العالم يقترب من حافة هاوية حرب عالمية ثالثة…
معركة أوكرانيا بين الحسم العسكري والتسوية التفاوضية

بخطوات تدريجية ولكن ثابتة تقرب الأزمة الأوكرانية المتولدة من الصراع الروسي الأمريكي العالم من حرب نووية شاملة. يوم الأحد 27 فبراير 2022، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزارة الدفاع بوضع قوات الردع الاستراتيجي الروسية في حالة تأهب قتالي خاصة، وهو ما يتيح استخدام أسلحة نووية.
وجاءت أوامر الرئيس الروسي خلال اجتماعه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف. وشدد بوتين على أن هذه الخطوة تأتي ردا على مسئولي الغرب الذين “لم يكتفوا باتخاذ خطوات عدائية اقتصادية وحسب… بل أدلى مسئولوهم في حلف الناتو بتصريحات عدوانية ضد روسيا”.
التحذير الصادر من الكرملين ذكر العالم بأزمة الصواريخ في كوبا التي بدأت في 8 أكتوبر 1962 وكادت أن تشعل نار حرب عالمية ثالثة، ففي ذلك الوقت اتفق الاتحاد السوفيتي على وضع صواريخ إستراتيجية في القواعد الكوبية التي تبعد 140 كلم عن الأراضي الأمريكية، وجاء ذلك ردا على نشر الولايات المتحدة صواريخ “ثور” في بريطانيا ضمن مشروع “إميلي” عام 1958، بالإضافة لنشر صواريخ “جوبيتر” في كل من إيطاليا وتركيا عام 1961، وذلك بهدف تطويق الاتحاد السوفيتي بأكثر من 100 صاروخ ذات رؤوس نووية.
واشنطن خلال رئاسة جون كيندي رفضت وضع صواريخ سوفيتية في كوبا ووصل الأمر إلى استنفار نووي لدى الطرفين وبدء العد العكسي للحرب. انتهى الأمر يوم 28 من أكتوبر 1962 بعد الوصول إلى تسويات سحبت بموجبها موسكو صواريخها من كوبا شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا وأن تتخلص بشكل سري من صواريخ “ثور” و”جوبيتر” المنصوبة في بريطانيا وكل من إيطاليا وتركيا.
بعد حوالي 60 سنة من هذه المواجهة أصبح واضحا أن موسكو تريد أن تصل إلى تسويات مماثلة وأن تحمي نفسها من التهديد الناتج عن سعي واشنطن لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو لتضع على أراضيها معدات عسكرية وأسلحة نووية تهدد روسيا، وذلك بعد أن خالفت واشنطن التعهدات التي أخذتها على نفسها عام 1990 عندما أكد وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الحين جيمس بيكر للرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف بعدم لتوسيع الناتو “شبرا واحدا إلى الشرق”.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ضمت الولايات المتحدة إلى الناتو دول لاتفيا، وسلوفينا، وليتوانيا، وسلوفاكيا، ورومانيا، وبلغاريا، واستونيا، وبولندا، ورومانيا، والبانيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية.
رفض حكومة كييف وواشنطن وحلف الناتو طلبات الكرملين بعدم ضم أوكرانيا للحلف قادت إلى رد موسكو بشن الحرب، واقتراب العالم من حافة هاوية حرب نووية.

مخرج التفاوض

تهديدات الرئيس بوتين شكلت صدمة خاصة لدى خصوم روسيا، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيل، وصفت الخطوة بأنها “غير مقبولة،” في مقابلة مع شبكة سي بي إس نيوز.
وقالت غرينفيلد”هذا يعني أن الرئيس بوتين، يواصل تصعيد هذه الحرب بطريقة غير مقبولة على الإطلاق، وعلينا أن نواصل وقف أفعاله بأقوى طريقة ممكنة”.
في واشنطن وحتى ليلة الأحد الاثنين اكتفى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن بالتأكيد أن اليابان والولايات المتحدة والشركاء في مجموعة السبع “يقفون معا بحزم لوقف العدوان الروسي على أوكرانيا”.
وأضاف بلنيكن في تغريدة أن ” العقوبات المالية الشاملة التي تفرضها اليابان هي أنعكاس لعقوباتنا، وتظهر وحدتنا وتصميمنا على إنهاء الحرب التي تختارها روسيا”.
مسؤول عسكري أمريكي رفيع المستوى قال لوكالة أسوشييتد برس، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن خطوة بوتين “من المحتمل أن تجعل الأمور أكثر خطورة بكثير”.
ولم يكشف مسئولو الدفاع الأمريكيون عن موقفهم النووي الحالي، باستثناء القول إن الجيش مستعد في جميع الأوقات للدفاع عن وطنه وحلفائه.
وذكرت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، جين ساكي، إن بوتين يلجأ إلى نمط استخدمه في الأسابيع التي سبقت شن الغزو، “وهو صنع تهديدات غير موجودة من أجل تبرير المزيد من العدوان”.
وذكرت باسكي لبرنامج “هذا الأسبوع” على شبكة “أيه بي سي” إن روسيا لم تتعرض لتهديد من قبل حلف شمال الأطلسي أو أوكرانيا.
وأضافت بساكي: “لدينا القدرة على الدفاع عن أنفسنا، لكننا نحتاج أيضا إلى تحديد ما نراه هنا”.
الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، صرح لشبكة سي إن إن، “هذا خطاب خطير. هذا سلوك غير مسؤول “.
وجاء أمر بوتين في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن وفدا من كييف سيتفاوض مع موسكو حيث سيلتقي بالمسئولين الروس دون شروط مسبقة، على حدود بلاده مع روسيا البيضاء. وكان زيلينسكي قد اشترط في وقت سابق إجراء المفاوضات في تركيا أو بولندا.
فيما يتعلق بتهديد موسكو النووي قال مراسل بي بي سي الأمني، غوردون كوريرا، إنها طريقة روسيا لإرسال تحذير إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بدلا من الإشارة إلى نية استخدامها.

