وجهة النظر هذه. كان الأمريكيون دائما يتمسكون بهذه السياسة، غير أن ألمانيا وفرنسا كانتا تجريان العملية الدبلوماسية البديلة، لكن في هذه القمة وافقتا على الموقف الأمريكي”. وعبر شومسكي عن اعتقاده بأن الموقف الأوروبي من الأزمة الأوكرانية ليس عادلا، وكيفية عرض ما يحدث في أوكرانيا في وسائل الإعلام الدولية. وتابع: “أهتم جدا بمتابعة ما تكتبه وسائل الإعلام الأمريكية التي تصف التطورات الأوكرانية بأنها نزاع “غير مبرر”. وهذا هو الوضع الوحيد الذي من الممكن فيه استخدام هذا المصطلح… وهو يشير إلى وجود فهم أن ما يحدث تمت إثارته بالفعل. لذلك بالذات يجب تكرار هذه العبارة دائما. ولا يستخدمها أحد عندما يدور الحديث عن النزاعات الأخرى”. ووصف شومسكي رغبة واشنطن القديمة لجذب أوكرانيا إلى حلف الناتو رغم احتجاجات موسكو المستمرة والتحذيرات من جانب الساسة الأمريكيين ذوي الخبرة، وصفها بأنها استفزاز. وتابع: “كانت روسيا قد أفهمت منذ 30 عاما، أي قبل سنوات طويلة قبل بوتين، بأن ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو حلف عسكري عدائي، سيعني عبورا للخط، وأن أي زعيم روسي لن يوافق على ذلك، لا غورباتشوف ولا يلتسين ولا بوتين. وفهم عدد من الساسة الأمريكيين الكبار ذلك، وبينهم جورج كينان وهنري كيسنغر وجيك ميدلوك ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز. وفهم ذلك موجود منذ وقت بعيد. ومنذ التسعينيات من القرن
الماضي يحاولون تحذير المسوؤلين الأمريكيين من أن محاولات ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ستكون تهورا واستفزازا”.
255 مليون قتيل
في دراسة نشرت يوم 15 أغسطس 2022، حذر العلماء من أن نشوب حرب نووية إقليمية قد تسبب مجاعات في أنحاء العالم، وقام باحثون بجامعة روتجرز في مقاطعة نيو برانزويك بالولايات المتحدة الأمريكية بعمل نموذج حسابات، يحاكي آثار حرب من هذا القبيل، من خلال انتشار جزيئات السخام في أعلى الغلاف الجوي، فسوف يحجب السخام جزءاً من ضوء الشمس ويؤدي إلى إتلاف المحاصيل. وأضاف العلماء في الدراسة، التي نشرت وكالة الأنباء الألمانية تقريرا موجزا عن نتائجها: “في حرب نووية ستطلق القنابل، التي تستهدف المدن والمناطق الصناعية، عواصف من النيران، وتنبعث منها كميات كبيرة من السخام في أعلى الغلاف الجوي، وسوف ينتشر هذا السخام عالميا، ويؤدي إلى تبريد الكوكب بشكل متسارع”. وكشفت الدراسة، أن خمسة مليارات شخص أو 75 في المئة من سكان العالم سيموتون من الجوع تدريجيا، في حال اندلعت حرب نووية شاملة بين روسيا والولايات المتحدة. وبغض النظر عن الخسائر البشرية المباشرة والتي يمكن أن تقدر بمئات الملايين، حذرت الدراسة من أن معدل الوفيات الناتجة عن إنهيار الأمن الغذائي يمكنها أن تقضي على معظم سكان العالم. وأوضح الباحثون في تلك الدراسة التي نشرت في مجلة Nature Food أن الصراع النووي سيؤدي إلى اضطرابات “كارثية” في الإمدادات الغذائية، حيث سيحجب الرماد الشمس عن المحاصيل الزراعية ويؤدي إلى ذبولها. كذلك، نبهوا إلى أن مثل هذا السيناريو سيؤدي إلى انخفاض بنسبة 90 في المئة في غلات الحيوانات وصيد الأسماك والمحاصيل في جميع أنحاء العالم في غضون أربع سنوات من الصراع بين القوى النووية الكبرى، بحسب ما نقلت صحيفة “واشنطن بوست”. بل حذروا من أنه حتى في حال اندلعت حرب نووية على نطاق مصغر بين باكستان والهند على سبيل المثال، فمن شأنها أن تدمر الإمدادات الغذائية وتخفض الإنتاج العالمي بنسبة 7 في المئة في غضون خمس سنوات، وتقتل ما يصل إلى 2.5 مليار شخص. وتوقعت الدراسة أن يكون انعدام الأمن الغذائي في مثل تلك السيناريوهات أكثر فتكا من الانفجارات النووية. وفي أصغر سيناريو محسوب، سوف تقذف 100 قنبلة نووية، تبلغ القوة التفجيرية لكل منها 15 ألف طن نحو خمسة ملايين طن من السخام في أعلى الغلاف الجوي، وتشير عمليات المحاكاة إلى أن 27 مليون شخص سوف يموتون مباشرة، وأن 255 مليون شخص آخرين سوف يموتون جراء المجاعة في مناطق شتى بالعالم، وهذه الأرقام لم تأخذ في الحسبان عواقب التلوث الإشعاعي. وقال أحد المشاركين في الدراسة: “هذه الأرقام تظهر لنا شيئا واحدا، ألا وهو أنه يتعين علينا منع اندلاع حرب نووية مطلقاً”، وأن فرض حظر على استخدام الأسلحة النووية هو الحل الوحيد على المدى الطويل.