تراجع

الأول من شهر مايو وفي تفاعل جديد من واشنطن مع قرار الكرملين قالت متحدثة البيت الأبيض جين بساكي إن إمكانية بحث رفع العقوبات عن روسيا مرهونة بجنوحها للتهدئة، معتبرة استنفار قوات الردع النووي الروسية “أمرا خطيرا”.
وأضافت: “إذا بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اتخاذ خطوات نحو وقف التصعيد، فأنا متأكدة من أنه يمكننا التحدث عن ذلك”.
وعن استنفار قوات الردع النووي الروسية، قالت: “نعتقد أن مثل هذا الخطاب الاستفزازي حول الأسلحة النووية أمر خطير ويزيد من مخاطر سوء التقدير ويجب تجنبه ولن نتغاضى عنه”.
ولفتت إلى أن “الولايات المتحدة وروسيا اتفقتا في السابق ولفترة طويلة على أن استخدام الأسلحة النووية سيكون له عواقب وخيمة”.
واسترسلت: “كما قيل مرارا وتكرارا، بما في ذلك في وقت سابق من هذا العام، لا يمكن كسب الحرب النووية وهي لن تبدأ أبدا.. لذلك لا نرى أي سبب لتغيير مستوى التهديد لدينا”.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد صرح قبل ذلك يوم الاثنين أنه لا داعي للقلق بشأن الحرب النووية. ورد بايدن بـ”لا”، على صحفي توجه له بسؤال حول الموضوع، مشيرا إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول وضع قوات الردع في حالة تأهب قصوى.
في موسكو أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يوم الاثنين 28 فبراير أن قوات الثالوث النووي الروسي بدأت بالمناوبات بطواقم معززة.
وحسبما أفادت وزارة الدفاع للصحفيين، فإن شويغو أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه تنفيذا لأمره، بدأت مراكز التحكم التابعة لقوات الصواريخ الاستراتيجية والأسطول الشمالي وأسطول المحيط الهادئ وقيادة الطيران بعيد المدى، بالمناوبات القتالية بطواقم معززة.

مقامرة أوروبية

في الوقت الذي صدرت من واشنطن تصريحات توحي بالتوجه إلى التهدئة يسجل أن أطرافا أوروبية واصلت عملية التصعيد ويميل محللون إلى وجود ضغوط ألمانية في هذا الاتجاه.
فيوم الثلاثاء الأول من مارس أفاد المكتب الصحفي للقوات البحرية الأوكرانية بأن بلغاريا وبولندا وسلوفاكيا نقلت لأوكرانيا 70 طائرة حربية قد تكون مرابطة في المطارات البولندية.
وكتب المكتب في صفحته على “فيسبوك”، يوم الثلاثاء: “70 طائرة للجيش الأوكراني، ينقل شركاؤنا إلينا طائرات من طراز “ميغ-29″ و”سو-25″ وعند الحاجة من الممكن أن تكون مرابطة في المطارات البولندية التي سينفذ الطيارون الأوكرانيون مهامهم القتالية منها”.
وأضاف أن بلغاريا تنقل لأوكرانيا 16 مقاتلة من طراز “ميغ-29” و14 طائرة هجومية من طراز “سو-25” فيما تنقل بولندا 28 مقاتلة من طراز “ميغ-29” وسلوفاكيا – 12 مقاتلة من طراز “ميغ-29”.
من جانبه أعلن مفوض الاتحاد الأوروبي للأمن والخارجية جوزيب بوريل أن وزراء خارجية دول الاتحاد وافقوا على تزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة بقيمة 450 مليون يورو.
وقال بوريل في مؤتمر صحفي عقب اجتماع طارئ لوزراء خارجية التكتل: “لقد قررنا تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة فتاكة بقيمة 450 مليون يورو، كما قررنا تخصيص 50 مليون يورو أخرى للأسلحة غير الفتاكة والوقود ومعدات الحماية”.
وكانت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس أعلنت اليوم الأحد أن دول مجموعة السبع، وافقت على مواصلة تسليم “الأسلحة الدفاعية” إلى أوكرانيا وتوسيع العقوبات ضد روسيا.
وكتبت على “تويتر”، عقب اجتماع وزراء خارجية المجموعة: “كنا واضحين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يفشل ويجب استعادة السيادة الأوكرانية”.
وأضافت: “اتفقنا على مواصلة تسليم الأسلحة والمعدات الدفاعية لأوكرانيا، وتشديد العقوبات لإضعاف الاقتصاد الروسي”.

على ساحة المعركة

في كل الصراعات خاصة بين الدول تعد الحرب النفسية من الأمور المهمة التي أولتها الدول والجيوش قديما وحديثا عناية خاصة نظرا لتأثيرها الكبير في حسم العديد من المعارك والحروب السياسية والعسكرية ويذكر لنا التاريخ أن الحرب النفسية استخدمت في عصور ما قبل الميلاد وتطور استخدامها بتطور الزمن والمجتمعات وأساليب الحروب والمعارك.
الحرب النفسية علم وفن يتطلب من القائمين على استخدامها امتلاك المهارة والكفاءة والحنكة في انتخاب الوقت والمكان والوسائل والوسط والظروف الملائمة لاستخدامها، ومتى ما استخدمت الحرب النفسية في الوقت والمكان الملائمين واختيرت الوسائل المناسبة لها كان تأثيرها كبيرا والعكس صحيح.
في زمننا الحاضر ومع تطور وسائل الإعلام والتواصل عبر الشبكة العنكبوتية شكل استخدام الأخبار المغلوطة والمعلومات المضللة وسيلة في الحرب في أوكرانيا، غير أن مدى تأثيرها يبقى محدودا إلى حد ما حتى الآن بالمقارنة مع ما تم جنيه باستخدامها في عملية غزو الولايات المتحدة للعراق سنة 2003 وحرب الناتو ضد ليبيا سنة 2011 رغم الهيمنة الغربية على وسائل الإعلام الأكثر انتشارا عالميا.
ويقدر محللون في الغرب أن عملية الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في 30 أغسطس 2021 يمكن أن تعتبر أكبر نكسة لآلة الدعاية الغربية وأدوات ومركبات الحروب النفسية.

تناقضات

مع بداية الهجوم الروسي يوم الخميس 24 فبراير 2002، تعاملت وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأمريكية بأسلوبين مختلفين مع الحدث وكذلك فعلت موسكو ولكن بشكل أقل حدة. فزيادة على تركيز الغربيين على توجيه كل أنواع التهم عن استهداف المدنيين ورغبة الكرملين في التوسع ترابيا، كان الحديث يجري تارة عن سقوط الجيش الروسي في الفخ وتكبد قواته خسائر فادحة ونجاح قوات أوكرانيا في صد هجمات الخصم، وفي وقت آخر كان التركيز على التفوق العسكري الروسي واحتمال سقوط العاصمة كييف مع الإشارة إلى أن العاصمة لم تسقط بالسرعة التي كان يأملها الرئيس بوتين.
البنتاغون الأمريكي أعلن في اليوم الثاني للهجوم الروسي أن جل الوحدات التي حشدتها موسكو أي 190 ألف جندي عبرت وتعبر الحدود، في اليوم الثالث أفاد البنتاغون أن نصف الحشد دخل المعركة ولكن في اليوم الرابع كانت تقديرات القيادة العسكرية الأمريكية أن ثلث الحشد فقط تدخل والباقي خارج حدود أوكرانيا.
يشير محللون غربيون إلى أن هذا الأسلوب لم يكن موفقا في عكس ما يستهدف به التقليل من قدرة الكرملين العسكرية، فالعالم لا يزال يذكر أن مرحلة الغزو للعراق بدأت في 19 مارس 2003 جوا وفي 20 مارس 2003 بريا، واستمرت أكثر من شهر بقليل، بما في ذلك 26 يوما من العمليات القتالية الكبرى، التي غزت فيها قوة مشتركة “حوالي 200 ألف” من القوات الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا وبولندا العراق. انتهت هذه المرحلة المبكرة من الحرب رسميا في 1 مايو 2003 عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش “نهاية العمليات القتالية الكبرى”.