مخاطر نووية
كتب المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف حول تطورات الحرب وسط شرق أوروبا وخطر تحولها إلى نووية: لدى الغرب موارد، أي نوع من الموارد أكثر من روسيا. والحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية لا تدور في أوكرانيا، بقدر ما تدور في الاقتصاد، هي حرب استنزاف، حرب موارد.
وفي كل مرحلة، يعطينا الغرب جزرة أو يستخدم العصا لنقلنا إلى مستوى جديد من المواجهة، ما يعني مستوى جديدا من إنفاق الموارد. وإذا أديرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا على المستوى الراهن، فسوف تنفد موارد أوكرانيا أولا، وستنهار، خاصة إذا كان الغرب في تلك اللحظة يعاني من أزمته الاقتصادية الخاصة به. فإذا أعلننا التعبئة العامة، وتوجهنا بسرعة نحو الغرب، فسوف تزج الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب ببولندا ورومانيا ودول البلطيق. وسوف نقف مجددا بين خياري المزيد من التعبئة والركود الدموي النازف على الجبهة أو الهزيمة. فإذا ما أجرينا حينها مزيدا من التعبئة، وألقينا بكل قواتنا في المعركة، ستزج الولايات المتحدة الأمريكية بكل أوروبا إلى الحرب، لنجد أنفسنا ما بين خيارين: فإما الحرب النووية أو الهزيمة. أما تكتيكات بوتين الراهنة تجعل من الممكن توقع دخول الغرب في أزمة اقتصادية عميقة، وزعزعة للاستقرار الداخلي قبل أن تدخل روسيا فيها. لقد نجحت الولايات المتحدة الأمريكية بالفعل في إجبار روسيا على الدخول في الحرب بأوكرانيا، والآن تحاول إجبارها على الانتقال إلى مستوى أعلى من المواجهة، حيث يقوم الغرب برفع مستوى الاستفزازات تدريجيا، متحسسا الخط الذي لا تستطيع روسيا عنده السكوت. من جانبها، تتأقلم موسكو مع الإمدادات المستمرة والمتزايدة من الأسلحة الغربية. ومع ذلك، يبدو أن الغرب قد قرر اللجوء إلى الاستفزاز النووي، حيث قصف الجيش الأوكراني محطة الطاقة النووية في زابوروجيه عدة مرات. اليوم تضرر بالفعل نظام التبريد بأحد المفاعلات. أسبوع آخر من مثل هذه الهجمات، وقد ينتهي الأمر بكارثة تشيرنوبيل جديدة. في واقع الأمر، هذا أسوأ من القصف النووي للأراضي الروسية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيكون بوتين مضطرا للرد على ذلك. دعونا نرى ما إذا كان بإمكانه الإفلات من هذا التحدي، وانتظار الشتاء، عندما يصبح الوضع في أوروبا، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية، كارثيا.