روسيا وأوكرانيا

كتب جوناثان بيل مراسل شؤون الدفاع في هيئة الإذاعة البريطانية يوم 28 فبراير 2022:
من الصعوبة أن تدافع أوكرانيا عن نفسها؟ إن روسيا متفوقة بالسلاح والعتاد وكذلك الأعداد في جميع المجالات، بعد استثمارات كبيرة وتحديث في القوات المسلحة الروسية من قبل الرئيس بوتين.
يقول الدكتور جاك واتلينغ، من المعهد الملكي للخدمات المتحدة: “أعتقد أن الأوكرانيين في وضع صعب للغاية”. لقد عاد لتوه من أوكرانيا ويؤكد إن القادة العسكريين في البلاد يواجهون الآن بعض “الخيارات الصعبة للغاية”.
يقدر المسئولون الغربيون أن روسيا لديها ما يصل إلى 190 ألف جندي على الحدود الأوكرانية – أكثر بكثير من الجيش النظامي الأوكراني بأكمله البالغ 125600 جندي.
القوات الروسية تقوم بالفعل بعبور الحدود من اتجاهات متعددة.
سوف تجد أوكرانيا صعوبة في الدفاع عن حدودها التي تمتد آلاف الأميال، من بيلاروسيا في الشمال وصولا إلى مشارف شبه جزيرة القرم في الجنوب. إذا كان يمكنك تخيل خريطة أوكرانيا كوجه ساعة، يمكن للروس شن هجمات من الساعة 10 صباحا حتى الساعة 7 صباحا.على أغلب الأراضي الأوكرانية.
يذكر بن باري، من المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية وعميد سابق في الجيش البريطاني، إنه “وضع صعب للغاية بالنسبة للمدافع”.
إضافة إلى ذلك، تتعرض أوكرانيا للتهديد من اتجاهات متعددة وقواتها “منتشرة بشكل ضئيل للغاية”، كما يقول جاك واتلينغ من المعهد الملكي للخدمات المتحدة.
لكن التفاوت الحقيقي بين القوات الروسية والأوكرانية في السماء.
يشير واتلينغ إن أوكرانيا لديها 105 طائرات مقاتلة على الحدود مقارنة بـ 300 طائرة روسية موجودة في منطقة الحدود.
كما تمنح أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة، مثل صواريخ S-400، حصانة مميزة للأراضي الروسية القريبة من ساحة القتال. في المقابل تمتلك أوكرانيا دفاعات جوية أقدم وأكثر محدودية.
يعطي واتلينغ مثالا على قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها في اتجاهات متعددة. لكنه يضيف أنها قادرة على القيام بذلك فقط بسبب تفوقها الجوي. هذا شيء لا تملكه أوكرانيا ببساطة.
طورت موسكو نسختها الخاصة من إستراتيجية “الصدمة والترويع” بمدفعية جوية وصاروخية وصواريخ بعيدة المدى بشكل متكامل في الجو، كما يقول بن باري.
يسمح ذلك للروس بمهاجمة مراكز القيادة والسيطرة الأوكرانية، ومستودعات الذخيرة والقوات الجوية والدفاعات الجوية من على مسافات بعيدة.
ويبدو أن ذلك قد حدث بالفعل، بهجمات بصواريخ كروز على أهداف بالقرب من العاصمة كييف.
ويضيف واتلينغ إن الروس لديهم ترسانة كبيرة جدا من الأسلحة والقدرات الحديثة التي ليس لدى أوكرانيا مضادات لها، مثل أنظمة صواريخ إسكندر كروز والصواريخ الباليستية.
تلقت أوكرانيا مؤخرا إمدادات من “الأسلحة الفتاكة” من الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن معظمها عبارة عن صواريخ جو-جو قصيرة المدى وأسلحة مضادة للدبابات.
باختصار، مع التفوق الجوي الروسي والأسلحة بعيدة المدى، فإن الخطر على القوات الأوكرانية هو أنه سيتم تحديد مواقعها بسهولة وتصفيتها.
ويعتقد واتلينغ أنه يمكن منع القوات الأوكرانية من القدرة على المناورة، وإعادة التموضع لمواجهة التقدم الروسي من أي اتجاه آخر.
ترابط العديد من أفضل الوحدات المدربة والمجهزة في أوكرانيا في شرق البلاد – بالقرب من خط السيطرة في لوغانسك ودونيتسك – حيث يدور القتال هناك منذ عام 2014.
وأفاد مسؤولون استخباراتيون غربيون، لبي بي سي، إن هناك مخاوف حقيقية من أن تحاول روسيا تطويق تلك القوات.
إذا دخل القتال إلى البلدات والمدن الأوكرانية، فقد يمنح ذلك القوات الأوكرانية فرصة.
يمكن للمدافع المجهز جيدا أن يجعل القتال في المناطق الحضرية صعبا وداميا علي أي مهاجم – كما اتضح في ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية ومؤخرا في الموصل في العراق.
بالنسبة لمحللين عسكريين في العاصمة الألمانية برلين فإن الجيش الروسي تجنب حتى الآن وبناء على مخطط موضوع منذ مدة دخول المدن الكبرى في أوكرانيا حتى لا يتورط في حرب شوارع مكلفة له وللمدنيين، وهو أي الجيش يدرك أن السيطرة على مدينة كبيرة تعني تحمل أعباء ضخمة كالحفاظ على الأمن وتوفير المؤن والخدمات الأساسية ولهذا فهو يكتفي بعزل التجمعات السكانية الكبرى ومنع تحولها إلى مواقع هجومية ضده. هذا الأمر لا ينطبق على التجمعات السكانية التي يشكل المواطنون من أصل روسي غالبية قاطنيها مع العلم أنه يقدر عدد السكان من أصل روسي مباشر في أوكرانيا بين 12 و 14 مليون نسمة بين تعداد كلي يبلغ 44 مليونا.

الحرب الاقتصادية

يركز التحالف الغربي في مواجهته مع موسكو على فعالية العقوبات الاقتصادية التي يقدر أنه ستلحق ضررا كبيرا بروسيا وستدفع سكانها إلى الثورة وإبعاد بوتين عن الحكم. الاعتماد الغربي محوره نظام سويفت الذي يسهل العمليات المالية عبر العالم وتتحكم فيه الدول الغربية.
ستفقد الشركات الروسية الدخول للمعاملات السلسة واللحظية التي يوفرها نظام سويفت. وستتأثر المدفوعات الخاصة بمنتجات روسيا المهمة في قطاع الطاقة والزراعة سلبيا بدرجات متفاوتة حسب الطرف المتعامل معه.
ومن المرجح أن تضطر البنوك إلى التعامل مباشرة مع بعضها البعض، مما يضيف التأخير والتكاليف الإضافية، ويؤدي في النهاية إلى عرقلة بعض الإيرادات عن الحكومة الروسية. ولكنه من الواجب الاشارة هنا إلى أن الكثير من الصفقات التي تعقدها موسكو مع دول أخرى وخاصة في مجال التسلح أو تجارة المعدات الإكترونية ذات الاستخدام المزدوج لا يتم التعامل بشأن مدفوعاتها عبر الشبكات المالية العادية أي سويفت وغيرها وذلك للحفاظ على السرية وأشياء أخرى.
وكانت روسيا مهددة بالخروج السريع من قبل، في عام 2014 عندما ضمت شبه جزيرة القرم. وقالت روسيا إن الخطوة ستكون بمثابة إعلان حرب.
ولم يواصل الحلفاء الغربيون المضي قدما، لكن التهديد دفع روسيا إلى تطوير نظام نقل خاص بها – حديث جدا -عبر الحدود.
ومع ذلك، لا يستخدمه حاليا سوى عدد قليل من الدول الأجنبية، ولكن مع توسيع الغرب لمجهود الحصار الاقتصادي على روسيا ومخاوف الكثير من الدول من الوقوع يوما تحت طائلة العقوبات الأمريكية الغربية سيزيد عدد المتعاملين مع النظام الروسي الذي يتكامل تدريجيا مع نظام صيني يستهدف منذ سنوات تغيير قواعد المعاملات المالية الدولية التي تتحكم فيها واشنطن والدول الغربية الأوروبية.
بعض المصادر خاصة في العاصمة الألمانية برلين أشارت إلى أن سوريا إيران وفنزويلا وكوبا وبعض دول أمريكا اللاتينية وكذلك الأفريقية نجحت في تجاوز العقوبات الأمريكية والغربية باستخدام المسالك التي تتيحها كل من بكين وموسكو.
وللتحضير لمثل هذه العقوبة، أنشأت الحكومة الروسية نظام بطاقات الدفع الوطني المعروف باسم “مير”، وذلك للتعامل مع المدفوعات عبر البطاقات.

الغرب منقسم حول سويفت

إن إزالة روسيا من هذا النظام من شأنه أن يضر بالشركات التي تزود روسيا بالسلع وتشتري منها، ولا سيما ألمانيا فروسيا تعد المزود الرئيسي للنفط والغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي، ولن يكون العثور على إمدادات بديلة أمرا سهلا.
ومع ارتفاع أسعار الطاقة بالفعل، فإن المزيد من الاضطراب هو أمر تريد العديد من الحكومات تجنبه. وسيتعين على الشركات الدائنة لروسيا إيجاد طرق بديلة لتحصيل الأموال.
ويقول بعض الخبراء إن مخاطر حدوث فوضى مصرفية دولية كبيرة للغاية.
وكان أليكسي كودرين، وزير المالية الروسي السابق، قد قال إن الانقطاع عن نظام سويفت قد يؤدي إلى تقليص الاقتصاد الروسي بنسبة خمسة في المئة.
لكن هناك شكوكاً حول التأثير الدائم على الاقتصاد الروسي، فقد توجه البنوك الروسية المدفوعات عبر دول لم تفرض عقوبات مثل الصين، التي لديها نظام مدفوعات خاص بها.
وهناك بعض الضغط من المشرعين الأمريكيين لفرض حظر، لكن الرئيس بايدن يقول إنه يفضل عقوبات أخرى، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تضرر اقتصادياته ودول أخرى. وقد حذر عدد من خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة نفسها من أن دفع الكرملين نحو استخدام بدائل لسويفت ولحاق دول أخرى وخاصة الصين بها سيفرض تحديا هائلا أمام إدارة البيت الأبيض وقد يصل الأمر إلى تهديد مركز الدولار على الصعيد الاقتصادي الدولي.
وسيظل قرار وقف وصول روسيا الكامل إلى نظام سويفت وليس فقط بعض البنوك بحاجة إلى دعم من الحكومات الأوروبية، التي يتردد الكثير منها بسبب احتمال إلحاق الضرر باقتصادها.