السبب الجذري
ذكرت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية يوم 19 أغسطس 2022 إن التناقض بين ما تشهده الولايات المتحدة من تراجع، وعقليتها التي ترى أنها القوة الأكبر في العالم، هو السبب الجذري للانقسام والفوضى في العالم. وأوضحت الصحيفة في مقال أن جوهر المشكلة ليس في ما فعلته موسكو وبكين أو لم تفعلانه، ولكن في ما إذا كانت الولايات المتحدة والغرب سيكونان قادرين على التغلب على مخاوفهما بشأن تدهورهما. وفيما يتعلق بالنظام الدولي، قالت الصحيفة إن الولايات المتحدة هي أبرز ممثل للهيمنة، في حين أن الصين وروسيا “تدافعان في الواقع عن النظام الدولي والصدق والعدالة”. وأضافت أنه إذا أصبحت الولايات المتحدة في عداوة مع الصين وروسيا، فإنها “تعزل نفسها في العالم”.
نهاية الليبرالية
الصراع بين الشرق والغرب ممثلا حاليا في روسيا والصين ومن يمكن اعتبارهم من انصارهما من جانب والغرب الممثل في أمريكا وحلف الناتو وآخرين هو نزاع نفوذ ومصالح وكذلك تنافس بين نظامين سياسيين واقتصاديين مختلفين. في أحدث كتاب للعالم السياسي الأمريكي فرنسيس فوكوياما الذي يقترن اسمه لدى كثيرين بكتابه “نهاية التاريخ” يفتتح فوكوياما بتعريفه الليبرالية في سياقها الكلاسيكي “الليبرالية والامتعاض منها”.
رأى فوكوياما انتصار الديمقراطية الليبرالية على الدكتاتورية الشيوعية، أواخر القرن الماضي، على أنها انتشار تام لليبرالية ونهاية الصراعات حول العالم، وتاليا نهاية التاريخ. لكن منذ مطلع القرن و”نهاية التاريخ”، اعاد فوكوياما النظر فيما كتبه. وحسب محلل سياسي ومنعا للالتباس، يفتتح فوكوياما كتابه بتعريفه الليبرالية في سياقها الكلاسيكي، وهي فلسفة سياسية ترى أن الدولة مبنية على المواطنين كأفراد، على عكس الفلسفات السابقة التي تتشكل بموجبها الدول من تحالف بين رؤساء القبائل والعشائر وتلغي وجود الفرد واستقلاله وحريته في خياراته. في بريطانيا، أدت الحرب الأهلية في القرن السابع عشر إلى توق بعض المفكرين إلى حاكم قوي يفرض الأمن، لكن هذا الحاكم استبد بأمره وحرم الفرد معظم حريته، فكان لا بد من البحث عن حل وسط بين قوة الحاكم المطلوبة لاستتباب الأمن وحقوق المحكوم، فكانت الليبرالية، التي تمنح الفرد حقوق الملكية المادية والفكرية، وحرية الاختيار في العبادة كما في التصرفات الشخصية الاجتماعية، بما فيها الجنسية، واختيار مكان الإقامة ونوع العمل. الحق الوحيد الذي يتخلى عنه الفرد ويفوضه لمؤسسات الدولة هو استخدام العنف، فتستخدم الدولة التفويض بالعنف حتى تحمي المواطن من الآخرين ولتحمي الآخرين منه. لكن عنف الدولة قد يؤدي إلى التعسف، وهو ما فرض إقامة مراكز قوى متعددة داخل الدولة تراقب ويحاسب بعضها البعض الآخر. بعد نهاية الحرب الباردة في العام 1990، انتشرت الليبرالية في العالم وساد السلام بشكل غير مسبوق. لكن البشر حملوا الليبرالية أكثر مما تحتمل، فتوقعت الغالبية أن تدر الليبرالية عليهم الأموال والرفاهية. ما حصل، عوضا عن ذلك، هو أن الليبرالية كمنظومة أممية أدت إلى إلغاء الحدود والعولمة، فهربت بعض رؤوس الأموال إلى حيث اليد العاملة الأرخص، وخسرت مجموعات عمالية كثيرة أعمالها ومصادر رزقها، وضعفت الدولة بسبب انعدام قدرتها على إغلاق حدودها لمنع هروب الأموال إلى حيث العمالة الأرخص أو تدفق اللاجئين الذي قدموا يدا عاملة أرخص من المحلية. هكذا اتسعت الفوارق بين الأكثر ثراء والأكثر فقرا في سياسة اسمها نيوليبرالية، وهي تختلف عن الليبرالية الكلاسيكية التي لا تتدخل في سياسات الاقتصاد، بل تنحصر في تحديد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكوم. انتقال الاقتصاديات المتطورة من الصناعة إلى المعرفة ساهم بتعميق الأزمة أكثر، وسمح انتشار الفقر بصعود السياسيين الشعوبيين من اليمين الشوفيني المتطرف، الذي طالب بإغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين والتخلي عن التجارة العالمية، كما من اليسار العالمي المتطرف كذلك، والذي اعتبر أن المعركة هي بين فقراء كل العالم ضد أغنياء كل العالم. وتسبب غضب الطرفين اليميني واليساري بتراجع الوسط والليبرالية، وتجلى ذلك بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول دونالد ترمب إلى رئاسة الولايات المتحدة. ويعبر فوكوياما عن قلقه لأن الغضب العالمي ضد العولمة، خصوصا عند الغربيين، تحول إلى تخل عن المبادئ الليبرالية المؤسسة للديموقراطيات الغربية، فصار كل من اليمين واليسار يعبر عن غضبه ضد الجمهورية ونظامها ومؤسسات الدولة، ويطالب بالانقلاب على هذه المؤسسات بالكامل، وأحيانا اللجوء للعنف لتدمير الدستور والمؤسسات وقوى الأمن والشرطة. ويطالب اليمين اليوم باستبدال الدولة ومؤسساتها بحكم رجل قوي، سيتحول حتما إلى ديكتاتور، في وقت يطالب اليسار بنسف الدولة بالكامل وتحويلها إلى حكم لجان شعبية. كما يتصور كل من الطرفين الآخر على أنه عدو يهدد وجوده، لا مجرد منافس في السياسة يتبارى ضده للفوز بالانتخابات وإقرار رؤية ما أو سياسات في الحكم. على الرغم من قلق فوكوياما على مصير ومستقبل الليبرالية الغربية والمؤسسات المبنية عليها من اتساع رقعة ونفوذ معادي الليبرالية من اليمين واليسار المتطرفين، إلا أنه يستبعد أن ينجح أي منهما في تقويض الجمهورية الأمريكية بسبب القوة الكافية التي تتمتع بها المؤسسات القائمة والتي تحمي الدستور والدولة، مثل الجيش والقضاء والقوى الأمنية.
في الفصول الأخيرة من الكتاب، يتوجه فوكوياما الى كل من الطرفين في محاولة لتوعية كل منهما، فيقول لليسار ألا تناقض بين الأممية والحاجة إلى بقاء الدول والحكومات قائمة بحدودها الحالية. ويكتب فوكوياما: “في وقت قد تكون حقوق الإنسان شريعة أممية، إلا أن فرضها ليس أمميا لأن فرض القوانين منوط بحكومات ذات حدود جغرافية معينة”. ويتابع القول إن “الدول الليبرالية مبررة بالكامل في تمييزها في الحقوق بين المواطنين وغير المواطنين لأن لا موارد أو مسوغ لهذه الحكومات لفرض الحقوق أمميا”، وإن “كل الأشخاص المقيمين في دولة ما يتمتعون بالحماية القانونية نفسها، لكن المواطنين المشاركين في العقد الاجتماعي وحدهم من يتمتعون بحقوق وواجبات خاصة، خصوصا حق الاقتراع”. أما اليمين الغربي، فينصحه فوكوياما بالتخلي عن عنصريته البيضاء واستبداله بالمواطنية التي ينادي بها. ويقول المفكر الأمريكي إنه لو تخلى اليمين عن “سياسة الهوية” لاستقطب الأمريكيين غير البيض، ومعظم هؤلاء هم من المهاجرين الجدد ممن يحملون أفكارا اجتماعية واقتصادية محافظة تتوافق مع أفكار اليمين الأوروبي والأمريكي، وهو ما يسمح لليمين باكتساح الانتخابات بدلا من التحريض ضد الأقليات واستخدام سياسة التهويل لتحفيز البيض على التصويت. ويختم فوكوياما كتابه بالقول إنه لو قيض لكل من اليمين أو اليسار الحكم وهذا ما حصل جزئيا مع اليمين في فترة حكم ترمب، فإن التغييرات التي يعد بفرضها لن تتحقق لعدم واقعيتها، بل أن كل من الطرفين سيواصلان الحكم حسب النظام والأعراف السائدة، مع تغييرات طفيفة في السياسات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.