الأنظمة البديلة

يفيد تقرير صدر في العاصمة البريطانية لندن يوم 27 فبراير 2022 حول البدائل لنظام سويفت:
إنَ إنشاء نظام شفاف، ومنخفض الرسوم، وسريع للتحويلات الدولية، فضلا عن أنه قائم على “بلوكتشين”، أو على غرار “فيزا دايركت”، أو “ماستركارد سيند”- وهما يعتمدان على نفس الأسس التي يعمل بها “سويفت”- سيكون مشروعا رائعا يمكن تنفيذه من قبل مجموعة من الدول النامية، أو ربما مؤسسة مثل بنك التنمية الجديد، الذي أسسته البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في عام 2015، وقد يساعد البلدان الفقيرة على خفض تكاليف التحويلات المالية، حيث تجني البنوك الحالية مصاريف ضخمة يعتبرها عدد من الاقتصاديين سرقة كاملة الأركان.
ويمكن أن تمنح تجارة الموارد والسلع الصناعية للعالم النامي مجتمع روسيا والصين النفوذ اللازم لتبني النظام الجديد على نطاق أوسع، وجعله أكثر مقاومة للعقوبات الأمريكية المحتملة.
وبدلا من ذلك، يبحث أكبر خصمين جيوسياسيين لأمريكا إمكانية ربط أنظمتهما الشبيهة بالـ “سويفت”، وهي لعبة لن تساعدهما كثيرا إذا طردت روسيا من “سويفت”، حسبما يواصل السياسيون الأمريكيون التهديد، ومن الصعب تخيل اصطفاف مشتري الهيدروكربونات الروسية للانضمام إلى “CIPS” أو “SPFS” للدفع بالروبل.
ربما تكون هناك حاجة إلى تحد أكثر إلحاحا حتى يظهر البديل الحقيقي الذي يدمر “سويفت”، وفي حال استبعدت روسيا حقا من “سويفت”، وأجبرت على التوصل إلى حل عملي بسرعة، فقد تحصل على مساعدة حتى من بعض الدول الغربية، وليس من الصين فقط.
وفي ظل صادرات السلع التي هي بلغت 341 مليار دولار عام 2021، حوالي 55 في المئة منها مقومة بالدولار الأمريكي، و29 في المئة باليورو، وفقاً لثلاثة أرباع عام 2021، والواردات بقيمة 219 مليار دولار، فإنَ طرد روسيا سيمثل خسارة فادحة للعديد من الشركاء التجاريين، وفي مقدمتهم الأوروبيين.

نزال من أجل نظام جديد

جاء في تحليل نشره موقع مودرن دبلوماسي الأمريكي يوم 24 فبراير:
الأزمة في أوكرانيا أكبر بكثير من مجرد مسألة تتعلق بأمن دولة ذات سيادة، وإن المعركة في تلك الدولة الواقعة في شرق أوروبا هي نزال من أجل النظام العالمي الجديد.
ووفقا لصانعي السياسات والمحللين الغربيين، فإن الرئيس الروسي وهو يخوض تلك المعركة، إنما ينبري لمنع وقوع ” أسوأ مخاوفه”.
ويرى جيمس دورسي كبير الباحثين في كلية “إس راجاراتنام” للدراسات الدولية التابعة لجامعة “نانيانغ” التكنولوجية في سنغافورة، أن بوتين ليس مثل الرئيس الصيني شي جين بينغ. فالزعيم الروسي “يسعى إلى الإطاحة بالنظام العالمي الحالي، على الأقل في ما يتعلق بالبنية الأمنية لأوروبا”.
ويضيف دورسي، أن شي جين بينغ -على العكس من بوتين- يفضل أن يضمن مكانة لبلاده في النظام العالمي القائم.
وذكر إن شي جين بينغ يطمس معالم الخطوط الفاصلة بين المحافظة على النظام العالمي القائم وبين تغييره بشكل جذري وخطير. ولكن القاسم المشترك بين الرئيسين الروسي والصيني أنهما يفكران من منظور حضاري وليس من منظور وطني.
ويشاركهما النظرة عدد كبير من قادة العالم الآخرين، أمثال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب.
وبتلك النظرة، فإن أولئك الزعماء يحددون تخوم دولهم وفق رؤية حضارية وليس على أسس قانونية متعارف عليها دوليا. وهذا ما كان يعنيه بوتين عندما أعلن اعتراف بلاده باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا، دونيتسك ولوغانسك، جمهوريتين.
ذلك هو الأساس الذي بنى عليه بوتين طرحه القائم على أن كل الدول التي خرجت من رحم الاتحاد السوفياتي عقب انهياره -ما عدا روسيا- لم تكن دولا حقيقية، وأن أوكرانيا لم يكن لديها صفة دولة فعلية. ولعل هذا هو نفس منطق شي جين بينغ في مطالباته ببحر جنوب الصين.
إن مفهوم بوتين لأهمية أوكرانيا المحورية في ضمان مكان لها على الساحة الدولية راسخ منذ أمد طويل في القومية الروسية، ويرى الكاتب أن هذا المفهوم أقر به مسئولون أمريكيون كبار قبل عقود.
ويستشهد في ذلك بتصريح كان قد أطلقه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي في تسعينيات القرن الماضي، جاء فيه أنه “من دون أوكرانيا لن تعود روسيا إمبراطورية”.

عقيدة بوتين

في الغرب تطرح تساؤلات عن العقيدة السياسية والعسكرية التي تقف وراء تحركات الرئيس الروسي بوتين. مجلة فورين افيرز الأمريكية قدمت التحليل التالي حسبما صاغته “أنجيلا ستنت”، الزميلة الأولى غير المقيمة بمعهد بروكينغز، والمسؤولة السابقة في المخابرات الوطنية الأمريكية لشؤون روسيا وأوراسيا.
تعد الحرب التي بدأت للتو بين روسيا وأوكرانيا محصلة 30 عاما من الأخذ والرد. والأمر أبعد من أوكرانيا نفسها واحتمالية انضمامها إلى الناتو، فهي تدور حول مستقبل النظام الأوروبي الذي تشكل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث صممت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تسعينيات القرن الماضي هيكل الأمن الأوروبي دون أن يكون لروسيا دور أو التزام واضح. ومنذ تولى “فلاديمير بوتين” رئاسة روسيا وبلاده تتحدى هذا النظام، فقد اشتكى الرجل مرارا من تجاهل النظام العالمي لمخاوف الأمن الروسي، كما طالب باعتراف الغرب بحق موسكو في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفيتي السابق، وشن توغلات عسكرية محدودة في الدول المجاورة له وذلك للحيلولة دون تغيير وجهة تلك الدول بالكامل نحو الغرب.
يخطو بوتين بهذا النهج الآن خطوة أخرى إلى الأمام، حيث يقدم على غزو أوكرانيا غزوا أشمل بكثير من مجرد ضم القرم والتدخل في إقليم دونباس الذي نفذته روسيا عام 2014، وهو غزو سيقوض النظام الإقليمي الحالي، وربما يفرض حضور روسيا من جديد نحو ما يعتبره بوتين “المكانة التي تستحقها” بلاده في القارة الأوروبية والمشهد العالمي. ويرى بوتين أن التوقيت موات الآن للتحرك، إذ إن الولايات المتحدة في نظره ضعيفة ومنقسمة وأقل قدرة على أن تسلك سياسة خارجية متماسكة، كما أن العقدين اللذين قضاهما في منصبه جعلاه يستخف بمسألة القوة الباقية للولايات المتحدة. ويقف بوتين اليوم في مواجهة خامس رئيس أمريكي منذ تولِّيه رئاسة روسيا، وقد بات يرى واشنطن بعد كل تلك السنين محاورا غير موثوق به. أما الحكومة الألمانية الجديدة فلا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في المشهد السياسي، إذ تركز أوروبا في المجمل على تحدياتها الداخلية الآن، فيما تملك روسيا سطوة معتبرة على القارة الأوروبية بفضل سوق الطاقة المحكَم.

مجموعة مبادئ

يتصرف بوتين مدفوعا بمجموعة مبادئ متداخلة لسياسة بلاده الخارجية تشي لنا بأن موسكو ستكون طرفا مثيرا للاضطرابات في السنوات المقبلة، ولنسمها “عقيدة بوتين”. ويقع في القلب من هذه العقيدة إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة. وهي ترتبط في الأخير بهدف بوتين الأسمى: عكس مآلات انهيار الاتحاد السوفيتي، ونقض عرى التحالف الأطلسي، والتفاوض من جديد على التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة.
تملك روسيا، في نظر بوتين، الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة. وبعد أن مرت ما يعتبرها بوتين إهانة التسعينيات، حينما أُجبرت روسيا وهي في أضعف حالاتها على القبول بأجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يبدو أن بوتين قد حقق مراده اليوم. فقد نجحت روسيا في إعادة بناء جيشها بعد حرب عام 2008 مع جورجيا، حتى أصبحت الآن القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، مع القدرة على مد أذرع قوتها عالميا، كما أن قدرة موسكو على تهديد جيرانها تتيح لها أن تجبر الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها، وهو ما ثبتت صحته بوضوح في الأسابيع الماضية. ورغم طرد موسكو من مجموعة الثماني بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فإن حق النقض الذي تتمتع به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى دورها بوصفها قوة عظمى جغرافيا ونوويا وفي مجال الطاقة، يضمنان لها التزام بقية دول العالم بأخذ رأيها في الاعتبار.
يرى بوتين أنه يحق لروسيا تماما استخدام القوة إذا ما اعتقدت أن أمنها مهدد، إذ تعد مصالح روسيا مشروعة مثلها مثل مصالح الغرب، ويؤكد بوتين أن الولايات المتحدة وأوروبا تجاهلتا مصالح بلاده في هذا الصدد. وقد رفضت الولايات المتحدة وأوروبا سردية المظلومية تلك الصادرة عن الكرملين، التي ترتكز على تفكك الاتحاد السوفيتي، لا سيما انفصال أوكرانيا عن روسيا. وحينما وصف بوتين الانهيار السوفيتي بأنه “الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين”، فإنه كان يتباكى على 25 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وخاصة حقيقة أن 12 مليون روسي وجدوا أنفسهم في الدولة الأوكرانية الوليدة. وبحسب ما كتبه بوتين في مقال نشر صيف سنة2021 بعنوان “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، فقد “وجد الناس أنفسهم عام 1991 خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي”، وقد وزع هذا المقال على الجنود الروس مؤخرا.
هذه السردية حول هزيمة روسيا على يد الغرب مرتبطة بهاجس خاص عند بوتين: فكرة أن الناتو، الذي لم يكتف بأن يضم في عضويته دول ما بعد الاتحاد السوفيتي وأن يقدم لها المعونة، قد يهدد روسيا نفسها. ويصر الكرملين على أن هذا الهاجس يستند إلى مخاوف حقيقية، فقد تعرضت روسيا مرارا للغزو على يد الغرب، إذ غزتها في القرن العشرين قوات التحالف المناهضة للبلشفية، التي ضمت جنودا من الولايات المتحدة، وذلك خلال حربها الأهلية بين عامي 1917-1922، وغزتها ألمانيا مرتين، ما أدى إلى مقتل 26 مليون مواطن سوفيتي في الحرب العالمية الثانية. وقد ربط بوتين صراحة بين هذا التاريخ ومخاوف روسيا الحالية بشأن توسع الناتو قرب حدودها، وما نتج عن ذلك من مطالب لضمان أمنها.

شراكات تبادلية

هذا ولا تسعى روسيا إلى عقد التحالفات بالمعنى الغربي للكلمة، بل تبحث عن شراكات تبادلية وأداتية مفيدة لها ولشركائها معا، مثل شراكتها الصين، بحيث لا تحد من حرية تصرف روسيا أو تصدر حكما على شؤونها السياسية الداخلية.
تعد مثل هذه الشراكات مكونا من مكونات عقيدة بوتين، ويقدم الرئيس بلاده بوصفها داعما للوضع القائم، ومدافعا عن القيم المحافظة، ولاعبا عالميا يحترم القادة الراسخين في مواقعهم. وكما أظهرت الأحداث الأخيرة في كل من بيلاروسيا وكازاخستان، فإن روسيا هي القوة التي يلجأ إليها الحكام المحاصرون طلبا للدعم، أما الغرب، بحسب الكرملين، فيدعم الفوضى وتغيير النظم السياسية،
.
لا يقتصر تدخل موسكو المحافظ على نطاق ما تعتبره منطقة نفوذها، إذ يعتقد بوتين أن مصالح روسيا ستتحقق على أفضل وجه بتفكك التحالف الأطلسي. ومن ثم يدعم بوتين الجماعات المشككة في الاتحاد الأوروبي والجماعات المناهضة لأمريكا في القارة الأوروبية، وعمل في العموم على توسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. وتتمثل أحد أكبر أهداف بوتين في دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أوروبا, وتجدر الإشارة هنا إلى ازدراء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب لحلف الناتو، وتجاهله بعضا من كبار حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، بالإضافة إلى حديثه علنا عن انسحاب الولايات المتحدة من التحالف. أما إدارة الرئيس جو بايدن فتسعى بدأب إلى إصلاح التحالف، وقد عززت بالفعل أزمة بوتين حول أوكرانيا من وحدة التحالف. بيد أن هناك ما يكفي من الشكوك في شتى أنحاء أوروبا حول استمرار التزام الولايات المتحدة بعد عام 2024، وقد حققت روسيا بعض النجاح في تعزيز هذه الشكوك.

سوريا الأمل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.